" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
هل "الحياة الروحية" قطاع يضاف إلى سائر قطاعات الحياة؟

أولاً :تصور "الحياة الروحي" على أنها قطاع خاص من قطاعات الحياة

هناك فكرة شائعة تحصر ما يسمى “بالحياة الروحية” في أعمال تقوية معيّنة كالصلاة والصوم وقراءة الكتاب المقدس وتقبّل الأسرار الكنسية والاشتراك في القداس وممارسة الخلوات الروحية وما شابه ذلك. وبعبارة أخرى، فإن “الحياة الروحية”، بموجب هذا التصور، تنحصر في النشاطات الصلاتية والتأملية وما يرافقها من ممارسات تقشفية، في حين أن كل نشاط ما عدا ذلك، سواءً أكان من أعمال الحياة العادية (كالأكل والشرب وكسب المعيشة وتحصيل المعرفة وممارسة كافة العلاقات العائلية والإنسانية ..)، أو حتى إذا كان من الأعمال التي تتسم بطابع ديني واضح ولكنها ليست من النمط التقوي الصرف (كاكتساب الثقافة الدينية أو نقلها للغير، أو ممارسة الأعمال التبشيرية أو الرعائية أو الاجتماعية أو التربوية …)، في حين، قلتُ، أن كل ذلك لا يمكن اعتباره حقيقة من باب “الحياة الروحية”، بل هو مجرد تهيئة أو نتيجة لها أو فرصة لتنفيذ موجباتـها. والموقف المبطن الكامن وراء مثل هذا الاعتقاد، هو، على ما يبدو، التصور بأن الاتصال بالله يتمّ حصراً عن طريق الممارسات الصلاتية والتأملية والزهدية، في حين أن كل ما تبقّى من ممارسات، على أهميته، لا يتعدّى كونه مجرد ميدان للتمهيد لهذا الاتصال أو لتنفيذ متطلباته.

ثانياً:هذه الثنائية مرفوضة

ولكن هذا الاعتقاد والموقف يصدران عن ثنائية تبدو لنا مرفوضة قطعاً لأسباب وجيهة نابعة من طبيعة الإيمان المسيحي:

1 – لأنها تجزئ الإنسان دون مبرّر.
وكأن الإنسان، في منظورها، منقسم إلى ميدانين مستقلين: ميدان الروح، الذي يتم فيه، وفيه وحده، الاتصال بالله، وميدان المعيشة، الذي يشمل حياة الإنسان الجسدية والفكرية والعاطفية والاجتماعية التي يفترض أن لا علاقة لها بالله إلاّ من حيث هي تمهيد “للحياة الروحية” بالمعنى الحصري الذي ذكرناه، أو تطبيق لها.

والواقع أن الإنسان كائن موحّد، تتداخل سائر نواحي حياته وتتشابك فيما بينها، بحيث أن الصلاة تشيع في الحياة كلها مناخاً صلاتياً، تلون الوجود كله بلونها. وقد كتبت رهبنة دير الحرف بهذا الصدد:
“الصلاة قبل كل شيء موقف داخليّ للنفس التي تعي ذاتها أمام الله (…) يكفي لكي نصلّي أن نعرض نفسنا لله كما هي في أي حال كانت عليه (…) وهكذا يتأمن ذكر الله الدائم في سائر الأوضاع والحالات…”(1).

كذلك كتب المفكر الأرثوذكسي الفرنسي أندريه بورّلي:
” ليست الصلاة نشاطاً خاصاً تتباين طبيعته عن طبيعة النشاطات التي يُزعم أنها “دنيوية”. ليست عملاً تقوياً على هامش الحياة. بل إن كل عمل في حياة مسيحي لا يمكن إلا أن يكون صلاة. واحد منها فقط لا ينطبق عليه هذا القول، وهو الخطيئة”(2).

وبالمقابل، فإن نمط الحياة يعطي الصلاة زخمها وأصالتها أو بالعكس يحكم عليها بأن تكون شكلية وجوفاء. فصلاة الفريسي مثلاً كما يصفها مثل الفريسي والعشار، وإن كان شكلها ممتازاً – من حيث الموقف الجسديّ المألوف من الأتقياء في ذلك العهد أو من حيث الشكر الظاهر لله على إنعاماته – كانت بالفعل مزيفة وباطلة لأن مواقفه الحياتية كانت منحرفة بسبب استعلائه على الآخرين(3). وقد قيل بهذا المعنى:
“إن شئت أن تصلي كما يجب، فلا تحزن أي نفس”(4).

