" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
لماذا الصوم هو انقطاع عن أكل الحيوان ومشتقّاته؟

هذه أسئلة طرحتها عليّ فرقة جامعية حركية، بالغة الحيوية، في فرع طرابلس – الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، أطلقت على نفسها هذا الاسم المعبّر، وهو “فرقة الإنسان الجديد”. وقد أجبتها عليها في اجتماعين عقدتهما الفرقة، الأول في 22/4/1989، والثاني في 6/5/1989. وقد سجّل كلماتي أحد أعضاء الفرقة، خريستو المرّ (وهو حاليًا، الأستاذ الجامعّي الدكتور خريستو المرّ) ثم راجعت أنا المذكّرات الخطيّة التي أتيح له أن يسجّلها فكان هذا النص الذي أنقله هنا مع تعديل وتنقيح.
11/2/2006

السؤال الأول: حول الصيام
نص السؤال: لماذا الصوم هو انقطاع عن أكل الحيوان ومشتقّاته؟ كيف نفهم قضيّة “السلام مع الحيوان” حيث تُعطى كسبب لعدم أكل اللحم؟ وكيف نفهم عندها عدم أكل مشتقّات الحيوان، كالحليب والبيض؟

الإجابة:
الموضوع متشعّب وواسع. قلب القضية هو هذا: علاقتنا بالحياة كثيرًا ما تكون علاقة افتراسية. علاقة من هذا النوع هي شريعة الحياة الحيوانية، ونحن، من حيث انتمائنا إلى العالم الحيواني، لا نشذّ عن هذه القاعدة، فنفترس، لا النبات وحسب، بل الحيوانات الأضعف. لا أحكم على هذه العلاقة الافتراسية أخلاقيًا، فقد تكون ملازمة للحياة في دنيانا الراهنة، مع أن هناك جماعات من النباتيين يمتنعون عن أكل اللحم لا بل يذهب بعضهم حتى إلى الامتناع عن المشتقات الحيوانية، ولكني أتجاوز الحكم الأخلاقي البحت، فأُلاحظ أن علاقتنا بالحيوان وبالتالي بالحياة- لأن الحيوان يشكل الشكل الأكثر تطورًا للحياة – إنما هي علاقة افتراسية. فإذا تأملنا في هذا الأمر من منطلق روحيّ، نجد أننا، إذا لم نراجع، إذا لم ننقد هذا النمط من العلاقة، ولو اعتبرناها مشروعة على الصعيد الأخلاقي، إذا لم نراجع هذا الموقف الافتراسي من حين إلى حين، نتعرض للوقوع في انحراف روحيّ، ألا وهو التصوّر بأن الحياة إنما وُجدت لأجلنا، وبالتالي تصوّر أنفسنا على أننا محور الكون، محور الوجود، لأن الحياة، وهي أسمى ما في الوجود، إنما هي وُجدت، كما نعتقد، لخدمة أغراضنا. هكذا، وإن لم نذهب إلى حد القول بأننا محور الكون، نتصرف بالفعل كما لو كنا كذلك. فإذا انقدنا إلى هذا الانحراف، عن وعي أو غير وعي، لا نعود نعتبر أنفسنا مخلوقات في واقع الأمر، ولو استرسلنا نظريًا في إعلان ذلك – فقد يكتب المرء مجلدات عن الله الخالق دون أن يحيا كيانيًا مخلوقيّته.

إن الامتناع عن افتراس الحيوان يسمح لنا بأن نعيد النظر في تلك النزعة الافتراسية التي قد تبدو لنا بديهية. وبالتالي فإنه يتيح لنا إعادة النظر في اعتقادنا الضمني بأننا محور الكون. إعادة النظر هذه تأتي عند ذاك لا فكريّة وحسب بل جسديّة أيضًا، لأن مواقف الإنسان- ذلك الكائن المتجسد- لا تكتمل ولا تكتسب كل أصالتها إلا إذا شارك الجسد فيها. فرادة الصوم أنه يجعلنا نعيش، بالجسد وليس فقط بالذهن، أن الحياة لم توجد من أجلنا، بل من أجل ذاتها، وأنها، في آخر المطاف، ليست لنا إنما هي لله، كما أننا لله نحن أيضًا.

