" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الله والفكر البشري

1-  ليس الله “مسألة” تبحث بالعقل المجرد:
الله موضوع إيمان: “أومن بإله واحد…”. ليس إذًا موضوع معرفة عقلية مجردة. وذلك لعدة أسباب يقبلها العقل إذا تأمل فيها موضوعياً، منها:
أ- لو أمكن معرفة الله بالعقل، لكان العقل استوعب الله وحواه. ولكن المحدود لا يمكنه أن يسع غير المحدود. نقطة الماء لا يمكنها أن تستوعب البحر. العقل لا يمكنه أن يحوي الله ويحصره لأن الله مصدر العقل نفسه. يقول جان دانيالو بهذا المعنى: “ليس الله ضمن حدود الإدراك لأنه هو الذي يكوّن الإدراك”.

 لو كان العقل يدرك بحد ذاته الله، لكان العقل مقياس الله بينما الله هو مقياس الأشياء كلها بما فيها العقل. فكما أن العين عاجزة عن الشخوص إلى الشمس لأن نور الشمس يبهرها، هكذا العقل عاجز عن إدراك الله، بهذا المعنى قال الكتاب: “الله ساكن في النور الذي لا يدنى منه”. “العقل يحدد الأشياء التي يدركها ولكن الله فوق كل تحديد” كما يذكّرنا غريغوريوس النيصصي. من كل ذلك يتضح أن المعقول- رغم التناقض التعبيري- أن لا يدرك العقل الله، وأن الطريقة الوحيدة المعقولة للاقتراب من الله هي أن يتخلى العقل عن مركزيته، فلا يعود يعتبر ذاته مقياس كل شيء، حينئذٍ يمكنه أن يستنير بنور الله وأن يعرف الله مقياساً له وللأشياء كلها.

ب- ومن جهة أخرى ليس الله موضوع بحث يمكنني أن أعالجه بعقلي وحسب بالاستقلال عن مواقفي الكيانية العميقة. ليس الله “مسألة” على حد تعبير غبريال مرسيل، كمسائل الجبر والهندسة مثلاً. يجدر بنا هنا أن نتوقف هنيهة لنستعرض بسرعة مفهوم المعرفة في الفكر الحديث.

لقد تجاوز الفكر الحديث ذلك التصور الوهمي الشائع الذي نعتقد بموجبه أن العقل البشري لوحة فوتوغرافية تسجل الواقع. لقد أظهرت أهم تيارات الفكر المعاصر أن المعرفة نابعة من وجود الإنسان كله. إن هذا الوجود يتفاعل مع الواقع لتكوين المعرفة. ذلك لأن الإنسان ينظر إلى الواقع من خلال اتجاهاته الكيانية، ينظر إلى الواقع من خلال ذاته. لقد بيّن ذلك، على صعيد الفيزياء النووية الحديثة، العالم الشهير هيزنبرغ وغيره (أدنغتون مثلاً). وأظهرته اختبارات عديدة قام بها  علماء النفس المعاصرون وبينوا بها أن الإدراك الحسي عينه عملية انتقائية تتأثر بميول الإنسان واهتماماته. دور المواقف الحياتية هذا في المعرفة يتضح أكثر وأكثر كلما كانت هذه المعرفة تمتّ بصلة أوثق إلى الحياة. ولنأخذ على ذلك مثلاً: إن الأدلة العلمية كلها لا تكفي لإقناع إنسان ما بأن البشر متساوون أصلاً بالامكانيات وبالكرامة، وإن تعددت أجناسهم، ذلك أن الكبرياء العنصري وشهوة التسلط قد تملي عليه، رغم كل منطق، نظرة خاطئة إلى الواقع وقد تدفعه- وقد رأينا ذلك في تاريخ ليس بالبعيد- إلى تسخير العلم نفسه لتبرير مشاعره العرقية، لا بل قد تدفعه إلى إدراك حسي مشوّه للأشياء، كما أثبت ذلك أخصائيان نفسيان هما Allport  وPostman بالاختبار الطريف الآتي: فقد أظهرا على شاشة صورة تمثل عربة مترو في ضواحي نيويورك فيها زنجي وعامل أبيض يتشاجران، والعامل الأبيض يحمل بيده اليسرى على مستوى زناره موسى حلاقة مفتوحة. كان على الأفراد الذين خضعوا للاختبار أن يرى كل منهم الصورة ثم يروي ما رآه لشخص ثانٍ وهذا بدوره لثالث وهلمّ جرّا حتى ستة أو سبعة أفراد، ثم يُطلَب من كل من الأفراد أن يعيد ما سمعه. وقد تبين أن كثيرين من الذين أجري الاختبار عليهم كانوا يروون أن الزنجي في الصورة كان يهدد الأبيض شاهراً عليه موسى حلاقة، وهكذا سمعوا الرواية، وفقا لأميالهم العنصرية.

يقولون: “دعوا الوقائع تتكلم” ولكن العالم الرياضي الشهير هنري بوانكاره أظهر (منذ بداية هذا القرن) الالتباس الكامن في جملة شائعة كهذه. فقد أجاب أن الوقائع لا تقول شيئاً. ذلك لأ

ن الإنسان هو الذي يعطيها معنى، لذا يمكن أن يكتشف المعنى الكامن في الوقائع أو أن يحجبه.
هكذا لا تنجلي للمرء معاني الوقائع إلا إذا كان كيانه مستعداً لاقتبالها منفتحًا لها. ألَيْس تاريخ العلم نفسه شاهداً على ذلك؟ كل النظريات الجديدة التي طورت العلم ودفعته إلى الأمام، كنظريات لا فوازييه وكلود برنار وباستور وأينشتاين وفرويد حوربت بضراوة وسُخّفت من أقطاب العلم في الحقبة التي ظهرت فيها. لماذا؟ لأن أقطاب العلم هؤلاء، رغم مستواهم العقلي الرفيع، لم يكونوا منفتحين إلى المعاني الجديدة التي جلاها المكتشفون. ذلك لأن تفهم النظريات الجديدة كان يتطلب منهم ما هو أعمق بكثير من مجهود عقلي مجرد، كان يتطلب منهم إعادة نظر في عادات التفكير التي ألفوها والتي أصبحت مرتبطة بطمأنينتهم وكرامتهم. قبول الحقائق العلمية إذًا، على هذا الصعيد، مشروط بتواضع عميق وتخطٍّ للذات وقبول للمجازفة وإعادة نظر في الكيان الشخصي نفسه.