فالمهم، حسب تعليم الروحانيين، ليس هو أن تكون لدينا صلاة، أن نكتسب عادتها ونحافظ على قواعدها، إنما المهم أن نصير، أن نكون صلاة متجسدة. المهم أن يتحول تركيب الإنسان برمته بحيث يصبح تركيب “كائن ليتورجيّ”، كائن يسجد لله ويتعبّد له بحياته كلّها وبملء كيانه، كائن يستطيع أن يردد قول المزامير: “أسبّح الربّ مدى حياتي وأرتل لإلهي ما دمت موجوداً” (مزمور 103: 33)(5).

2 – لأنها تحجّم حضور الله في حياة الإنسان
من جهة أخرى، فإن الثنائية التي نحن بصددها مرفوضة لأنها تحجّم حضور الله في حياة الإنسان، إذ تحصر هذا الحضور في نطاق واحد من نطاقات الوجود الإنساني، ألا وهو نطاق الأعمال التقوية، وتغرّبه عن سائر المجالات الأخرى التي تشغل الحيّز الأكبر في الحياة البشرية وتستأثر بمعظم وقت الإنسان وجهوده، وكأننا نجد فيها بعض الصدى للمثل الشعبي المعروف – وما أكفره، على بداهته الظاهرية -: “يوم لك ويوم لربّك”.

3 – لأنها تتنكر للتجسّد
أخيراً فإن هذه الثنائية تتنكّر عملياً للتجسد – وإن تمسك أصحابها به عقيدة على الصعيد الذهنيّ. فالتجسدّ يعني أن الله تعهّد طبيعتنا كلها ، فجعل من “جسدنا”، بالمعنى الكتابيّ للكلمة، أي من كياننا الإنساني الكامل الموحّد، مكاناً لحضوره:
• ”أما تعلمون أنكم هيكل الله، وأن روح الله حالًٌ فيكم؟ (…) إن هيكل الله مقدس، وهذا الهيكل هو أنتم”.
(1 كو 3: 16-17)
• ”أوَ ما تعلمون أن أجسادكم هيكل الروح القدس، وهو فيكم قد نلتموه من الله، وأنكم لستم لأنفسكم؟ (…) فمجّدوا الله اذًا في أجسادكم”
(1 كو 6: 19-20)
• ”فنحن هيكل الله الحيّ”.
(2 كو 6: 16)

ثالثا” :ما هي الحياة الروحية إذاً؟

يتضح مما سبق أن “الحياة الروحية” إنما هي الحياة كلّها، بكل مجالاتها الجسدية والعقلية والعاطفية والاجتماعية، إذا كان الله قلبها ومحورها وملهمها وغايتها، أي إذا كانت موصولة كلها بالله ومعاشة بحضرته، إذا كان الله “ألف وياء” حياتي على حد تعبير الكتاب، إذا كنت أستطيع فعلاً أن أدعوه مع الشاعر طاغور: “يا حياة حياتي!”(6).

هكذا فكل عمل من أعمالي وكل مجال من مجالات وجودي يمكنه أن يكون روحياً، أياً كان نوعه وطبيعته، إذا دخل في سياق علاقتي المعاشة بالله. وقد كتب المحلل النفسيّ الإنكليزي المسيحي جاك دومينيان بهذا الصدد:
“تحديد ما هو روحيّ يكون انطلاقاً من العلاقة القائمة من لحظة إلى أخرى بين الإنسان والله …”(7).

ليست الحياة الروحية إذاً حياة روح الإنسان، تضاف إلى حياة جسده وحياة فكره وحياة عواطفه وحياة علاقاته المهنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسيّة وما شابه ذلك. إنها حضور روح الله في الإنسان كلّه، بحيث يلهم هذا الروح ويوجه ويحيي وينعش ويجدّد كل نواحي حياته. فحياتي الاجتماعية إذا عشتها في معية الله تكون حياة روحية، وكذلك حياتي العائلية وسعيي الفكري وعلاقتي بأصدقائي وزملائي في العمل وطلابي وزبائني الخ … وكذلك نشاطاتي الترفيهية عينها. هذا كلّه يهم الله وهذا كلّه يمكن أن يُستحضر الله فيه فيصبح بالتالي روحياً.