وإذا كان الله “محبة”، كما يعلن الكتاب، فالحياة تكون إذًا قد وُجدت من أجل الحبّ، والكلمة الأخيرة فيها ينبغي، بالتالي، أن تكون للحبّ، أي أن يغيب عنها العنف والافتراس والذعر والموت. نحن، بالصوم، نرسم صورة عن هذه الحياة المتحرّرة، نستبق هذا المصير ولو كان في لحظة مباركة من حياتنا تكون عربونًا لما سوف يأتي. نستبق ذلك الوضع الفردوسي الذي رُسم في سفر التكوين وكأنه كان في البدء حتى يُعلَن، من خلال ذلك، أنه إنما هو الأصل، أي أنه يعبّر عما شاءَه الله في الأساس، عما جعله قاعدة للخلق، ولو بقيت هذه القاعدة مؤجّلة التحقيق؛ عن النموذج الذي وُضع ليسير العالم إليه والذي سوف يتحقق في نهاية الأزمنة، عندما سيكون الله “كلاًّ في الكلّ”، على حدّ تعبير الرسول بولس، ويصبح العالم عالم الله بكل معنى الكلمة. آنذاك لن تتلاشى الدنيا ولكنها ستتجلى، أي ستكتسي بهاء ليس بوسعنا أن نتصوّره لأنه يتعدى كلّ خبراتنا وتخيلاتنا، إذ أن “ما لم تره عين ولم تسمع به أذُن ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبونه” كما أعلن الرسول نفسه. دنيانا لن تزول ولكن ستصبح دنيا الله، ولذا سوف يسود الحبّ فيها ويزول الموت ويزول الذعر ويزول الافتراس. هذا ما رسمه إشعيا في هذا المقطع الرائع من نبؤته:

“فيسكن الذئب مع الحمل،
ويربض النمر مع الجدي،
ويرعى العجل والشبل معًا،
وصبي صغير يسوقهما…”
(إشعيا 11: 6)

هذه صورة عن دنيا الله التي ننتظرها برجائنا. ونحن، بالتالي، في الصوم، بانقطاعنا عن الافتراسيّة، نكون مدشّنين للعالم الآتي، الذي سوف يكون. نكون إذًا قائمين بخطوة نبويّة، لأن النبؤة ترسم في العالم الراهن صورة الملكوت الآتي (لذا فالنضال الاجتماعي في سبيل تغيير العالم نحو الأفضل هو عمل نبوي). هكذا، من خلال الصوم، نرسم في عالمنا الحاضر معالم العالم الآتي.

ولكن لنتجاوز معطيات العقل الواعي التي اقتصرنا عليها حتى الآن لندخل عالم اللاوعي، عالم العقل الباطن الذي يعطيه علم النفس الحديث، انطلاقًا من اكتشافات فرويد، أهمية بالغة. من خلال مكنونات العقل الباطن وديناميّته الخفيّة، نحن، شئنا أو أبينا، نتعامل مع الصوم، كما نتعاطى مع سائر أمور الحياة. في آخر المطاف، هناك دائمًا خطابان يتواجدان ويتفاعلان في حياتنا وسلوكنا، خطاب واعٍ وآخر غير واعٍ يتخلّله. وقد يكون للخطاب اللاواعي، “للخطاب الآخر”، أثر فينا أكبر من أثر الخطاب الواعي.

فلنستجوب العقل الباطن لنرى كيف يحسّ هو، كيف يعيش هو، الصوم. هنا لا بدّ من الرجوع إلى خبرة يمكن اعتبارها مؤسِّسة لكياننا النفسي كلّه، لحياتنا وسلوكنا وشخصيتنا. إنها خبرة الرضاعة. لا يمكننا أن نفهم الصوم فهمًا كاملاً إلا إذا عدنا إلى تلك المرحلة، التي سمّاها فرويد “المرحلة الفمية” stade oral؛ التي يبدأ كل إنسان حياته بها، وتترك بصماتها على مجمل شخصيته. طبيعي أن يرتبط الصوم لا شعوريًا بالمرحلة الفمية ويندرج في سياقها. فالروحيّ فينا لا ينطلق من لا شيء، إنه يرتكز على أسس يحوّلها ويسمو بها ولكن ليس بمقدوره أن يقفز فوقها. هذا بعض ما نفهمه من عبارة الرسول بولس:” لم يظهر الروحي أولاً، بل البشريّ، وظهر الروحيّ بعده” (1كورنثوس 15: 46).

فكيف يتعامل الرضيع مع الرضاعة ومع الأم المرضعة؟
عندما يرضع الطفل ثدي الأم، لا يتناول مجرد حليب كما قد يتراءَى لنا. صحيح أنه، من زاوية بيولوجية بحتة، يشرب عند ذاك حليبًا فقط، ولكن الأمر يتعدى ذلك بكثير إذا نظرنا إلى مجمل خبرة الرضيع (التي نستدلّ عليها من الآثار التي تتركها في العقل الباطن والتي تطفو على السطح في سياق تحليل نفسيّ لاحق مثلاً). الواقع أنه، على هذا الصعيد، لا يقف عند امتصاص الحليب بل يتناول معه وعبره الأمّ بمجملها، يدخلها intériorise أي يدخلنها إلى داخله، أو “يجتافها” introjecte، أي يدخلها إلى جوفه. الأم كلها تتجسد في الثدي، تصبح كلّها ثديًا بالنسبة إلى شعوره، والطفل يلتهم الأمّ كلّها في مرحلة الرضاعة لأنه بأمسّ الحاجة إليها برمّتها وليس فقط إلى حليبها المغذّي. وقد دلّت أبحاث الدكتور رينه شبيتز Spitz، المحلّل النفسي الأميركي، في الخمسينات من القرن العشرين، أن الرضيع، لو نال رعاية كاملة من حيث الغذاء وغيره، ولكنه حُرم عطف الأم أو اهتمام بديلة تقوم بدورها، يتدهور وضعه، لا على الصعيد النفسي وحسب، بل وحتى على الصعيد الجسدي.