ولكن ما يصح بالنسبة للحقائق العلمية يصح إلى أبعد حد بالنسبة إلى الله. قبول الله يفترض في الإنسان التزاماً كيانياً عميقاً. ذلك التواضع أمام الواقع الذي يفترضه عند العالم اكتشاف معان جديدة، مطلوب إلى أبعد الحدود ممن شاء أن يقترب من الله. ذلك أن قبولي لله يعني اعترافي بأنني لا أملك شيئًا من ذاتي أو بالأحرى لا أملك الا عدمي طالما لا يخرج كياني من العدم في كل لحظة إلا بفعل الله.

إعترافي بالله يعني اعترافي بأنني عدم بحد ذاتي وأن كياني وكل خير فيّ ليس سوى هبة من الله وبعبارة أخرى أنني لست بموجود إلا لأن الله يحبني ويوجدني. لا يمكنني أن أقبل الله إلا إذا كنت مستعداً استعداداً حياتياً، كيانياً، للاعتراف بتبعيتي المطلقة، وبدون هذا الاستعداد الكياني لا يمكن لعقلي أن يُقر بالله لا بل سوف يحاول بشتى الوسائل أن يتهرب من هذا الاعتراف وسيتذرع بكل الحجج الممكنة لإنكار الله. مجمل الكلام: أن قبول الله يفترض استعدادي العميق لإعادة النظر في اكتفائيتي.

2- الله يخاطب العقل من خلال “آثاره في الكون وفي الإنسان”
ولكن الله، وإن لم يكن “مسألة” تبحث وتُحل بالعقل المجرد، إلا أنه لم يدَع نفسه بلا شاهد، على حد تعبير الرسول بولس. إن آثاره في الكون وفي الإنسان تنبئ للعقل الإنساني عن وجوده. ولا أعني هنا بالعقل العقل المجرد الذي هو كما رأينا جوهر وهمي. إذ أن العقل البشري ليس بطاقة مستقلة إنما هو متأصل في كيان حي ويتأثر بالمواقف الوجودية التي يتخذها هذا الكيان. “آثار” الله علامات يخاطب الله بها ليس العقل المجرد بل الشخص العاقل الذي يمتد كيانه كله، بشفافية تامة، إلى الحقيقة المطلقة، مستعداً للتخلي عن “حقائقه” الخاصة لاقتبالها، متأهبًا لإخضاع حياته لها إذا انجلت له. تلك “السبل إلى الله” تهدي الإنسان دون أن تغتصبه اغتصابًا. فالله، إله الإعلان الكتابي، شخص حرّ يرغب في لقاء حر مع الناس.

وسنستعرض فيما يلي بإيجاز كلي بعض هذه الآثار التي تهدي إلى الله:
أ- تسلسل العلل: كل ما يجري في الكون نتيجة لسبب أوجده. وهذا السبب هو بدوره نتيجة لسبب آخر وهلم جرّا. إذا أخذنا مثلا حيواناً وتساءلنا: لماذا هذا الحيوان حي؟ ما سبب استمراره في الوجود؟ رأينا أن لذلك أسباباً متعددة، منها ضغط الهواء وحرارته، ومنها المواد الكيماوية التي يحويها الهواء، ومنها الأطعمة التي يتناولها الحيوان وهلم جرّا. ولنختر الآن من بين هذه الأسباب العدة أحدها، مثلاً الأطعمة، ولنتساءل من أين تأتي المواد الغذائية التي تحفظ حياة هذا الحيوان؟

ما سببها هي؟ فنرى أن بعض هذه المواد- وسنتوقف عندها- أعني النشوية، وهي التي تحرك جسم الحيوان وتعطيه القوة والنشاط، لا يمكن أن تأتي في النهاية إلا من النباتات. وهنا نتابع تساؤلنا فنفتش عن سبب وجود هذه المواد النشويّة في النباتات فيتضح لنا أنها تتكون من اتحاد الكربون بالمواد الكيماوية التي تمتصها النباتات من الأرض بواسطة جذورها. ونتساءل من أين يأتي هذا الكربون؟ فيجيب العلم أنه يأتي من تحليل الحامض الكاربوني أو ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء ولكن كيف يتم هذا التحليل، ما هو سببه؟ إنه يتم بتأثير مادة الكلوروفيل الموجودة في النبات. ولكن من أين للكلوروفيل هذه الطاقة على تحليل ثاني أوكسيد الكربون؟ هنا يظهر البحث العلمي أن هذه الطاقة مستمدة من الطاقة الشمسية. وبقي علينا أن نتساءل من أين تأتي طاقة الشمس هذه؟ فتجيبنا إحدى النظريات العلمية أنها ناتجة عن تفكيك ذرات الهيدروجين في الشمس. وهنا لا بد للعقل أن يتساءل عن السبب الذي يحدث هذا التفكيك وهذا السبب يستدعي بدوره سبباً آخر وهلم جرّا.

وهكذا حيثما انتقلنا في هذا الكون نجد سلاسل مرتبطة حلقاتها ارتباطاً متينا. العلم يتوقف عند اكتشاف هذه السلاسل ووصفها ومحاولة إضافة حلقات جديدة إليها. ولكن الفكر الإنساني لا يسعه أن يقف عند هذا الحد، لأنه بطبعه متعطش إلى تفسير أعمق وأشمل. لذلك فعندما نتأمل في تسلسل الأسباب نرى أنه يفترض عقلياً وجود سبب أول تستند إليه كل سلاسل الأسباب والا فقدت كل هذه السلاسل مبرر وجودها.

لنأخذ مثلاً على ذلك. آلة مركبّة من دواليب كثيرة يحرك أحدها الآخر. فكل من هذه الدواليب يستمد حركته من دولاب آخر. ولكن مهما كثر عدد الدواليب، وحتى لو افترضنا أن العدد غير متناه، فهذا لا يمنع أن تكون حركة كل من الدواليب وحركة الآلة كلها مستمدة من مصدر طاقة هو في الواقع السبب الحقيقي لحركة الآلة كلها. هذا المصدر اذا ألغيناه تتوقف الآلة حتما لأن الدواليب، مهما تعددت، تصبح بدونه عاجزة عن نقل أية حركة.

