أولاً : أخطاء شائعة في تأويل هذه العبارات
1 – الخلط بين “الروحيّ” واللاّمادّي:
في كل قدّاس، يسمع المؤمنون في التسبيح الشاروبيمي الذي يسبق الدورة بالقرابين، هذه الدعوة: “لنطرح عنا كل الإهتمامات الدنيوية إذ إننا مزمعون أن نستقبل ملك الكل…”، وهي عبارات توحي بتمييز بين “الإهتمامات الدنيوية” التي يُطلب من المؤمن أن يطرحها عنه استعداداً لمشاركته في الأسرار وبين “الإهتمامات الروحية” التي يُدعى إلى التفّرغ لها لنفس الغرض. ولكن هذا التمييز كثيراً ما يساء تأويله، فيفهم على أنه تمييز بين اهتمام بالأمور الجسدية، المادية، من جهة، واهتمام بالأمور اللاّماديّة (هكذا تؤوّل عبارة “روح”) من جهة أخرى. ولكن هذا خطأ – وإن كان شائعاً – لأنّ الفكر الكتابي لا يجزّأ كيان الإنسان إلى عنصر مادي وعنصر لا مادّي، شأن الفكر اليوناني، بل يسمّي “جسداً” الكيان الإنساني الحيّ بوحدته المتجسدة(1) التي ينبغي لها أن تمجد الله بكليتها (“فمجدوا الله بأجسادكم”(2)).
كما أن الفكر الكتابي عينه لا يشير بعبارة “روح” إلى كيان لا مادّي (كما في المعنى اليوناني للعبارة، ذلك المعنى الذي نجد له أثراً في قولنا “المشروبات الروحية”، والمقصود بها مشروبات تتبخر بسهولة إلى عناصر دقيقة، غير مكثّفة). إنما يشير بها، من جهة، إلى القوة الإلهية التي تبدع وتحرّك وتغيّر وتحيي وتجدّد كل شيء (“فالروح”، في العبرانية كما في العربية مشتق من “الريح”(3). وهو “قوة ديناميكية فاعلة في الكون وفي الإنسان (…) “ترسل روحك فيُخلقون وتجدّد وجه الأرض” (مزمور 103: 30)(4)”. إنه عنصر الخلق المستمر والتجدد على نقيض كل تقوقع وسأم(5)، ولذا “فرموزه في الكتاب المقدس إنما هي الأشياء المتحركة، الريح والطير في الريح، والنار، والماء الحيّ”(6)). ومن جهة أخرى تشير عبارة “الروح” في الكتاب لا إلى الناحية اللاّماديّة في الإنسان، بل إلى الإنسان ككل من حيث اتصاله بتلك القوة الإلهية الخلاّقة وانقياده إليها ليحيا بها ويتجدد ويتحرر ويصبح بدوره محيياً ومجدّداً ومحرّراً: “الروح يهبّ حيث يشاء (…) هكذا الإنسان المولود من الروح” (يو 3: 8)؛ “المولود من الروح إنما هو روح” (يو 3: 6)؛ وعندما يستعمل العهد الجديد عبارة “جسد” أو “جسدي” كنقيض “لروح” أو “روحي”، فالمقصود كيان الإنسان برمته إذا حاول أن يكتفي بذاته دون الله حتى إذا عبّر عن محاولة الاكتفاء هذه برذائل نعتبرها عادة نفسية أكثر منها جسدية، كالخصام والغضب والحقد(7).