من هنا تأكيد المفكر الأرثوذكسي الفرنسي المعاصر أندريه بورّلي على واقعية الصلاة الدائمة التي يوصي بها الرسول بولس (“صلوا بلا انقطاع”: 1 تس 5: 17) والآباء النسكيون من بعده. يوضح لنا هذا المفكر أن الصلاة الدائمة هذه كما فهمها كبار الروحيين الأرثوذكسيين ليست عملاً قائماً بذاته بقدر ما هي موقف كياني يتخلل الحياة كلها ويلهم كل أعمالها ومشاغلها مهما اختلفت وتنوعت. هذا الموقف، كما يحدده مكسيموس المعترف، هو أن يبقى فكرنا متوجهاً نحو الله باحترام كبير وحب كبير، أن نضع رجاءنا بالله وأن نعتمد عليه في كل أعمالنا وفي كل ما يحدث لنا. تلك هي الصلاة الدائمة التي إن مارسناها، نلفّ بها كل شيء على حد تعبير القديس سمعان المتكلم حديثاً بالّلاهوت. ويضيف بورّلي أن الأعمال اليومية على اختلافها كالتدريس في صف، أو قيادة باص أو سيارة، أو قراءة الجريدة، أو الذهاب إلى المسبح، أو مشاهدة فيلم سينمائي، أو الاستماع إلى أسطوانة، أو الحوار مع الغير، كل ذلك يمكن أن يكون صالحاً بالنسبة للمسيحي، شرط أن يتم ذلك كلّه مع “انتباه القلب غير المنقطع” على حدّ تعبير أحد الروحانيين، مع “تثبيت الفكر غير المتزعزع في الله” كما يقول روحانيّ آخر(8).

“الحياة الروحية” هي أن نتجذر في الله بحيث تسري روح الله في كافة نواحي حياتنا كما ينطلق النسغ (ماء النبات) من جذور الزرع فينتشر في كل جزء من أجزائه ليحييه وينميه. “الحياة الروحية” هي، كما يقول الأب سيريل أرجنتي:
” عمل الروح القدس الذي ينير ويشبع ويغيّر ويحيي قرارات الإنسان وأفكاره ومشاعره وأعماله وكلماته وسلوكه ونفسه وجسده وحياته اليومية وحتى أحلامه…”(9).

رابعاً :الحياة الروحية حضور في صميم الكون والتاريخ

الحياة الروحية، إذا فهمناها على هذا المنوال، هي أبعد ما يكون عن قوقعة نحتمي بها من مواجهة الآخرين ومن خوض غمار التاريخ. فإذا كانت الروحانية، كما حددناها، تجذّراً دائماً لحياتنا كلها في الله، وإذا كان الله، كما نؤمن به نحن معشر المسيحيين، إلهاً ثالوثياً، أي “حركة حبّ أبدية”، علاقة تبادل كلي ومشاركة تامة بين الأقانيم الإلهية في وحدة كاملة وتمايز كامل، وإذا كان الله، كما نعرفه، ينبوع الحياة والحركة والتجدد للكون، فإنّ هذه الروحانية لا تغرّبنا عن التاريخ بل تعطينا أن نكون فيه مبدعين، حاملين إلى عتاقته جدّة الله الأبدية، وقد كتب اللاهوتي الأرثوذكسي الفرنسي أوليفيه كليمان بهذا المعنى:

“… إننا نحتاج إلى روحانية تكون عميقة بهذا المقدار وثالوثية بهذا المقدار، حتى أنها تصبح من جراء ذلك عينه خلاّقة في التاريخ، دافعة إيانا إلى الالتزام. فالصلاة تُلزِم! الصلاة تُلزِم في خدمة الناس! لا يمكن للمرء أن يصلي وأن يعتبر أن ذلك إنما هو مخدّر لطيف يتناوله يومياً أو أسبوعياً، أو أنه وسيلة ليحصل على حالات روحية خارقة… كلا فالصلاة تُلزِمنا في خدمة القريب وبالتالي تتجاوز التعارض (بين الدين والدنيا). كلما توغَّل المرء في الله، كلما أعيد إلى خدمة الآخر، ليس على الصعيد الاجتماعي فحسب بل على الصعيد الثقافي أيضاً وذلك لأن الله ثالوث، لأن الله محبة…” (10).