الملتهَم إذًا إنما هو الأمّ بكل ما تمثّله من حماية ودفء وأمان. كل ذلك يمتصّه الطفل مع الحليب، ولذا تحدّث شكسبير عن “حليب الحنان البشريّ”. ولكن، في تلك العلاقة البدائية، الأمّ ليست موجودة بعد، بالنسبة إلى الطفل، كشخص قائم بذاته، بل هي، بالنسبة إليه، مجرد ثدي، مجرد طعام، بما يشمله هذا الطعام من عناصر جسدية ونفسية، غذائية وعاطفية. إنما الأمّ مغيَّبة من حيث هي وجود قائم بذاته، إذ أن المبّرر الوحيد لوجودها، بالنسبة إلى ما يعيشه الطفل في تلك المرحلة، إنما هو إشباع حاجاته العارمة. يتعامل معها وكأنها مجرد وظيفة لا بدّ منها لهذا الإشباع، بعبارة أخرى أنه يذيبها غريزيًا في ذاته التي لا تزال في تلك الحقبة مندمجة بذاتها كما كان جسداهما مندمجين قبل ولادته.

هذا بالنسبة للرضيع في بداية عهده. ولكنه، شيئًا فشيئًا يكتشف الأمّ كشخص متمايز عنه من خلال التعامل الذي يجري بينهما. فهي تلاطفه وتداعبه وتتحدث إليه برقة وهو يجيبها بالمناغاة، وعبر حوار الحنان هذا يتعلم تدريجيًا اللغة التي تسمى بحقّ لهذا السبب “اللغة الأمّ”. منذ البدء، تشخص عينا الطفل إلى الأم فيما هو يرضع، وقد يتوقف من الرضاعة إذا حوّلت وجهها عنه. وبسبب ما يحمله هذا الوجه من حضور ذات دلالة، فإنه سرعان ما يبرز، في مجال الطفل البصريّ، كشكل متميّز عن سائر الأشكال المحيطة، فيتعاطى معه، منذ الشهر الثالث، إذا رآه يبتسم أو يتحرك، بإبتسامة تحيّي مكانته الفائقة. ولكن هذه الإبتسامة تنسحب في البدء على كل الوجوه، يجمعها كلها أنها لا تزال، للوهلة الأولى، إشارات لإشباع مرغوب. ويبقى على الطفل أن يتعلم تدريجيًا فرادة الأمّ، على أنها كائن شخصي لا يضاهيه آخر، فيتمّ له ذلك في شهره السادس ثم يتوطّد في شهره الثامن، حيث يبدو الطفل قادرًا على التمييز الواضح بين الأم والغريب. فيرتاح إليها ويفزع منه (نقول بالعامية إنه “يستغرب”) إذا صادف أن واجهه بمنأى عنها. وفي الوقت الذي يكون فيه الطفل قد توصّل إلى اكتشاف فرادة أمه كشخص متمايز عن حاجاته وليس كمجرد إشارة إلى تلبية تلك الحاجات، قابلة للاستبدال بأية إشارة أخرى مماثلة، يكون قد سار بآن معًا، وبالتلازم بين المسارين، شوطًا كبيرًا نحو اكتشاف ذاته كشخص متمايز هو أيضًا بالمقابل، قابل للدخول في علاقة مع ذات متمايزة أخرى، في اتصال لا يلغي الفارق بينهما.

يأتي الفطام إذ ذاك فيشكّل محطّة حاسمة في إحقاق هذا التمايز. ذلك أن الرضيع لا يحياه كمجرد انقطاع عن حليب الأمّ، بل كانسلاخ عن الأم نفسها التي كان يتلقّاها عبر هذا الحليب، لذلك سمته إحدى القبائل البدائية “فقدان الأمّ”. ولكن الطفل الذي بدأ يكتشف استقلال الأم عنه واستقلاله عنها، كما رأينا، لا يشعر أنه يفقدها تمامًا، بالرغم من معاناته. ذلك أنه يستطيع (شرط أن يتمّ الفطام تدريجيًا وأن يرافقه حضور عاطفيّ مكثَّف للأمّ) أن يستعيض عن الأم – الطعام بالأمّ – الشخص، وأن ينتقل بالتالي من علاقة بدائية التهاميّة يغيّب الأم بموجبها فيه وفي حاجاته (ويذوب هو فيها بالمقابل) إلى علاقة متطوّرة تصل بين ذات وذات ويتلازم فيها التمايز والتبادل.