2 – المفهوم الضيّق والشكليّ “للدين”:
وكثيراً ما يفهم أيضاً التمييز بين “الإهتمامات الروحية” و”الإهتمامات الدنيوية” على أنه تمييز بين “الدين” (بمفهومه الضيّق، المقتصر على مجموعة من العقائد والتعاليم، ومن الممارسات الطقسية والعبادية، ومن الفرائض الخلقية) و”الدنيا” (ويفهم بها كل شؤون الحياة، من طعام وشراب ولباس وسكن، وأفراح وأتراح، ومهنة وعائلة وعلاقات إنسانية، وعلم وفكر وسياسة وإقتصاد …). ولكن هذا خطأ أيضاً. فالمرء قد يحفظ تعاليم الدين ويمارس فرائضه وهو بعيد عن روح الله “ليس من يقول لي “يا ربّ، يا ربّ! ” يدخل ملكوت السماوات، بل من يعمل مشيئة أبي الذي في السماوات”(8)؛ “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، تؤدّون عُشر النعنع والشِّبث والكمّون، بعدما أهملتم ألزم ما في الشريعة: العدل والرحمة والوفاء (…) تطهرون ظاهر الكوب والصحفة، وباطنهما ممتلئ نهبا وطمعا”(9)؛ “لو تكلمتُ بلغات الناس والملائكة، ولم تكن لديّ المحبة، فما أنا إلاّ نحاس يطنٌ أو صنجٌ يرن. ولو وُهبت لي النبؤة وكنت عالماً بجميع الأسرار، عارفاً كل شيء، ولي الإيمان الكامل أنقل به الجبال، ولم تكن لديّ المحبة، فما يجديني ذلك نفعاً”(10)). وبالعكس فقد يحيا شؤون الدنيا كلّها بروح الله فيقدّسها: “فإذا أكلتم وشربتم أو مهما فعلتم، فافعلوا كل شيء لمجد الله”(11). قد يتخذ المرء من فرائض الدين نفسها ذريعة لإهمال أخيه في الشدة (كما كان يفعل الفريسيون بتفسيرهم وصية السبت على أنها تحرّم معالجة المريض ما لم يكن مدنفاً(12))، لا بل لسحقه وإذلاله وإحكام التسلط عليه (كما كان يفعل الفريسيون أيضاً، شأنهم في ذلك شأن سائر ممثلي الحكم الديني في أيام يسوع(13)) فيكون هذا الإنسان “دنيوياً” في تديّنه؛ وعلى العكس فقد يهتم بشؤون الأرض ليطعم الجياع ويكسو العراة ويؤوي المشردين، فيكون “روحياً” في سعيه الأرضي هذا.
لقد أزال المسيح الحاجز المصطنع المقام بين “الدين” و”الدنيا”، إذ نقض الهيكل الذي كان يعتبر مكان حضور الله وأقام بدلاً منه هيكلاً آخر وهو جسده، ذلك الجسد الذي يمتدّ ليشمل البشرية بأسرها (المدعوّة كلها إلى الخلاص) والكون برمّته (المدعوّ كلّه إلى التجدد)، فأصبح هذا الجسد الكوني كلّه، بالمسيح، مكاناً لحضور الله. بالمسيح أدركْنا أن الله، وإن كان بجوهره متعالياً على الكون (أي أن طبيعته اللاّمخلوقة متميزة جذرياً عن طبيعة الكون المخلوق)، إلا أنه حاضر في صميمه بروحه الذي يمدّ الكون بالوجود والحياة والقوة والجمال والقدرة على الارتقاء نحو الأفضل(14)، وأن هذا الحضور الإلهي قد تكثّف بالتجسد – كما يتأجج الجمر، إذا نُفخ عليه، بقوة النار الكامنة فيه – وأن إنسانية يسوع المتجلية بالصليب والقيامة والصعود صارت، عبر الكنيسة التي هي امتدادها في التاريخ، محور ورشة تأليه البشرية وتجديد الكون، وأن لا شيء في حياة الإنسان وفي عالمه غريب عن ورشة التجديد هذه، إلاّ ما تقصيه خطيئة الإنسان عنها محرّفة إياه عن غايته ومغرّبة إياه عن مقصد الله فيه.