هكذا العلم يكتشف دوما أسبابًا جديدة يضيفها في سلاسل الأسباب إلى الحلقات المعروفة قبلاً. ولكن مهما امتدت هذه السلاسل وتعقدت فهذا لا يغني عن مصدر تستمد منه الأسباب كلها وجودها وفاعليتها.
تسلسل الأسباب في الكون يستدعي إذا وجود سبب أول.

ولكن ماذا نعني بعبارة “السبب الأول”؟ إننا لا نعني بها أولية في الزمان كما يتصور البعض من أصحاب المثل المشهور: من أين أتت هذه البيضة؟ – من دجاجة. والدجاجة؟ – من بيضة. والبيضة هذه؟ – من دجاجة الخ… حتى الإنتهاء إلى هذا السؤال: والبيضة الأولى؟ أو الدجاجة الأولى؟ كلا، ليست القضية في جوهرها قضية تسلسل زمني والا لما كان لها حل عقلي لأن لا شيء يمنعنا منطقيًا من أن نرتقي هكذا من بيضة إلى دجاجة ومن دجاجة إلى بيضة إلى ما لا حد له. القضية تسلسل كياني، جوهري، تسلسل الارتباط والتبعية كما اتضح لنا من مثل الآلة المذكورة آنفا. إن النتيجة الفلانية مرتبطة بالسبب الفلاني وهذا بدوره نتيجة لسبب آخر، فهذا يعني أن ليس أحد من هذه الأسباب سبباً مطلقًا، لأنه يستمد وجوده من غيره لذلك يقتضي وجود سبب مطلق، منه تنبع كل هذه الأسباب الجزئية ومنه تستمد في كل لحظة، ليس فقط في الماضي بل في الحاضر وفي المستقبل أيضاً، وجودها وفعلها، كما أن دواليب الآله تستمد في كل لحظة حركتها من الطاقة المحركة.

ولكن الفرق بين تلك الطاقة التي تحرك الآلة و”السبب الأول” الذي ذكرناه هو أن تلك الطاقة المحركة هي أيضاً سبب جزئي يستمد وجوده من آخر، ولذلك ليست الا صورة لا تفي بالقصد عن”السبب الأول” الذي لكونه سبباً مطلقاً يختلف بطبيعته كل الاختلاف عن الأسباب الأخرى إذ هو ينبوع كل وجود فيما لا تستمد الأسباب الأخرى وجودها إلا منه. وهو متميز عنها جوهرياً، متعال عنها كل التعالي ولا يعقل أن يكون هذا السبب المطلق عنصراً من عناصر الكون لأن كل عناصر الكون متشابهة، متجانسة في طبيعتها، ولا يعقل أن ينسب الإطلاق لبعضها دون الآخر. لذا لا يمكن أن يكون السبب المطلق إلا جوهراً متعالياً عن الكون وهو ما نسميه الله.

أودّ أن أضيف شيئاً إلى هذا السبيل العقلي الأول إلى الله. إذا كانت القضية، كما أوضحنا، قضية ارتباط كياني فإن هذا الدليل لا يفقد قوته ولو افترضنا أن سلاسل الأسباب الجزئية امتدت في الزمن إلى ما لا نهاية له. ولكن هذا الافتراض نفسه يصطدم ببعض نظريات العلم الحديث التي تؤول إلى الاعتقاد بأن الكون له بداية زمنية. فنظرية “توسع الكون” تقول بأن الكون بدأ بالامتداد انطلاقًا من ذرة كبيرة أولى كانت تتمتع بقوة إشعاعية وأن هذه الذرة انفجرت في لحظة ما فولّدت الكون في امتداد مستمر متزايد عبر الزمن. أما نظرية فقدان الطاقة فهي تقول أن الطاقات في تحولها بعضها إلى بعض تفقد شيئاً من ذاتها بشكل رواسب حرارية. يستنتج من ذلك أن مستوى الطاقة في الكون في تدن مستمر وأنه ستأتي لحظة تفقد فيها الطاقة تماماً. ولكن هذه الطاقة التي تنتهي شيئاً فشيئاً لا بد أن تكون قد بدأت، وإلا وقعنا في تناقض منطقي بتأكيدنا من جهة أن هذه الطاقة لامتناهية (إذ إنها لم تبتدئ) ومتناهية (لأنها تنتهي). من خلال هاتين النظريتين وغيرهما يطرح العلم الحديث مسألة ابتداء الكون منذ زمن يقدّره البعض بين عشرة مليار ومائة مليار من السنين.

وهذا ما يقودنا إلى عتبة سؤال جوهري: إذا كان الكون قد بدأ، فمن الذي أدخله إلى الوجود؟ وهنا لا بد لي من التنويه بالاعتراض الذي يبديه البعض بقولهم: قد يكون أوجد ذاته ولكن هذه العبارة فيها تناقض منطقي إذ تفترض أن وجوده كان سابقاً لوجوده. أما “السبب الأول”، الله، فلا يقال عنه أنه “أوجد ذاته”، لأنه بحد ذاته الوجود المطلق، أو ما كان يسميه الفلاسفة الأقدمون “واجب الوجود”.

ب- نظام الكون: ومن جهة أخرى نرى أن الكون يسوده نظام وترتيب. ذلك أن أحداثه كلها تجري بموجب نواميس محددة وشرائع ثابتة وهذا ما يجعل من العالم “كونا”(cosmos) أي مجموعة مرتبة ومنظمة وليس “فوضى”(chaos). وهذا هو أساس قيام العلوم، لأن العلم يقوم على افتراض وجود نواميس ثابتة في الكون، حتى أن الفلكي يمكنه أن يعيّن بالتدقيق الزمن الذي سوف يحدث فيه خسوف قبل حصوله بألف سنة، معتمداً على قيام نظام ثابت في الكون لا يتغير مع الزمن ولكن كيف يُفسَّر هذا النظام؟ أحداث الكون تسير بموجب نواميس، ولكن من رسم لها هذه النواميس؟ “الأحداث الطبيعية تخضع لشرائع ولكن من المشرّع؟” (أندرونيكوف).