هذه الخبرات الحميمة الأولى التي تطبع الشخصية في جذورها وتترك فيها بصماتها، تشكّل، في اللاوعي، الخلفية التي تندرج في سياقها وتتلوّن بألوانها وترجّع أصداءَها، الخبرات اللاحقة التي تصادف الإنسان على مدى عمره. من هنا أن الصوم يرتبط لا شعوريًا بالفطام ويعاش على خلفيته النفسية. ذلك أن الرضيع الذي كنّاه في وقت من الأوقات لا يزال حيًا فينا من حيث لا ندري. طبعًا تجاوزنا بالسنّ والعقل والشعور مرحلة الطفل الرضيع ولكن شيئًا من مقوماته لا يزال قابعًا في عتمة أعماق كياننا. وقد يتحكّم بنا نهجه من حيث لا نعلم، فنميل إلى التصرّف حيال الحياة والآخرين لا بل حيال الله نفسه، كأنّ لا مبرر لوجودهم سوى إشباع حاجاتنا، وبالتالي ننزع إلى تغييب الحياة والآخرين والله وراء حاجاتنا.

قد نعتقد أن هذا الاحتمال غير وارد لأننا “أرثوذكسيون”، أي مستقيمو الرأي والعقيدة. ولكن استقامة الرأي لا تتحقق إلا عبر استقامة السلوك. وقد قيل بهذا المعنى إن الأرثوذكسية لا تستقيم إلا إذا صارت “أرثوبراكسية”، أي استقامة الـ praxis (السلوك). إذا ٍساءَلتُ بصدق، لا معتقداتي عن الله وحسب، بل موقفي الكيانيّ منه، ذاك الذي يلهم سلوكي حياله، فقد يريعني أن ألاحظ أن الله، بالنسبة إلى موقفي الضمني. ذلك ألذي أتحاشى التعبير عنه لفظيًا، إنما هو أساسًا ذاك الذي أنتظر منه تلبية حاجاتي. هذا إذا شئت أن أكون صريحًا مع نفسي، وهو أمر صعب ولكن لا توبة حقيقية بدونه. فالإنسان يَبرع في إيجاد تمويهات يعقلن بها مواقفه، حتى أكثرها بعدًا عن العقل والاستقامة، لكي يبرّر بقاءَه على ما هو ويوفّر على نفسه مشقة ذلك الانقلاب الجذري الذي هو التوبة. فإذا تخطّيت هذه التجربة العسيرة وخضت صعوبة مواجهة نفسي على حقيقتها، قد أجد أن الله الذي أراه ذهنيًا غاية الوجود، ليس هو هكذا في واقعي المعيوش. وجود الله، بالنسبة لإيماننا، مهم بحد ذاته. لذا تعلن الذكصولوجيا (المجدلة): “نسبّحك، نباركك، نسجد لك، نمجّدك، نشكرك لأجل عظيم جلال مجدك”. أي أننا، قبل أن نشكرك من أجل ما تعطينا إياه، نشكرك لأجل ما نراه من عظمة بهائك. أما بالنسبة لموقفي الفعلي، الصميم، فقد يكون الأمر على نقيض ذلك، إذ قد تكون أهمية الله مقتصرة، بالنسبة لي، على ما يمنحني أو سوف يمنحني إياه مما أرغب به. أنزع إذًا إلى تغييب الله باختزاله في وظيفة إسعادي كما يغيّب الرضيع الأم في وظيفة تلبية حاجاته. إذ ذاك لا أكون بالفعل متعاطيًا مع الله بل مغلقًا عليّ في دائرة حاجاتي التي اتخذ من الله ذريعة لبلوغها. الحاجات التي لا أستطيع أن أحققها بذاتي أسخّره لتلبيتها. بعبارة أخرى أنا بالفعل الأول والآخر وليس الله، مع إنني أعلنه نظريًا “الألف والياء”. وفي آخر المطاف أجد نفسي في عزلة، في عزلة رهيبة، أدور في قوقعتي الموصدة، أتيه في صحرائي العقيمة.

هنا يأتي الصوم ليكسر هذه العزلة، إذ به نستعيد خبرة الفطام، إنما على صعيد آخر، على الصعيد الروحي. الصوم يأتي كنمطٍ آخر، نمطٍ راقٍ من الفطام. يأتي ليضرب النزعة الالتهامية التي تتصاعد من أعماق ماضيّ السحيق بوجهها الجديد – القديم وتهدّد بالتحكم بمواقفي وسلوكي، كما تحكّمت بها ردحة من الزمن، عندما كنت رضيعًا. فيضربها الصوم ليحرّر علاقتي بالله من انطوائيتها، كما قطع الفطام قديمًا العلاقة البدائية الالتهاميّة التي كانت تربطني، رضيعًا، بأمي، فأفسح المجال لعلاقة بيننا أكثر تمايزًا وأصالة. وكما يسمح الفطام للطفل بالانتقال من تعامل استهلاكي بالأمّ الطعام إلى صلة أكثر واقعية ونضجًا مع الأمّ من حيث هي ذات، هكذا فإن الانقطاع الإرادي بالصوم عن الطعام (الذي يمثّل، في العقل الباطن، الثدي وما كان يمنحه من إشباع ومتعة وارتياح وأمان) يسهّل الكفّ عن الإنهماك بعطايا الله لنتوجّه إلى الله نفسه ونسعى إلى لقاء وجهه النوراني.