والجدير بالذكر أن هذه الخدمة المحبة وهذا الالتزام الخلاّق ليسا مجرد نتيجة “للحياة الروحية”، وكأنهما يضافان إليها من الخارج، إنما هما “الحياة الروحية” نفسها إذا استقامت واكتملت واتخذت ملء أبعادها.
لا بل أن “الحياة الروحية” الأصيلة تشدنا إلى الخلائق كلها. ذلك أن إلفتنا مع الله تؤهلنا لأن نتلمّس حضوره في كافة مظاهر الوجود، من أحقرها في الظاهر إلى أعظمها، من العشبة إلى الكوكب. فإذا بنا نرى الكون متقداً كله بالإشعاع الإلهي، كما رأى موسى العليقة في البرية تلتهب ولا تحترق. بهذا المعنى كتبت تاتيانا غوريتشيفا، تلك الفيلسوفة السوفياتية التي اهتدت إلى الله في مطلع شبابها بعد ماضٍ إلحاديّ وعانت الاضطهاد بسبب تحولها هذا، كتبت في معرض التعبير عن خبرتها الروحية:

“كما تتنامى صلاتي إلى الخالق، هكذا ينمو حبّي لخليقته. الأمر المستغرَب هو أن الصلاة لا تبعدنا عن العالم بل تعيدنا إليه متجدداً، متجلياً”(11)

خامساً :ميادين “الحياة الروحية”

“الحياة الروحية” تشمل إذاً، كما قلنا، كلّ ميادين الحياة. إنها ليست مقتصرة على مجرد الممارسات “الدينية” (بالمعنى الضيّق الذي غالباً ما يعطى لهذه الكلمة) بل تتعداها إلى سائر النشاطات الإنسانية التي هي بالنسبة للمؤمن ميـاديـن تتحقق عبرها صلته المحورية بالله وتترسخ (“وأما الذي يعمل الحقّ، فيقبل إلى النور” :يوحنا 3: 21)، وبالتالي محكّ لأصالة “حياته الروحية” أي لحقيقة علاقته بالله (“إذا قال أحد إني أحب الله وهو لا يحب أخاه، كان كاذباً”: 1 يوحنا 4: 20؛ “من كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه، فكيف تقيم محبة الله فيه؟”: 1 يوحنا 3: 17). بالطبع، إن علاقتي بالله لا تقدم لي أساليب جاهزة للتعامل مع كافة الأوضاع المعيشية، فهناك أساليب فكرية وأساليب اجتماعية وأساليب تربوية وأساليب نفسية وأساليب تقنية الخ … لها خصوصياتها، ولا بدّ لي أن أستنبطها أو أتمرس عليها على مسؤوليتي. هناك إذًا تمايز وليس استقلال بين الصعيد الروحي والصعيد المعيشي على أنواعه، ولابدّ من إقامة هذا التمايز وهذا التداخل معاً، دون تجاهل أيّ منهما أو إغفاله.
وعلى سبيل المثل، فإن “الحياة الروحية” تتجلى في الميادين التالية:

1 – الميدان الفكري:
يرى المؤمن في كلّ حقيقة انعكاساً لحقيقة الله، وهو في سعيه إلى الحقيقة يسعى إلى الإله الحيّ، لا إلى حقيقة مجردة، وفي اجتهاده لمعرفة الكائنات في الصميم يسعى إلى الاتصال بالله الذي به كلّ شيء “يحيا ويتحرك ويوجد” (أعمال 27: 28). يقول أندريه بورّلي مستنداً إلى تعاليم الآباء النسكيين، انه، إذا استولى الحب الإلهي على إنسان ما حتى أعماق كيانه، فإن كل ما يعرفه هذا الإنسان إنما هو بالنسبة إليه صلاة، أي ارتقاء للعقل نحو الله، وإن أية معرفة لن تكون بالنسبة لهذا الإنسان مجرد معرفة دنيوية، إنما تتحول إلى مادة يغتذي بها حوار عقله مع الرب(12).