ليس عند العلم جواب عن هذا السؤال، لأنه يلاحظ وجود النظام في الكون ويبني عليه أبحاثه وتطبيقاته، ولكنه يقف عند هذا الحد، فليس من خصائصه أن يوضح مصدر هذا النظام. العلم يصف النواميس، فيفسر لنا هكذا “كيف” تسير أحداث الكون، ولكنه يبقى ضمن نطاق “الكيف” ولا يتعداه إلى مجال “اللماذا”. ليس من خصائصه أن يتساءل عن أصل هذه النواميس. ولكن الفكر الإنساني المتعطش إلى الأجوبة النهائية ينفذ إلى أبعد من ذلك. إنه يتساءل عن واضع النظام للكون، عن مشرّع نواميسه.

إن نواميس الكون تفسر أحداث الكون ولكنها هي بحاجة إلى من يفسرها. هذا ما يتضح خاصة عندما نرى هذه النواميس تعمل وكأنها موجهة نحو غاية وهدف. إن الحياة بشتى مظاهرها تضعنا أمام هذه الغائية التي تتجلى مثلاً في غرائز الحيوانات وفي تركيب أجسامها. إذا شئنا أن نبني قصراً علينا أن نضع بضعة ملايين من الحجارة كلاًّ في مكانه ولكن تركيب أقل عضو من جسمنا يتطلب ترتيب مليارات من الذرات بموجب تصميم وهدف.

فهل ندّعي بأن الطبيعة أعطت لذاتها هذه النواميس ورسمت لذاتها أهدافًا؟ ولكن أنى للقوى غير الواعية التي تتألف منها الطبيعة أن تعطي ذاتها نظاماً وغاية، اللهم إلا إذا عنينا بالطبيعة ليس تلك المجموعة من القوى الآلية التي يحللها العلم، إنما جوهرًا صَنَعَه فكرُنا ونسب له صفات إلهية ليستعيض به عن الله. هكذا يبدو لنا التناقض الكامن في موقف الطبيعيين فإنهم من جهة لا يرَون في الطبيعة إلا مجموعة من القوى الفيزيائية والكيماوية العمياء ومن جهة أخرى ينسبون لهذه المجموعة فكرًا موجِّهًا يوجد نظامًا ويسعى إلى أهداف. إنهم من حيث لا يدرون يبنون لاهوتاً ولكنه، على حد تعبير Etienne Borne، أسوأ لاهوت، لأنه مبني على تناقض صارخ.

أما إذا شئنا أن نتحاشى هذا التناقض ، فعلينا أن نقرّ بوجود فكر خلاق يفسر وحده نظام الكون وترتيبه وغائيته. بدون هذا الفكر لا يمكن لقوى الطبيعة، مهما كانت جبارة، أن تنظّم الكون، كما أن سائق السيارة إذا عُصبت عيناه لا يمكن أن يقود سيارته بشكل مرتب مهما كانت جودتها. هذا الفكر الخلاق الذي ينظّم الكون ندعوه الله.

3-سعي الإنسان إلى المطلق:
ولننتقل الآن إلى الإنسان فمنه أيضًا تنطلق سبل تقودنا إلى الله. ولنكتفِ الآن بأن نسلك سبيلاً منها ألا وهو عطش الإنسان إلى المطلق.
يمكن أن يحدَّد الإنسان بأنه “حيوان قلق”. هذه ميزة أساسية يختلف بها عن سائر الكائنات الحية. فالحيوان إذا أشبع حاجاته الغريزية، ينام هادئاً. فرغباته محدودة، سهلة الإرضاء، لذلك ليس في حياته مشاكل. أما الإنسان فكلما أشبع رغباته اشتدت وقويت فيه هذه الرغبات، وكأن هناك شيئاً في أعماق كيانه يحركه ويعذبه ويوجهه ويدفعه دون هوادة.

في الإنسان تباين دائم، تفاوت مستمر بين ما يملكه وما يرغبه، بين إرادته ومقدرته. بين ما هو عليه وما يريد أن يكون، لذلك يعمل لإزالة هذا التباين ولكنه لا يتوصل قط إلى هذه الغاية. فكلما حاول أن يقترب من مرغوبه ابتعد هذا عنه موقظًا في نفسه الخيبة والحسرة.

هذا ما نراه في كافة مجالات الحياة الإنسانية فلنأخذ الشهوة مثلاً على أنواعها. المثل السائر يقول: “عين الإنسان لا تشبع”، وهذه حقيقة اختبارية. فهل تقف شهوة المال عند حد تأمين ضروريات الحياة ومباهجها؟ كلا، بل كلما ازداد الغنى ازداد الطمع بالمال والعطش إليه. كذلك من سعى وراء الشهرة والمجد لا يقف عند حد بل كلما صعد إلى قمة تاق إلى أعلى منها.

ولنأخذ الحب فان فيه ما هو أبعد وأعمق من العناصر الجسدية والعاطفية. المحب يسعى إلى ما هو أبعد من اتصال الأجساد واتحاد النفوس، إنه يصبو إلى شيء غير متناه يشبع رغبته. لذلك نراه ينسب لمحبوبه جمالاً فائقاً ويحيطه بهالة من العبادة. إنه يسعى إذاً، من خلال شخص المحبوب، إلى امتلاك خيرات غير متناهية لا يمكن لطبيعة المحبوب المحدودة أن تعطيها.

هذا العطش إلى المطلق نراه أيضاً في السعي إلى القيم. فالعالِم الذي قام باكتشاف ما، لا يقر له قرار بل يتابع بلهفة أبحاثه لتتميم اكتشافه باكتشافات أخرى. والفنان الذي حقق تحفة رائعة لا يرتاح بل يسعى إلى خلق ما هو أقرب إلى الحلم الذي يداعب خياله.

هكذا فالإنسان، في كل المجالات، ميال إلى تجاوز نفسه باستمرار مندفعًا إلى الأمام بحركة لا تتوقف لأن المطلق يجتذبه ولا يرتاح إلا اليه.