***
هذه الأفكار سبق أن توسعتُ بعرضها في مقال كتبته بالفرنسية سنة 1982، نزولاً  عند رغبة صديقي المطران جورج خضر الذي كان يودّ، وقتها، استلهامه كعنصر في بحث موضوع الصوم الذي كان يُنوى آنذاك إدراجه في جدول أعمال المجمع العام الكبير المرتَقَب الذي كانت الأرثوذكسية العالمية – وما زالت – بصدد الإعداد له، وقد ثمّنه صديقي اللاهوتي الأرثوذكسي الفرنسي الذائع الصيت أوليفيه كليمان، فنشره في مجلة Contacts الأرثوذكسية الباريسية الذي كان رئيس تحريرها آنذاك، في عددها 131، الفصل الثالث من سنة 1985، وحمل عنوان:
Jeûne et Oralité. Aspects psychologiques du jeûne orthodoxe et Suggestions pour une éventuelle réforme.
***

ولكن أين اللحم في كل هذا؟
إن دواعي الامتناع الصيامي عن اللحم، هي، بالإضافة إلى مقاومة النزعة الافتراسية، التي سبق فعرضنا لها، الاعتبارات التالية:
1- بديهي أن الصوم يقوم على الانقطاع الكليّ أو الجزئي عن الطعام. فإذا كان اللحم معنيًّا بشكل خاص بهذا الانقطاع الجزئي، فالأمر يعود، في أحد وجوهه، إلى كون اللحم يُعتبر، في نفسيّة البشر، على أنه الطعام بإمتياز، الطعام بأل التعريف، كما قد تشير اللغة نفسها. هذا ما أشار إليه أحد الكتّاب الغربيّين في مقال صدر له حديثًا .قال ما معناه إن اللحم ليس طعامًا عاديًا، إذ يحمل كثافة رمزية لا تتوفّر لأي طعام سواه. إنه الطعام المطلق إذا صحّ التعبير، وهذا ليس مجرّد مزحة. فكلمة vivenda التي اشتقّت منها عبارة viande (لحم، بالفرنسية) تعني ما يُستخدم للحياة. وأسمحُ لنفسي أن أضيف إلى ما قاله الكاتب، لمزيد من إبراز هذه الدلالة، أن كلمةviande ، في الفرنسية القديمة (مثلاً في لغة القرن السابع عشر)، كانت تطلق على الطعام بشكل عام، ثم انحصر استعمالها في تسمية اللحم، وكأنه يختزل الأطعمة كلّها ويشكّل أسمى تعبير عنها.

2- أما إذا عدنا إلى الخلفية اللاواعية التي رأينا الصيام يستند إليها، فلا بدّ أن نتذكر أن تعامل الطفل الالتهامي مع الأم إنما يتم راهنًا مع جسدها، مع لحمها، وأن هذا يشكّل الجذر اللاواعي لما أعاني منه من علاقة استيلائية، استهلاكية، بالله وبالآخرين. فإذا شئت أن أضرب هذا الانحراف في جذوره اللاواعية، لا بدّ أن أتعاطى، في سلوكي، لغة الرموز التي وحدها يفهمها ويتأثر بها العقل الباطن، وأن امتنع بالتالي عن اللحم، من حيث هو إشارة رمزية إلى لحم الأمّ الذي كانت تستهدفه نزعة الرضيع الالتهامية.

3- هناك أيضًا زاوية اجتماعية للإمتناع عن اللحم، الأجدر أن نسميها، بلغتنا المسيحية، زاوية أخويّة. فالصوم، إذ ينقّي ويوطّد علاقتنا بالله، كما رأينا، يفتحنا بالتالي على البشر أجمعين أبناء الله، ويجعلنا أكثر تحسسًا لاخوّتنا الصميمة لهم. هذا ما يجعلنا نلقي نظرة جديدة على توزيع الخيرات، البعيد كليًا عن الإنصاف، في كوكبنا، فيقلقنا مثلاً أن إدوار صوما الذي كان يرأس منظمة FAO (منظمة الأمم المتحدة للزراعة والتغذية)، أدلى في اجتماع عقدته هذه المنظمة سنة 1979 بملاحظة ذكر فيها أن 40% من الحبوب التي تنتجها الزراعة في أرضنا تستعمَل لتغذية الحيوانات التي يقتات منها المحظوظون (وأكثرهم في البلاد المتقدمة) في حين أن فقراء العالم (وأكثرهم يعيش في الجنوب أو ما كان يسمى بالعالم الثالث) محرومون حتى من الحبوب، الضرورية لقوتهم. هذا معناه أننا عندما نأكل لحمًا، نضع أنفسنا، شئنا أو أبينا، في معسكر الذين يتاح لهم أن يستمتعوا بحبوب الأرض محوّلة إلى لحوم الحيوانات التي يأكلونها، في حين أن الملايين من الناس يُحرمون بالمقابل من الحبوب التي يحتاجون إليها كحدّ أدنى لإشباع حاجاتهم الأساسية والتي تُنزع منهم لتخصَّص لترف الأقلية المحظوظة التي نحن منها ولو لم نقصد. ففي البرازيل مثلاً، اقتُطعت مساحات كبرى من أفضل الأراضي لزراعة السوجا التي تُصدَّر لإطعام الحيوانات التي يأكل الميسورون من لحمها، مما قلّص إنتاج طعام شعبيّ يقتات به الفقراء هناك وهو الـ feijao (نوع من الفاصوليا ذات الحبوب الصغيرة)، فارتفع سعره بنسبة 275 % في أقلّ من سنة! (بين أواخر 1972 وآب 1973).