وبعبارة أخرى، فإن السعي العقلي لدى المؤمن يتعمّد بالحبّ. وقد عبّر عن هذه الحقيقة مقطع جميل من نشيد “الشبيبة الطالبة المسيحية” JEC بقوله:
“لله هي عقولنا،
وسوف نسعى في جهودنا اليومية
إلى تعميد العلم
بمياه الحب الحيّة”

وإذا كان العمل العقلي، في هذا المنظار، سعياً إلى الله الذي هو الحقيقة المطلقة ومصدر كل حقيقة في الكون ومرجعها، يكون الانتباه والتركيز، وهو الأداة الرئيسية لهذا العمل العقلي، بمثابة انفتاح إلى الله نلتمس به منه مزيداً من الاستنارة. بهذا المعنى قال الفيلسوف الفرنسي المسيحي مالبرانش ما معناه أن التركيز العقلي، حتى ولو لم يدرك صاحبه كل أبعاده، إنما هو صلاة تلقائية:
” الانتباه إنما هو صلاة طبيعية”.

وقد أوضحت سيمون فايل، وهي فيلسوفة فرنسية معاصرة اهتدت إلى الإيمان المسيحي، أن الموقف الذي يضبط الطالب بموجبه نزعته التلقائية إلى التسرّع في كتابة موضوع أوحلّ مسألة رياضية (وهو تسرع يؤدي إلى عدم الترابط بين الأفكار أو إلى حلول مغلوطة) ليضع نفسه في حالة تفرّغ وإخلاء للذات تجعله قابلاً لاستقبال كشف الحقيقة له، أن هذا الموقف إنما هو اتصال حقيقي بالله (ولو لم يعِ صاحبه ذلك):
“كل عمل مدرسيٍّ، إذا تأملنا به من هذه الزاوية، إنما يشبه عملاً أسرارياً”(13).

2 – الميدان المهنيّ:
يعيش المؤمن عمله المهني مشاركة في عمل الله الخلاّق الدائم (“أبي حتى الآن يعمل…”: يوحنا 5: 17) وفي بناء ملكوت المحبة الذي أطلق المسيح ورشته في الأرض ولا يزال يقودها إلى أن تكتمل في الملكوت الآتي: من هنا ينبع إتقان في العمل وإخلاص وتجرّد وسخاء.

3 – الميدان العائلي:
المؤمن يعيش علاقته الزوجية مشاركة في حبّ الله للبشر، ذلك الحبّ غير المشروط والذي لا رجعة فيه، الذي بلغ بالفداء ذروة تعبيره. كما أنه يعيش علاقته الوالدية مشاركة بأبوة الله وأمومته، أي بحبه للمخلوقات، ذلك الحب الذي لا يتملّك ولا يقيّد، بل يحيي ويطلق وينمي(14).

4 – الميدان السياسي:
إن التزام المؤمن في الحقل السياسي، وإن تحدّد نمطه ومضمونه على ضوء تحليل الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة، إلا أنه يستلهم في انطلاقته ورؤياه تلك الصلة الصميمة القائمة بين المؤمن وربّه والتي لا بدّ للمؤمن أن يحياها ويترجمها في الميدان السياسي كما في سائر مجالات وجوده الأخرى.
فلا بدّ للمسيحي أن يسعى إلى تغيير البُنى الجائرة مساهمة منه في رسالة المسيح المحرّرة، كما أن لا بدّ له أن يجاهد في سبيل بناء أُطُر اجتماعية توفر الحرية والكرامة والمشاركة لكل الناس، استعجالاً لتحقيق الملكوت الذي زرع المسيح خميرته في صميم التاريخ البشري(15).

يقول أندريه بورّلي إن عبادة الله من دون انقطاع لا يمكن أن تعني استقالة من التاريخ وتخلّياً عن مهمة تطويره، بل تفرض على العكس مزيداً من الاستعداد للاحتفال بما يسميه يوحنا الذهبي الفم “سرّ الأخ” ويجعله مكملاً “لسرّ المذبح”. ويضيف الكاتب أن “سرّ الأخ” هذا إنما يجب أن يعاش لا فردياً فحسب بل في صميم البُنى السياسية والاقتصادية والاجتماعية(16).