لذا يصادف في طريقه الخيبة تلو الخيبة. لأن كل ما يجده من لذة ومال وشهرة وعلم وحب وفن، كل ذلك نسبي، محدود، ناقص. من منا لم يتصور في لحظة ما أنه لو امتلك الشيء الفلاني لوصل إلى أوج السعادة، سواء أكان هذا الشيء مركزاً أو ثروة أو حباً أو شهرة؟ ولكن حالما أصبح الشيء المرجو بين أيدينا أحسسنا بأننا لم نعد نشتهيه وكأنه فقد في نظرنا قيمته. ولا يجب في هذه الحالة أن نحمّل الشيء الذي كنا نصبو إليه مسؤولية خيبتنا. فالخيبة هذه مصدرها ليس الشيء بل نحن، إذ أننا انتظرنا من الشيء ما لم يكن بإمكانه أن يعطينا إياه. إن رغبتنا غير متناهية وكل شيء في هذه الأرض محدود وزائل. لذلك فعندما يخيّب شيء ما أمَلَنا نسعى وراء شيء آخر نضع فيه الأمل نفسه وهكذا نجري من خيبة إلى خيبة ومن حسرة إلى حسرة. إن أكبر الرسامين والكتّاب عبّروا لنا عن شعورهم باليأس المرير عند انتاجهم تحفة فنية أو أدبية صبوا إلى تحقيقها بملء جوارحهم، ذلك لأن ما حققوه كان بعيدًا عما كانوا يتوقون إليه.

هكذا فإن إرداتنا تتجه ظاهريًا نحو الأشياء المحدودة الزائلة ولكن هذه الأشياء لا ترضينا. كيف نعلّل ذلك؟ تعليله هو أن إرادتنا تطلب بالواقع من خلال الأشياء المحدودة الزائلة، حقيقة لا تُحدّ ولا تزول. لذا ميز الفيلسوف المعاصر موريس بلونديل بين إرادتنا الواعية السطحية المتجهة نحو المحدود والزائل والتي سمّاها “الإرادة المرادة” (la volonté voulue) من جهة وإرادتنا الكيانية العميقة التي سماها “الإرادة المريدة” (la volonté voulue) من جهة أخرى، تلك الإرادة التي تدفعنا دومًا إلى المزيد وتوجد فينا عطشاً لا يرتوي لأنها تصبو بالفعل إلى ما هو مطلق.

تلك الإرادة هي الإرادة الأصيلة في الإنسان المعبّرة عن كيانه العميق. أما الإرادة الأخرى أي الإرادة المرادة فهي مشتقة من الثانية، تعبّر عنها وتخونها بآن واحد. تخونها لأنها لا تسعى إلا وراء أمور الدنيا بينما الإرادة الكيانية العميقة تصبو إلى ما هو أبعد وأعمق وأبقى.

هذه الإرادة الكيانية العميقة ليست قضية فردية قد نتجاهلها. إنها متأصلة في كيان كل إنسان مهما كان، حتى في كيان الذين ينكرون وجود المطلق واللامتناهي. الإنسان يفتش عن اللامتناهي ويسعى إليه ولو كان لا يعي ذلك، ولو كان يحارب فكرة اللامتناهي. طالما هو يسعى دائماً إلى ما هو أفضل، إلى حقيقة كاملة، إلى عدالة كاملة، إلى سعادة كاملة، إلى لذة كاملة، إلى شهرة كاملة، طالما هو دوماً غير راض عن واقعه وحالم بشيء أفضل، طالما هو محاول دوما وبدون انقطاع أن ينطلق من واقع لا يرضيه إلى واقع آخر، طالما هو قلق حتى في وسط لذته وسعادته، وبكلمة واحدة، طالما الإنسان إنسان، فمهما كانت نظرياته ومهما كان شعوره السطحي، لا بد أن تكون كامنة فيه تلك الإرادة العميقة للخير الأسمى. ليست هذه الرغبة إذاً هوى عابراً أو نزوة فردية، إنها جوهرية، أساسية كالجوع والعطش، كالحاجات البيولوجية العميقة.

فكيف تكون رغبة كهذه فارغة، جوفاء، لا يقابلها شيء في الواقع؟ إن كل رغبة طبيعية تجد ما يقابلها. فالرغبة في الطعام مثلاً يقابلها وجود الطعام والعطش يقابله الماء وغريزة الطيور التي تدفعها في الشتاء للهجرة إلى بلاد حارة يقابلها وجود هذه البلاد بالفعل. فإذا كانت الميول الطبيعية تجد ما يقابلها في الكون، فهل يعقل أن يكون الإنسان وحده، مع أنه قمة الطبيعة وأكمل الكائنات، كائنا تقوده رغبة لا مبرر لوجودها ولا معنى؟ من المنطق أن نعتقد بالأحرى أن هذا الميل الذي لا حد له متجه إلى كائن غير محدود يستطيع وحده أن يلبيه. كما أن القالب يفترض وجود شيء يملأ فراغه، كذلك فراغ الإنسان الذي لا حد له يفترض وجود ملء لا حد له. كما أن المد يفترض وجود القمر الذي يجتذب مياه البحر إليه، ولو كان القمر مختفياً وراء السحب، كذلك “مدّ النفوس” في سعيها المتواصل إلى المطلق يستقطبه الله ولو احتجب الله عن نظرنا وإدراكنا.

الله قطب إرادتنا العميقة، كما أنشدت المزامير: “سأشبع إذا ظهر لي مجدك”، وكما قال أوغسطينوس المغبوط: “يا رب، لقد خلقنا متجهين إليك ولذلك لن تجد قلوبنا راحة إلا إذا استقرت فيك”.

الإلحاد الحديث
تلك الأدلة العقلية لا تساعد على قبول الله إلا من كان في استعداد كياني لذلك. لقد قلنا سابقاً أن قبولي الله يفترض استعدادي لقبول تبعيتي المطلقة. ولكنه يصعب على الإنسان أن يتخذ موقفاً كهذا. صعب على الإنسان أن يكون مستعداً للإقرار بفقره المطلق. شهوته أن يملك نفسه، أن يزنر نفسه ويذهب إلى حيث يشاء على حد تعبير الإنجيل. لذا يصعب عليه أن يكون مستعداً لتسليم قياده لآخر وللذهاب كإبراهيم، “أبي المؤمنين”، إلى حيث لا يدري.