إننا عندما نمتنع عن أكل اللحم طوعيًا، نحتجّ بذلك على هذا الوضع الجائر ويتخذ صومنا بعدًا اجتماعيًا (أو أخويًا) وكأننا نقول: “نحن لا نريد أن نكون من أصحاب الامتيازات العائشين على حساب الملايين من الجياع”. وقد وجه بهذا المعنى الأساقفة الكنديون الكاثوليك سنة 1974 رسالة إلى المؤمنين أشاروا فيها إلى إنه، لو امتنع كل كندي عن قطعة همبرغر واحدة في الأسبوع، لتوفّر، من جراء ذلك، مليون طن من اللحم يكفي لإطعام خمسة ملايين من البشر.

إن الامتناع عن اللحم بغية مساعدة المحرومين، عبر توفير ثمنه ودفع ذلك المال إليهم، يعطي الصوم بُعدًا نبويًا يستبق به عالم الدهر الآتي، من خلال إحلال قدر أكبر من المشاركة بين الناس. هذا وجه مما يسمى “صوم المشاركة” الذي يعود أصله إلى فجر المسيحية ويستلهم أشعيا 58، والذي عملت حركة الشبيبة الأرثوذكسية على إحيائه في الكنيسة الانطاكية. والواقع أن مسيحيين كثيرين في الغرب يحيون اليوم صوم المشاركة, فيغذّون بالأموال التي يوفّرونها من جرائه العديد من المشاريع الإنمائية في البلاد المتخلّفة.

***

نأتي الآن إلى موضوع الامتناع عن مشتقّات الحيوان، ونقاربه من زاويتين: الزاوية الروحية البحتة والزاوية النفسية ذات الامتداد الروحي.
فعلى الصعيد الروحيّ، الامتناع عن مشتقّات الحيوان يندرج في نفس خطّ الامتناع عن العلاقة الافتراسية. صحيح إننا لا نفترس الحيوان بأكل مشتقّاته، ولكننا بذلك نستغلّه. فمثلاً الحليب هو أصلاً لتغذية صغار الحيوان والبيض مرشّح في الأصل لتخليد نوعه، ونحن، باستهلاكنا هذا وذاك نحوّلهما عن أغراضهما الأصلية لصالح أغراضنا الذاتية. وبالتالي فإننا نتصرّف، هنا أيضًا، وكأن الحياة وُجدت من أجلنا، وكأننا محور الكون، وذلك بغضّ النظر عن موضوع المشروعية الخلقيّة لهذا الاستهلاك، الذي هو غير وارد هنا كما هو غير وارد بشأن استهلاك اللحم. الموضوع، هنا وهناك، روحيّ وليس أخلاقيًا. أما إذا امتنعنا عن مشتقات الحيوان، فإننا نرسّخ فينا الشعور بأن الحياة إنما هي لله لا لنا، وبأننا نحن أيضًا لله ولسنا محور الكون، وبأن الكلمة الأخيرة للوجود إنما هي المحبة لا التملك والعدوان، فنمهّد هكذا للعالم الآتي الذي لا يزول فيه الافتراس وحسب بل الاستغلال أيضًا.
أما على الصعيد النفسي، فبالرغم من أن الذين وضعوا الصوم، لم تسمح لهم ثقافة عصرهم بوعي كلّ جوانبه، إلا أن عقلهم الباطن كان يوجّههم من حيث لا يدرون بإتجاه معاني الصوم التي غابت عن إدراكهم الواعي. ذلك أن الحليب الحيواني نحياه في أعماقنا رمزًا للحليب الأول، حليب الأم، ويوقظ فينا، لا شعوريًا، أصداء متعته الفريدة التي لا يزال الحنين إليها كامنًا في دواخلنا. وبالتالي، فإننا، بالامتناع عنه، تستعيد جوارحنا خبرة الفطام، معيوشة على صعيد آخر، كإنسلاخ وتحرّر بآن من أجل ملكوت الله.
***
سؤال متفرّع:كما نرى، فإن هناك تفننًا في الأكل الصيامي (الحلويات الصياميّة مثلاً…). فهل أن طريقة الصوم لا تزال سليمة كما هي اليوم، أم بحاجة إلى تغيير؟

