" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
خواطر حول فيلم "رجل اسمه بيتر"

A Man Called Peter
مع دجين بيترز وريتشارد ضد، إخراج
20th Century Fox
شاهدت منذ بضعة أيام عرض الفيلم المؤثر المسمى "رجل اسمه بطرس" ولما كنت عاجزًا عن الحكم عليه من الناحية الفنية رأيت أن أقف على الصعيد الإنساني – النفساني والروحي- لأحصر همي، في هذا البحث، في شخصية البطل ورسالته.

شخصية البطل: إن ما يلفت المتفرج لأول وهلة في شخصية بيتر هو روحه الفتية وحيويته المتدفقة. إن هذا الفرح الذي يشع من كل كيانه قد مهد له بلا شك مزاج سليم واتزان نفساني وجسدي قوي، ولكن منبعه الحقيقي أعمق بكثير إذ إنه يتدفق من هذه الإلفة مع الله التي تنوه عنها مقدمة الفيلم عندما حددت حياة بيتر بقولها أنها حياة "رجل عاش بالله مع الله". لقد أحس هذا الفتى الذي عرف الشقاء والحرمان بأن فرحًا عظيمًا قد اجتاحه عشية إخفاق أليم، عندما أشعره الله بوجوده الداخلّي، ولم يتركه هذا الفرح أبدًأ، فكان يشرق في كل آونة من وجهه الجميل.
أما الذي يلفت النظر بعد هذا فهو حب بيتر للحياة. وذلك أن بطلنا لا يزدري بأفراح الوجود، إنه يحب الطبيعة ويعشق الصيد ويغني في جذل أغاني نارية ويجد متعة في الحياة الاجتماعية والأحاديث. وعندما وضع الله الحب في طريقه نراه قد أحب بكل ما في قلبه العذري من قوة واندفاع. ومع ذلك، وفي هذا يكمن سر بيتر، فإن حب الحياة لم يشد هذا الشاب إليها، وأفراحها لم تخمد فيه الفرح الذي يفوقها عمقًا وقوة، فرح الإلفة مع الله، وهذا لأن كل جمال كان، في نظر ذلك المسيحي العجيب، انعكاسًا لوجه الآب وكل فرح وعدًا سريًا بالفرح الذي وحده لا يغنى وكل حب صورة لملكوت المحبة.