خطيئة الإنسان الصميمية العميقة هي اكتفائيته التي تدفعه إلى اعتبار ذاته مرجعًا وأصلاً لذاته. أليس هذا كنه الخطيئة الجدية: “ستصيران آلهة”، تلك “النرجسية الروحية”، على حد تعبير اللاهوتي الأرثوذكسي الفرنسي أوليفيه كليمان، التي لا تزال تسخّر العقل البشري في خدمتها؟

هذا صحيح بنوع خاص بالنسبة للإنسان الحديث الذي تسكره إلى حد بعيد السلطة التي أحرزها على الكائنات. ولذلك لا يتخذ الإلحاد في أيامنا مجرد شكل إنكار الله بل هو أبعد وأعمق من هذا، إنه رفض لله، كوسيلة وشرط أساسي لإبراز الإنسان. هذا ما أعلنه منذ أواخر القرن الماضي نيتشه عندما نادى “بموت الله”، على حد تعبيره، كسبيل لا بد منه لتكوين الإنسان الجديد، ذلك الإنسان المتفوق الذي يتجاوز مقاييس الخير والشر فيكون هو المقياس الوحيد، وهذا ما قال به المفكر الثوري باكونين في تصريحه الشهير: “لو كان الله موجوداً، لوجب انكاره”.

وسأستعرض بإيجاز هذا الرفض لله قصد تأليه الإنسان في مظهرين أساسيين من مظاهر الإلحاد المعاصر هما: الماركسية والوجودية الملحدة.

فالماركسية: ترفض الله لأنها تعتبر أن الاعتراف به شكل من أشكال العبودية أو مظهر من مظاهر فقدان الإنسان لنفسه. وهي بذلك تسير على خط الفيلسوف الألماني (Feuerbach) الذي ادّعى أن الإنسان يفقر ذاته بكل ما يغني به الله. يقول ماركس في كتابه “نقد فلسفة الحقوق عند هيغل”: “الدين هو بالحقيقة الإحساس الخاص بالإنسان الذي إما أنه لم يجد نفسه بعد أو أنه فقدها”، ويضيف: “إن فَقْدَ الدين يؤدي إلى اعتناق هذا المبدأ: الإنسان هو الكائن الأسمى للإنسان”، وبعبارة أخرى يمكن أن نقول بأن الماركسية ترفض الله “الكائن الأسمى” لتستعيض عنه بالإنسان.

أما الوجودية الملحدة: فقد نادت بأن الإنسان لا يمكن أن يكون حرًا، خلاّقًا، وبالتالي موجوداً بالفعل، إلا إذا كان لا مصدر له ولا مرجع. بنظرهم، إما أن يكون الله موجوداً والإنسان غير موجود، أو أن الإنسان موجود والله غير موجود. لذا يجب، حسب رأيهم، أن ينكِر الله ليوجد الإنسان. ففي مسرحية الذباب لسارتر، لا يوجد أوريست إلا عندما يقتل أمه دائساً بهذه الجريمة التي تمجها الطبيعة إرادة جوبيتر. إنه يجد ذاته في هذا التحدي للإرادة الإلهية ولذا يقول لجوبيتر: “الحرية قد انقضّت عليّ فجأة واستولت على مشاعري … ولم يعد من شيء في السماء، لا خير ولا شر، ولا شخص ما يملي عليّ أوامره”. وكأننا نسمع هنا صدى تعليم نيتشه عن الإنسان المتفوق الذي تجاوز مقاييس الخير والشر. أما غوتز بطل رواية “الشيطان والله”، فبعد أن تحدّى الله بارتكابه الشر ثم بمحاولته منافسته في صنع الخير، توصل في آخر المطاف إلى إنكار الله لكي يوجد هو، مردّداً على دفعتين العبارة النيتشوية الشهيرة: “لقد مات الله” ومضيفاً: “لقد قتلت الله”، وتعليل ذلك أنه، على حد زعمه، “إذا كان الله موجوداً، فالإنسان عدم”.

هذا التحليل الموجز لتيارين من أهم تيارات الإلحاد المعاصر يشير إلى هذا الموقف الكياني الذي يتجلى فيه، إلا هو موقف رفض الله لتحرير الإنسان وتأليهه. لن أتوسع في تبيان خطأ الفكرة الكامنة في صميم هذا الإلحاد عن علاقة الله بالإنسان إنما أريد التنويه بأن الافتراض الأساسي الذي يقوم عليه رفض الله في هذين التيارين الملحدين القائل بأن الإنسان غير موجود إذا كان يستمد وجوده من الله، خطأ في أساسه. إن كياني موجود- موجود إلى حد أن الله يسمح لي بأن أرفضه إذا شئت وبأن أرفضه إلى الأبد- ولكن هذا الكيان ليس لي ومني، إنه نعمة أُعطاها، إنه عطية حب حتى ولو استخدمت هذه العطية ضد معطيها. يقول جان دانيالو: “كوني مخلوقاً لا يعني أن الوجود ينزع مني كما يقول سارتر، إنما ينزع مني امتلاك هذا الوجود، ما ينزع مني هو إرادتي بالاكتفاء الذاتي”. همّ الله لا أن يزيل وجودي بل أن يمدني من وجوده،: طبيعة الله لا أن يتملك ويحتفظ لنفسه بل أن يعطي ويغدق، وما يطلبه مني هو أن أتقبل منه هذا العطاء. فإذا تقبلته باختياري أعرف هكذا- وهكذا فقط- الحرية الحقة التي هي أن أجد ذاتي وأحقق ملء كياني متحرراً من كل ما يحول بيني وبين حقيقتي. لأن حرية الزهرة- إذا صح التشبيه- ليست بأن تتصرف على هواها فتنفصل عن الجذع بل أن تحقّق كيانها كزهرة بالتحاقها به. بهذا المعنى يقول الفيلسوف الوجودي المؤمن كارل ياسبرز: “عندما أعرف أنني حر بالحقيقة، أعرف في آن واحد بأنني أُعطيت لذاتي هدية من التعالي”. في الله أجد ذاتي على حد تعبير بول أفدوكيموف، لأنه، وكما قال أوغسطينوس، “أقرب إليّ من ذاتي”.

في الواقع أنني بقدر ما أريد الاكتفاء بذاتي أهدم ذاتي وبقدر ما أقر بفقري أؤكد ذاتي بالتصاقي بالله مصدر وجودي وينبوعه.
لذلك فكل محاولة لتأليه الإنسان دون الله محكوم عليها بالفشل، هذا ما يتضح لنا إذا تأملنا في مفهوم الإنسان في الإلحاد الماركسي والإلحاد الوجودي.