الإجابة:
التفنّن ممكن. وقد يبقى ضمن حدود معقولة تساعد على جعل الحرمان أكثر احتمالاً دون أن تلغيه. أما إذا بلغ حدّ الإفراط، فإنه يتحوّل، عن قصد أو عن غير قصد، إلى تحايل على الصوم بغية بلوغ التنعّم، إنما بطريقة أخرى. برأيي أن من يمارس هذا التفنّن المفرط قد يبرهن أنه، في صيامه، لم يتجاوز المنظور الشرعيّ، وقد بقي إذًا على الذهنية اليهودية ولم يتقبل بشارة الإنجيل فعلاً وفي العمق. فاليهودية ليست مذهبًا دينيًا وحسب، إنها أيضًا موقف ذهني وكياني، متمحور على الناموس، ينتمي إلى الإنسان العتيق فينا، وهو في صراع دائم فينا مع جدّة الإنجيل.

هذا الإنسان إذًا، إذ يرى أساسًا في الصيام شرعًا، يحتال على هذا الشرع فيحاول إشباع نزوته بتغطية التمسّك الشكلّي بالشرع. الشريعة تبقى، بالنسبة إليه، خارجية، لا تعبّر عن مقتضيات كيانيّة، لا تترجم توجّهات نابعة من قناعة عميقة. الشرع، كما يعيشه، مفروض من الخارج، ولذا فإنه، رغم خضوعه الظاهري له، أو ربما بسبب اضطراره إلى هذا الخضوع، يتعاطى معه خفية وكأنه غريب وعدوّ. العلاقة بينهما، في العمق، علاقة عداء، وفي آخر المطاف الله نفسه، أصل ذلك الشرع، يبدو له عدوًا، إنما هو عدوّ لا سبيل للتفلّت منه، يراه سيدًا على شاكلة أسياد هذا الدهر ولكنه أقوى منهم وبالتالي لا ينجح معه سوى الاحتيال.

الإنسان الذي يتفنّن بإفراط في مآكل الصوم، ساعيًا إلى أكبر قدر من التنعّم وراء التقشف الظاهري، يضيع المعنى الأساسي للصوم. وهو التخلّي الطوعيّ عن عطايا إلهية ثمينة حتى لا تحجب العطايا، برونقها، المعطي وتغيّبه. بالتجرد عن هذه العطايا، يعبّر الإنسان، بجسده المحروم، أن حاجته الحقيقية إنما هي “إلى واحد” (كما قال يسوع لمرتا)، إلى الله نفسه وليس إلى عطايا الله مهما حَلَت. وكأن هذا الإنسان يقول عبر صيامه: “يا رب، إن جسدي محروم، ولكنني أخضعه طوعًا للحرمان، لأنني موقن بأن هناك واحدًا أهمّ مما يشبع الجسد، وهو أنت، أنت “المشتهى بالحقيقة”. بجسدي المحروم أقول لك إنك أنت المهمّ في حياتي. جسدي المحروم باختياري إنما هو صلاتي إليك وندائي لك بأنك أنت مُنيتي وبأن لا مطلب لي في الحياة سواك”.
الإنسان المتحايل على الصوم بتفننه المفرط في إعداد وجباته، لا يزال بالحقيقة يدور في فلك العطايا ولا يجرؤ بما فيه الكفاية على فتح نافذة يطلّ منها على المعطي. ناهيك أنه يدير الظهر إلى أهداف الصوم، إن من حيث تخصيصه لإعداد الأطعمة حيزًا كبيرًا من وقته واهتمامه كان الأجدر به، في ذلك الموسم المبارك، أن يكرّسه لإهتمامات أكثر تجروًا وتساميًا، أو من حيث أنه ينفق على ألوان الطعام مالاً كثيرًا بدل توفيره لخدمة المحتاجين. ولكنه، مهما حاول أن يتهرب من شظف الصيام، فهو لايبلغ مأربه إلا جزئيًا. فالطعام الصيامي، مهما تُفُنِّنَ به، يبقى أقل دسمًا من الزفريّ، “لا يقيت القلب” كما تلاحظ العامّة. وذلك ليس فقط لأنّ البروتينات النباتية لا تغني فيسيولوجيًا عن البروتينات الحيوانية الغائبة، بل لأن الاقتصار على البقول له أيضًا بُعد نفسي ينعكس بدوره على الجسد وأحاسيسه. فمن يتناول الطعام الزفري يشعر من جهة أنه يلتهم الحياة بكل كثافتها (بالمعنى الذي تشير إليه العبارة الفرنسية mordre la vie à belles dents)، ما لا يتوفر له إذا تناول نباتًا يشغل في سلّم الحياة مرتبة أدنى. ثم أن “دسم” الطعام الزفري يعود أيضًا إلى ارتباطه الخفيّ بخبرة الرضيع، أي أن قدرته على الإشباع الكامل، نفسيًا وجسديًا، تقترن بالشبه، الذي نختبره في عمقنا اللاواعي، بينه وبين طعامنا الأول، الذي تأسس عليه بنياننا العاطفي، وهو تلك الأمّ التي كنا نبتلع الحياة من ثديها.