 ولذلك نجد عنده – وهذا أيضًا من متناقضات المسيحية - تعلقًا صادقًا بالحياة وانفتاحًا تامًا لله، في آن واحد. وبينما هو مندلج بكليته في العالم، نراه في الوقت نفسه، وفي كل آونة، منفصلاً عنه، محققًا بهذا القول الإلهي "أنهم في العالم ولكنهم ليسوا من العالم"، ويحتفظ بيتر حيال "صورة هذا العالم الزائلة" بالحرية المقدسة التي لأبناء الله فلا يُستعبد للعالم، لأنه يعطي للحياة معناها وعمقها الإلهيين وهو لذلك، عندما يلقي الموت ظله الرهيب على حياته القصيرة، ينظر إليه آتيًا محتفظًا بذلك الهدوء الذي ينتج عن الإيمان، ومهتمًا فقط بتتميم مهمته التي لأجلها وهبه الله مهلة، وعندما شعر أنه أتمها، نراه في ليلة موته، بين لمعان أضواء المدينة الكبرى التي أصبح رسولها، يشكر الله على ما أعطاه أن يعمل وكأنه يردد الكلمات المؤثرة: "الآن أطلق عبدك أيها السيد...".
وفي هذه الحياة القصيرة المليئة التي عاشها بيتر نجد الحب يحتل مركزًا هامًا فينشأ وينمو في كنف الله. إن روحَي بيتر وكاترينا قد تلاقتا واتحدتا من قمتيهما فقد ترك بيتر لله أمر اختيار زوجة له فلم يخب رجاؤه لأنه بالله وفي خدمة الله بدأ الاثنان يتقاربان، سواء عندما كانت كاترينا تتبع بانتباه ملهوف وانفعال غامض وعظة التي هداها أو عندما ارتجلت أمام مستمعين هازئين خطابًا بليغًا رددت فيه الألفاظ نفسها التي سرّت قلبها وربحت نفسها في آن واحد. وإذ جعل بيتر وكاترينا اتحادهما في الله، فإنهما بدلاً من أن يغرقا في زواجهما ويقبعا فيه، نرى أنه كان لهما حافزًا في حياتهما الروحية. ولذلك أيضًا صمد حبهما في وجه ذلك الانحلال الذي كثيرًا ما يقضي على الاتحاد بين شخصين مهما بدا متينًا لأول وهلة، ذلك الانحلال الذي يأتي نتيجة للعادة وللاصطدامات العديدة التي تحدث في الحياة الزوجية اليومية. إن ما أنقذ حب بيتر وكاترينا من الاختناق الذي يقضي على كل مجتمع مغلق لأنانيتين، هو انفتاحه التام لحب أعظم منه بكثير. لقد كان الحب في نظرهما حسب قول "سانت اكزوبيري" (Saint-Exupéry) "ليس فقط أن يتطلع الواحد إلى الآخر بل أن يتطلعا سوية في اتجاه واحد". ولذلك فإن كاترينا بدلاً من أن تحاول احتكار زوجها أصبحت له شريكة أمينة مخلصة في تتميم رسالته. وهكذا استطاع بيتر، لأن حبه كان مركَّزًا في الله، أن يؤكد لكاترينا بثقة مدهشة، أمام الموت المترصد: "ألا تعرفين أن لا شيء يمكن أن يفصلنا"، ولذلك كانت آخر كلمة خاطبها بها بمثابة ميعاد سري للقاء في صبح الحياة الأبدية الباهر.

ومع ذلك كله فإن بيتر قد عرف الضعف البشري، فقد سقط بدوره في تجربة الكبرياء الخداع، إذ أنه، نظرًا لمواهبه النادرة، قد ارتقى بسرعة حتى توصل، في غضون عشر سنوات، إلى مكانة مرموقة، وهذا مما جعله يستسلم، إلى حد ما، إلى نوع من العجب الذاتي لما أحرزه من نجاح عظيم. ولكن الله كان ساهرًا عليه فسمح أن تنتزعه المحنة من غفوة كانت تهدد بتخدير حياته الروحية. ولذلك نراه، عندما وجد نفسه عاجزًا عن أن يُخرج من مرارة اليأس تلك التي يحبها أكثر من كل ما في العالم، مجتاحًا بأزمة قصيرة مؤلمة يعلم في أثنائها أنه ترك الإلفة مع الله تفتر... وعندئذ، من أعماق القبو الذي جلس فيه على الحضيض خائر القوى، نراه يصعد إلى الله طلبته الحارة: "يا رب أعني، لأنني لا أستطيع شيئًا بدونك" فيفعم الملء الإلهي من جديد تلك النفس التي أفرغت ذاتها، ويفيض أيضًا على نفس كاترينا فتخلص بدورها.