لقد شاءت الماركسية أن تخلق إنساناً جديداً متألهاً. ولكنها برفضها الله جعلت من الإنسان مجرد كائن بيولوجي، اقتصادي واجتماعي، هو من الأرض ولها، لا يغتذي إلاّ بأطعمة الأرض- وإن تناول أشرفها من فكرية وفنية واجتماعية. وبذلك جعلت منه إنساناً مبتورًا لأنها حرمته من بعده الروحي، من ذلك “المناخ الوحيد الذي فيه يمكنه أن يتنفس، ذاك البعد الثالث، إذا صحّ التعبير، الذي يجد به الإنسان عمقه” على حد تعبير Henri de Lubac. ذلك أن الإنسان ينزع في أعماقه إلى المطلق واللامتناهي والكون كله لا يمكنه أن يملأ سعة قلبه التي تحدث عنها باسكال، لأن ذلك القلب أُعد لسكنى من لا يسعه الكون.

الماركسية تتجاهل تلك الحاسّة الروحية الأساسية في الإنسان وتحاول أن تخدّرها. لقد قال ماركس كلمته الشهيرة: “الدين أفيون الشعوب”. بالفعل إن سوء فهم الدين يمكن أن يدفع بالإنسان إلى الهرب من مجابهة الحياة وهذا عكس التدين الصحيح الذي هو رجولة وواقعية على حد تعبير الرسول “كونوا رجالاً، تشددوا”.

ولكن يمكننا أن نعكس جملة ماركس وأن نقول أن الاهتمام بالحياة الترابية دون سواها تخدير للحاسّة الروحية الأصيلة في الإنسان. مثل الزارع في الإنجيل يذّكرنا دومًا بأن عبء اهتمامات الدنيا إذا طغت حريّ بأن يسكت النداء العميق إلى المطلق والأبدي. إن “الإرادة المرادة” يمكنها أن تحجب “الإرادة المريدة” إذا شئنا استعمال تعابير بلونديل، وهكذا نبتر في الإنسان إحدى مقوماته الرئيسية ويتجرّد من أصالته الانسانية متحولاً إلى مجرد حيوان إجتماعي من مرتبة عليا. ولكن إطفاء هذه الجذوة ليس بالأمر السهل، وقد أظهرت لنا شهادات حديثة أن تساؤلات حول معنى الوجود تراود المثقفين الشباب في روسيا بعد عشرات السنين من التربية المناهضة للدين ومن الحضارة الإلحادية، تساؤلات تشبه هذا القلق الديني الذي يعتري أبطال دوستويفسكي، والجدير بالذكر أن الطبعة الكاملة الأولى بعد الثورة لمؤلفات هذا الكاتب نفدت في نصف يوم.
ذلك أن الماركسية فشلت في إعطاء معنى تام للحياة لأنها لم تستطع أن تعطي معنى للموت.

الإنسان في المنظار الماركسي يعيش فترة ثم يزول فيبتلعه الفناء، ويمحي كأنه لم يوجد. يقولون أنه قبل فنائه أدّى رسالة بتمهيده الطريق لجيل آخر. ولكن هذا الجيل الآخر يفنى بدوره وهكذا دواليك في”هرب مستمر أمام الموت” على حد تعبير بردياييف، إلى أن يأتي يوم تفني فيه المادة زهرتها الفضلى أي الإنسانية، كما يقول المفكر الماركسي انجلز معلقاً على نظرية فقدان الطاقة، دون أن يترك تطورها الأليم وجهودها الجبارة أثرًا يذكر. هكذا فالإنسان، في المنظار الماركسي ورغم الجهود الجبارة التي بذلها الماركسيون لتحريره، لم يتحرر في الأعماق لأنه لم يزل عبداً للموت.

هذا الفشل في تأليه الإنسان دون الله، الذي لا تعترف الماركسية به، تقره الوجودية الملحدة، وهذا هو فضلها. فالوجوديون الملحدون، على خلاف الماركسيين، ذهبوا في نكرانهم لله إلى آخر حدود، المنطقية وفهموا أن الإنسان إن لم يستمد معنىً لوجوده من الله، فهو لا معنى، فقبلوا بهذا اللا معنى، ونادى سارتر بأن الإنسان “شهوة لا نفع لها” (“une passion inutile”) وأن لا مبرر لوجوده (“de trop”) وان تلك الحرية التي تكوّنه إنما هي عبء محكوم عليه به (“condamné à la liberté”) وأن لا جدوى لها (“pour rien”). فهموا أن الإنسان إن لم يستمد سعادته من الله، شقي، فقبلوا بهذا الشقاء

فهموا أن الإنسان، إن لم يلتصق بالله، فهو وحيد وممزق، بعيد عن ذاته وبعيد عن الآخرين: “الجحيم هو الآخرون”، فقبلوا بهذه العزلة وبهذا التمزيق. فهموا أن الإنسان لا كينونة له ولا كفالة وجود إذا رفض أن يستمد كينونته من الله، فقبلوا بهذه اللاكينونة وبوجود لا قوام له، على أن يكون هذا الوجود نابعاً من الإنسان وحده.
هنا نرى الرفض الكياني لله في آخر أبعاده ونرى أية رؤية قاتمة يائسة، للإنسان، تنتج عنه.
مجمل الكلام أن كل محاولة لتأليه الإنسان دون الله فاشلة لا محالة، إذ تؤدي إلى مسخ الإنسان عوض تأليهه. منذ عصر النهضة ينزع الإنسان إلى اعتبار نفسه مركزاً لذاته وللكون وقد تبلورت هذه النزعة بشكل حادّ في العصر الماضي والعصر الحاضر وأدّت إلى رفض الله ليوجد الإنسان، ولكن الإنسان بفقده الله يفقد ذاته لأن علاقته بالله ليست سطحية وخارجية إنما هي كيانه الأصيل ومحور شخصه. لذا كتب بردياييف بحق: “حيث لا يوجد الله، فالإنسان أيضًا ليس بموجود”.