أسئلة طُرحت بعد إلقاء الحديث
1- ألا توجد صورة افتراسية أيضًا في استهلاك النبات؟
نحن لا نحقق الملكوت الآتي، إنما نستبقه ليس إلاّ، نفتح نافذة عليه. إلى أن يأتي الرب، نحن لا نزال في غربة كما يقول الرسول بولس. لذلك لا بدّ أن يبقى شيء من الافتراس، إلى أن تقوم حياة الله، التي تُشارَك ولا تُستهلَك، مقام الطعام، بالنسبة إلينا، في الدهر الآتي. ولكننا في الصوم، نجتهد أن نحدّ من هذا الافتراس الذي يفرض ذاته في حياتنا الأرضية. إنما يبقى اختلاف لا يُستهان به بين الحيوان والنبات، إذ الأول أدنى إلينا من الثاني، لأنه ذو شعور وإحساس. بهذا المعنى يربطنا به نوع من الأخوّة. وقد برز وعي ذلك بحدّة في عصرنا، وتصدّى بعض مفكّريه للغلوّ في العلاقة الافتراسية بالحيوان التي تذهب إلى حدّ التغاضي الكليّ عن كونه كائنًا حيًا واعتباره مجرّد آلة لإنتاج اللحم تُخضَع، من أجل مزيد من المردود لمجتمعنا الاستهلاكيّ، لشروط هي أبعد ما يكون عن طبيعته .

2- ماذا نستفيد من استعادة خبرة الفطام؟
نستعيد خبرة الفطام على صعيد أوعى، فنوظّف طاقات الانسلاخ والتحرّر التي تختزنها تلك الخبرة البدائية والمؤسِّسة لبنياننا النفسي، في خدمة مسعانا الروحيّ. والفوائد هي:

• إنني أضرب بذلك في ذاتي تلك النزعة الإلتهامية التي هي من مخلفات فترة الرضاعة ولكنها لا تزال قائمة وحية فيّ، بمثابة إرث الرضيع الذي كنته وقتًا ما ، وتتلوّن بشتى الألوان. فبالصيام، أكرّر، على نحوٍ ما، وبارادتي هذه المرّة، عملية الفطام التي فُرضت عليّ سابقًا، مستفيدًا من قدرة التخطّي التي خلّفتها في أعماقي.

• بهذه الاستعادة للفطام، بغَوصي المعيوش هذا إلى أعتق ما فيّ بغية التحرّر منه، أقاوم في ذاتي ما يغذيه هذا الماضي السحيق من نزعة إلى استهلاك الآخرين والله نفسه، تلك النزعة التي يؤجّجها فيّ اليوم المجتمع الاستهلاكي الذي يحاصرني بإغرائاته. فالحضارة الحالية إنما هي “حضارة فمية” كما قال أحدهم، أي إنها تدفع إلى ابتلاع كل شيء على نمط التهام الرضيع لثدي أمه دون أن يقيم حسابًا لشخصها. وكما أن الفطام ساعد الطفل على اكتشاف الأمّ على أنها ذات وليس مجرّد طعام، يُفرض باستعادة خبرة الفطام بالصوم أن تساعدني على اكتشاف كون الآخرين مهمين بحد ذاتهم وليس من أجل حاجاتنا وحسب، مثلاً أن علينا أن نجهد لتفهمهم لا أن نكتفي بمطالبتهم بأن يتفهمونا.

• الصوم مرشّح – ولكن لا يكفي أن أصوم ليتحقق ذلك بصورة آلية – مرشَّح لكي ينقّي علاقتي بالآخرين، بحيث أتمكّن من اعتبارهم مهمّين بحد ذاتهم، ومن النظر إليهم كغايات وليس كمجرّد وسائل لمآربي. كذلك من شأنه، إذا عشته كطريق للإهتداء ولم أكتفِ ببمارسته شكليًا، أن يساهم في جعل علاقتي بالله أكثر استقامة، فلا يعود همّي الأكبر أن يحقّق لي حاجاتي. صحيح أني أستمرّ في التماسي من حنانه تلبية حاجاتي، ولكن الأهمّ يصبح، في عينيّ، أن أقول له بملء جوارحي: لتكن مشيئتك فيَّ، ما يعني: حوّلني على صورة بهائك، هبني أن أحبّ كما أنت تحبّ.

22/4/1989-6/5/1989
27/2/2006
ك. ب.