لقد كتب غوستافو غوتيارّيز، وهو لاهوتي أميركي لاتيني من البيرو:
” منذ أن صار الله إنساناً، صارت الإنسانية، وكل إنسان، والتاريخ، هيكلاً حياً لله. لم يعد من وجود “للدنيوي”، ذاك الموجود خارج الهيكل”.(15) هذا ما يلتقي بالتراث الأرثوذكسي كما عبّر عنه اللاهوتي الأرثوذكسي أوليفيه كليمان بقوله:
“بالنسبة للتقليد الأرثوذكسي، لا وجود لما يسمّى “بالدنيوي” (Le profane)، إنما الموجود هو القدسات المدنّسة (Le profané)”(16). ويؤكد اللاهوتي الكبير بول أفدوكيموف هذا الموقف الأرثوذكسي بقوله: “… (الأسرار) تعلّم أن كل شيء في الحياة المسيحية هو “بالقوة” أسراريّ أي مقدس لأنه مدعو، في النهاية، إلى بلوغ قامته الليتورجية باشتراكه بالسرّ الخلاصيّ. هكذا في التجلي أو في الفصح، يأتي المؤمنون بطعامهم إلى الكنيسة ليباركوه فيتوسع مبدأ العطاء والتكريس إلى كل طعام. التجسد مرجع كل شيء وكل الأمور تنتهي عند الرب كعمل ليتورجيّ رائع. الليتورجيا تجعل الوظائف البديهية للحياة – الأكل والشرب والغسل والكلام والحركة والحياة – تتكامل باتجاه مصيرها الحقيقي: “أخيراً لم تعد الأشياء أثاث منفانا بل أثاث معبدنا” يقول الكاتب الفرنسي بول كلودل. يعتاد الإنسان الحياة في عالم الله، يقرأ في أعماقه المصير الفردوسيّ. الدنيا تبنى في ليتورجيا كونية لتصبح مركز عبادة المجد الإلهي. من هنا أن كل شيء مدعو إلى القداسة وليس أمر دنيوياً لأن الله هو مرجع الكل…”(17). هذا كلّه يذكّرنا بما قاله “نبيّ” جبران: “إن لكم في حياتكم اليومية لهيكلاً وديناً”(18).
3 – الفصل المصطنع بين “السماء” و”الأرض”:
هذا وإننا نرتكب الخطأ عينه إذا اعتبرنا أن التمييز بين “الإهتمامات الروحية” و”الإهتمامات الدنيوية” مواز للتمييز بين الاهتمام بما يُدعى “السماء” (أي بعالم إلهي يتخيله المرء قابعاً فوق السحب يسوس الأرض دون أن يكون تماسٌّ بينه وبينها، عالم ينتقل إليه الإنسان بعد الموت والبشرية بعد انقضاء التاريخ، ولا تعتبر حياة البشر على الأرض، أفراداً كانوا أو جماعات،أكثر من معبر إليه) وبين الاهتمام “بأرض” فانية لا تستحق بالحقيقة أن يكترث الإنسان بها إلاّ بمقدار ما هي معبر إلى السماء”.
إننا بانسياقنا إلى هذا التصوّر نتناسى أن التجسّد وحّد بين السماء والأرض (“إنني أشاهد سراً عظيماً مستغرباً: المغارة سماءً…”، تنشد الكنسية في خدمة الميلاد) وأوضح أن شؤون البشر الأرضية أمور تمسّ الله نفسه (“الحق أقول لكم: كلّما صنعتم شيئاً من ذلك لِواحد من إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد صنعتموه (…) أيّما مرة لم تصنعوا ذلك لواحد من هؤلاء الصغار فلي لم تصنعوه”(19). نتناسى أن الأبدية صارت حاضرة في كل لحظة من لحظات التاريخ لتحييها وتجددها (“قد زال كل شيء قديم وها هوذا كل شيء قد صار جديداً.”)(20) وأن الله أصبح مساكناً لنا (“إن العذراء ستحمل فتلد ابناً يدعى “عمانوئيل” أي الله معنا”(21)، “ها أنذا معكم طول الأيام إلى انقضاء الدهر”(22)). وأن ملكوته يُبنى وينمو فيما بيننا وفي وسط كثافة عالمنا كما تخمّر الخميرة تدريجياً العجين كلّه (“ملكوت الله فيما بينكم”(23))، وأن مصيرنا في الدهر الآتي يُنسج من مواقفنا والتزاماتنا في الدهر الحاضر، وأن جوهر ما هو خيّر وجميل في هذا الدهر سيرافقنا إلى عالم القيامة. يقول أوليفيه كليمان، معلقاً على أحد ظهورات المسيح لتلاميذه بعد القيامة:”على ضفة البحيرة، أشعل الناهض من بين الأموات “نار جمر عليه سمك” (يوحنا 21: 9): إن البحيرة التي تنعكس فيها السماء، والإشعاع الأحمر المنبعث من الجمر المتقد، ورائحة السمك المشوي، ووجبة الطعام التي تقاسموها في جو مشبع بالصداقة، هذا هو أيضا ملكوت الله. أي الأرض، الأرض كلها، “محررة من عبودية الفساد لتشارك أبناء الله حريتهم ومجدهم” (رومية 8: 21)”(24).