هذا الإنسان الممسوخ ينقلب عليه حتى ذلك الذي حاول أن يتأله به. فالعلم الذي هو في الأساس هبة من الله “الذي يعلّم الإنسان العلم”، سلاح ذو حدين، يهدد الإنسان بالدمار إذا مسخ الإنسان صورته بابتعاده عن خالقه، مطلقًا العنان لمطامعه وأحقاده. هذا ما يسهُل فهمه في العصر الذي نعيش فيه حيث رأينا اينشتاين اوبنهيمر يبديان جزعهما أمام الاستعمالات الممكنة للطاقة الذرية التي اكتشفاها وتلامذتهما. ولنا على ذلك شهادة عالم كبير غير مؤمن وهو العالم البيولوجي جان روستان وقد كتب “لقد جعل العلم منا آلهة قبل أن نستحق أن نكون بشراً”.

4-النواحي الإيجابية في الإلحاد الحديث:
ولكن هذا النقد للإلحاد الحديث لا ينفي وجود عناصر إيجابية هامة فيه. ذلك أن رفضه الله هو إلى حد بعيد رفض لا للإله الحقيقي الحي الذي عرفناه بيسوع المسيح بل لتصورات عن الله هي من صنع البشر. هذه التصورات تختلط بإيمان الكثيرين حتى إنها تبدو ملازمة له فتقود هكذا إلى رفض الإيمان بجملته. وهكذا يكون الدور الإيجابي للإلحاد الحديث، كما بيّن الفيلسوف المسيحي المعاصر جان لاكروا في كتابه: “معنى الإلحاد الحديث”، إنه يساعد المؤمنين على تنقية ايمانهم بالتمييز بين الإله الحق وبين ما يُنسب إليه من ميول البشر وتصوراتهم.

يقول الله في نبوءة إشعيا “ليست أفكاري كأفكاركم ولا طرقي كطرقكم، لكن كبعد السماء عن الأرض، هكذا تبعد أفكاري عن أفكاركم وطرقي عن طرقكم”. ليس الله نوعًا من الضمانة لطمأنينتنا وهنائنا الرخيص وتحقيق أمانينا الأنانية. ليس ذلك الإمتداد الطفلي لعناية الوالدين الذي رآه الإلحاد الفرويدي عند الكثيرين. الله يختلف جذرياً عمّا يخطر على قلبي البشري وما يمكن أن أتصوره وأنتظره وأشتهيه. ليس دوره أن ينزع عن الحياة طابع المأساة وإن كان يعطي وحده لهذه المأساة معنىً، هذا ما ينساه المؤمن في كثير من الأحيان ولذا يشرف على الكفر عندما تصيبه مصائب أليمة لأنه كان، إلى حد ما، يعتبر الله صورة عن أمانيه.

ثم ليس الله واسطة كسولة لسدّ فراغ معرفتنا للأشياء أو حجة للتهرب من التنقيب العلمي الشاق الرصين أو بعبعًا يحول دون انطلاق الفكر البشري نحو المعرفة. ليس الله ضمانة لنظام اجتماعي أيًّا كان وبنوع خاص إذا كان هذا النظام يكرّس استغلال فئة لأخرى وتوزيعًا غير عادل لخيرات الأرض. إن استخدام الثري فولتير لفكرة “الإله الدركي” لتكريس تفاوت الثروات، ذلك الإستخدام الشائع حتى الآن، إنما هو عمل كفري ينحدر بالله إلى مستوى جشع الإنسان. ليس الله مدعاة للتخاذل والخنوع أمام مصاعب الحياة ومشاكلها وآلامها وأمام ظلم الناس وطغيانهم. ليس حلماً جميلاً يخدّرنا ويلهينا عن الجهاد لبناء عالم أفضل.

إن الهاً كهذا بعيد عن الإله الحقيقي بعد السماء عن الأرض. إنه مجرد صنم. ذلك لأن الصنم هو من صنع البشر وميزته إنه على صورة صانعيه كما كان الأقدمون ينسبون غرائزهم لآلهتهم فيقيمون إلهاً للحرب وإلهاً للسرقة وإلهة للفسق وما شاكل ذلك. وباطلاً يتخذ الصنم شكل الالوهة لأنه ليس سوى صورة كاريكاتورية عنها.

الإله الزائف الذي تحدثنا عنه صنم لأنه مصنوع بالفعل على صورة جهل الإنسان وكسله وخوفه ومطامعه، إنه صنم لأننا اتخذنا رغائبنا وتصوراتنا مقياساً له بينما الإله الحقيقي هو مقياسنا ومقياس كل شيء.

عندما كان غوتز بطل مسرحية “الشيطان والله” لسارتر يعتقد انه يخدم قضية الله في الأرض كان بالفعل يسعى إلى تمجيد ذاته وكان الله بالنسبة لموقفه الكياني العميق، مجرد فكرة تبرر سعيه إلى العظمة والتسلط. خطأ سارتر أنه لم يميز بين هذا الإله الزائف والإله الحقيقي فاعتبرهما كليهما وهمًا، ولكن سلوكنا نحن المسيحيين يفسّر إلى حد بعيد التباساً كهذا. لذا فقد يكون ملحد أقرب بكثير إلى الله منا، لأنه يسعى إليه “بمشقة وأنين” على حد تعبير باسكال، رافضاً التصورات البشرية التي بها حجبنا عنه صورة الإله الحي، فيما نكتفي نحن بإله صنم على شاكلتنا نعبد من خلاله ذواتنا فنبقى- رغم المظاهر- أسرى اكتفائيتنا القتالة.

هذا هو “إلحاد المسيحيين” الذي يتحدث البعض عنه اليوم والذي يشكّل الإلحاد الآخر، إلى حد بعيد، رد فعل له. سبيلنا إذًا أن نتقبل بتواضع تحدي إخوتنا الملحدين “فنحفظ أنفسنا من الأصنام” كما أوصى الرسول يوحنا في رسالته الأولى (5: 21) لنتقبل إعلان الإله الحي، ذلك الإله الذي لا تطاله تصوراتنا بما أنه “ساكن في النور الذي لا يدنى منه “ولكنه يكشف ذاته في لقاء حبي، في ذهول العقل وسكون الرغبات وغياب الخيالات، للنفس المنفتحة لإشراقه.

صيف 1965
ك.ب.
“النور”، العددان 7و8، 1965