رسالة البطل: إن رسالة بيتر تظهر لنا، على الأخص، في شكل خدمة الكلمة، ويجب أن نقرّ بأن بطلنا يعرف كيف يتمم على أكمل وجه هذا الواجب الخطر الشاق، فعظاته، عدا عن أنها تنبعث من صميم حياته، تجمع بين العمق وتقصّي الملموس والحي، وهي في بعدها عن التجريد تدخل في صميم حياة المستمعين وتجابههم بحقيقة المسيح معطية لكل أحد جوابًا عما ينتظره. ولنتذكر مثلاً تلك العظة الباهرة عن الله حيث يضع بيتر جانبًا البراهين التي لا تستطيع أن تؤدي إلا إلى "إله الفلاسفة والعلماء" ولكنه يخطو في إثر "باسكال" Pascal  فيحاول أن يكشف لمستمعيه "الإله الذي يشعر به القلب" Dieu sensible au coeur ذلك الإله الحي الذي يُختبر بيقين ولكنه لا يُبرهَن عنه منطقيًا، تمامًا كالحب، أو الوجود الشخصي أو جمال "عطر البنفسج الحزين". أو فلنتذكر أيضًا العظة المؤثرة المرتجلة عن الموت حيث يفضح بيتر بقوة البطلان الكياني لكل نظرية تنفي استمرار الشخصية الإنسانية بعد الموت، ثم يأخذ مثلاً في الواقع الأكثر عادية فينطلق منه ليعلن الرجاء المسيحي المبني على محبة المسيح الغالب الموت. ولنسمعه يكرز ليس بمسيح مائع هزيل اخترعته مخيلات مريضة لتجد فيه عذر لجبانتها وتهربها من المسؤولية، ولكن بمسيح الأناجيل الحقيقي، المندمج بقوة إلهية وإنسانية في صميم الحياة، بمسيح كان – رغم استنكار فريسيّي كل العصور- يخالط العشارين والزواني. وكما فعل المسيح الذي يكرز به لم يخف بيتر من "تسمية القط قطًا" وهذا مما أثار عليه أحقادًا قوية تمكنت محبته أن تتغلب عليها في النهاية.

ومع ذلك، وإلى جانب عنف المحبة المقدس، ما أشد تأني بيتر في إداء رسالته. إنه لا يفكر أبدًا في اغتصاب النفوس، هذه النفوس التي ينتظر منها المسيح عطاء حرًا تلقائيًا. أليس أنه قد توصل بأشعاعه الشخصي إلى هداية ذلك العضو في مجلس الشيوخ الذي قرأ بصوت تخنقه العبرات بعد موت بيتر آخر صلاة كتبها هذا لافتتاح المجلس الذي عين قسيسًا له: "إذا لم نستطع أن نقنع، فأعطنا يا رب أن نستميل".
لم يكن بيتر يريد أن تكون المسيحية التي يكرز بها عالمًا مغلقًا، إلى جانب الحياة، بل بالعكس، إنه يريدها في صميم الحياة نفسها كالخمير في العجين. لذلك كان يريد أن تكون الكنيسة، ليس فقط للصلاة، ولكن أيضًا مكانًا لاجتماعات مرحة بين الإخوة، مما دفعه أن يقاوم بكل قوة وأن يدافع بحزم عن ناديه حيث كانت الحياة تزدهر حول المقدس.

وبدلاً من أن ينتظر مجيء الناس إليه نراه يذهب إليهم، كما يفعل الرسول الحقيقي، "صائرًا كلاًّ للكل" حتى يخلصهم، فيمضي مثلاً إلى شباب ضال فاسد محاولاً أن يكلمهم بما يستطيعون أن يفهموه ويتذوقوه... وهنا لا يسعني إلا أن أستعيد الكلمات الجميلة التي تفوهت بها كاترينا وهي تخاطب بانفعال كلي وتفهم عميق مدهش مستمعيها الأول مظهرة في غلوّ الحركة النسائية ما يسميه العالم النفساني "ادلر" "Adler" إفراطًا في التعويض عن مركب النقص surcompensation du sentiment d’infériorité، مبينة كيف ان المسيحية بتمجيدها للمرأة في شخص العذراء مريم خاصة لم تبق أي مبرر لهذا الشعور بالنقص.
هذا هو الفيلم ذو العنوان البسيط والحوادث القليلة. إن من يشهد عرضه يخرج منه وهو يحس بانفعال عميق، وإذا تجرأت أقول إنه يحس بأنه مغمور بهبّة الروح القوية.
النور، العدد 8، 1956
ك.ب.