وقد كتب المطران ملاتيوس، رئيس اللجنة الأسقفية الأرثوذكسية المشتركة في فرنسا، في رسالة رعائية له: “… ينبغي أن نقول للناس إنه ما من لحظة واحدة في حياتهم عرفوا فيها الفرح، والحب، والجمال، إلاّ وتجد مكانها في الملكوت، إلا وهي استباق لمجيئه…”(25).
ثانياً: ما هو إذاً التمييز الصحيح بين الإهتمامات “الروحية” والإهتمامات “الدنيوية”؟
1 – إننا “روحيون” إذا كان الله ملهمنا ومبتغانا، “دنيويون” إذا كنا متعبدين لأهوائنا. علماً بأن هذين الاتجاهين المتناقضين من شأنهما أن يطبعا مواقفنا كلها، سواءً أكان موضوعها المباشر “الدين” أو “الدنيا”، “السماء” أو “الأرض”.
2- لذا فإن اهتمامنا بالدنيا قد يكون “روحياً” أو “دنيوياً”، وكذلك اهتمامنا بالدين قد يكون من جهته “روحياً” أو “دنيوياً”:
أ – إهتمامنا بالدنيا “روحيّ” إذا عشنا الدنيا على أنها دنيا الله، وطلبنا فيها وجه الله كألف وياء حياتنا، وسعينا إليه عبر مساعينا كلها، وتعاملنا مع كافة قضايا الدنيا بروح الله التي هي روح المحبة والعطاء والمشاركة، واعتبرنا خيرات الأرض لا ملكاً لنا نستـأثر بـه إنمـا هبـة منه أؤتمنّا عليها لنتناولها بشكر (1 كو 10: 30)، ونقتسمها بعدل فيما بيننا ونحرص على أن لا يبقى أحد محروماً من حصة كافية فيها تقيه شرّ العوز والبؤس والذلّ. إهتمامنا بالدنيا “دنيوي” إذا نسينا الله في غمرة انهماكنا بتسخير الأشياء والأشخاص لإشباع أنانيتنا ونهمنا وشهوة التملك والتسلط والتباهي فينا. مثلنا في الحالة الأولى والثانية مثل أشخاص دعاهم صديق جوّاد لهم إلى مأدبة ليعبّر لهم عن محبته. فأقبلوا كلهم إلى الوليمة. ولكن بعضهم تجاوب مع محبة الداعي، فتناولوا الأطعمة على أنها هبة حب منه فبادلوه المحبة وتبادلوها فيما بينهم، عبر التفاوض الودي معه ومع رفاقهم المتواجدين وإياهم حول المائدة، وحرصهم على أن تتم مشاركة أخوية في الطعام بينهم وبين هؤلاء. أما البعض الآخر، فانهمكوا بالتهام نهم لأطايب المأدبة متناسين الداعي ومتجاهلين باقي المدعوين شركاءهم ومحاولين الاستئثار بأكبر الحصص وأجودها على حساب الغير.
ب – إهتمامنا بالدين “روحيّ” إذا اتخذناه فعلاً طريقاً يصلنا بالله ويساعدنا على تخطّي ذواتنا إليه، وإذا كان الدين ملهماً لنا إلى الاهتمام الفعلي بالآخرين وبحاجاتهم على أنواعها بروح الله. إهتمامنا بالدين “دنيويّ” إذا اتخذناه ذريعة لتبرير أهوائنا (وما أكثر ما نتخذه على هذا المنوال في تلك الحقبة المأساوية التي يعيشها حالياً بلدنا لبنان!) وحجة للتهرب من التزام شؤون الأرض.
13/8/1985
ك. ب.
“النور” ، العدد 9 ،1985