ويقول نفس اللاعب في مكان آخر:
“… إذا كنا نؤمن حقيقـة أن ملكوت الله هو منذ الآن فيما بيننا، وأنه سائر نحو اكتماله، مع أن هذا الاكتمال لن يتحقق إلا في الآتي، فعلينا بالتالي أن ندرك أن التحرر الذي يتحقق في الإنسان بفعل التأله (أي مشاركة الإنسان بالمسيح في الحياة الإلهية: ك.ب.) ليس تحرراً متجرداً من الماديات، “روحياً” بمعنى أن ليس له أي امتداد سياسي. إن الدخول في خبرة التأله عبر الإيمان والرجاء والمحبة، يفترض أن يهدف المرء، بكل ما لديه من إمكانيات، إلى تحرير الإنسان من كل القيود التي تكبّله. إن الظلم والاستغلال والبؤس وانعدام الثقافة وتنظيم المجتمع على أساس السعي الفرداني إلى الكسب، كل هذه أدناس لا تزال الكنيسة تتوسل إلى الملك السماوي، المعزي، روح الحق، أن يحررنا منها…”(17).

ويضيف الكاتب إن ما يزيد الناس تغرباً عن حدث الفصح في غالب الأحيان إنما هو كون الذين يتسمَّون مسيحيين يحملونهم في غالب الأحيان إلى الاعتقاد، عبر تصرفهم السياسي والاجتماعي، “بأن التحرير الذي أتى به المسيح إلى الإنسانية صبيحة الفصح إنما لا علاقة واقعية له بأيام الدم والغضب التي تشكّل للأسف، إلى حد بعيد، لحمة التاريخ”(18).

سادساً: دور الأعمال التقوية في “الحياة الروحية”

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ في ختام هذا البحث السؤال الآتي: إذا كانت “الحياة الروحية” لا تنحصر، كما رأينا، في النشاطات الصلاتية والتأملية وكافة الأعمال التقوية، فما دور هذه النشاطات والأعمال إذًا وما هي خصوصيتها. إن ما قلناه عن تجاوز “الحياة الروحية” لحدود الأعمال التقوية لا يلغي البتّة دور هذه الأخيرة المميّز. بل يمكن اعتبارها بمثابة “فترات مكثفة” في سياق “الحياة الروحية” التي تمتد، كما قلنا، لتشمل الحياة برمتها. هذه “الفترات المكثفة” تستمد أصالتها من السياق الذي تندرج فيه (“ليس من يقول لي “يا ربّ! يا ربّ!” يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل بمشيئة أبي الذي في السماوات”: متى 7: 21)، كما أنها، بالمقابل، تبلوره وترفعه وتغذيه وتمده بزخمها.

العلاقة بين هذه “الفترات المكثفة” وبين السياق الذي تندرج فيه علاقة جدلية إذاً، أي أنها علاقة تفاعل وتداخل وتعاضد. ويمكن برأيي تشبيه هذه العلاقة بالصلة التي تربط بين الوصال الزوجيّ من جهة وبين مجمل العلاقة الزوجية كما تبنى عبر الحياة اليومية ومختلف ظروفها وأحوالها من جهة أخرى (أرجو أن لا يستغرب القارئ كوني أشير إلى الحياة الروحية بتلك الصورة الزوجية التي طالما استعملها الكتاب بعهديه ليرمز بها إلى علاقة الله بالناس). فالوصال “فترة مكثفة” في العلاقة الزوجية تنعش العلاقة العادية بين الزوجين وترسخها وتغذيها وتجدّدها. ومن جهة أخرى، فإن الوصال نفسه لا يكون ناجحاً وسعيداً (لا بل وأصيلاً) إلا بمقدار ما يكون تتويجاً لتواصل دائم بين الزوجين على كل أصعدة التعاطف والتعاون والتفاهم والتبادل والتناغم في مختلف ظروف حياتهما المشتركة.

12/9/1985
ك.ب.
“النور”، 1986، العددان 1و2