" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
إنصافًا لفرويد

. رأي حرّ
في العدد المزدوج 5و6 (تموز وآب 1980) من مجلة "النور"، ورد مقال "عصرنة النسك" وهو تعريب للفصل الثالث والأخير من كتاب "كتاب النسك في الأرثوذكسية" للراهب الأرشمندريت جورج كبساني. ومع بالغ تقديري لكل ما يمثله المؤلف من قداسة السيرة وللأصالة الروحية التي يعالج بها مسألة المواجهة بين الإيمان المسيحي وأوضاع العصر، لا يسعني إلا أن أتناول بالنقد مقعطًا تعرّض فيه، بشيء من التسرع، لنظرية فرويد. فقد ورد في المقال المذكور، ص159، المقطع التالي:

 " إن الإحساس بالخطيئة يكاد أن يكون معدومًا اليوم. الخطيئة لم تعد إنتهاك الناموس الأخلاقي؛ إنما عدم إنتهاك الناموس الأخلاقي عندما يصطدم به الإنسان، هو أن يشبع رغباته المكبوتة. هذا ما يقوله سيغموند فرويد. وعلى أساس هذا تقوم نظرية فرويد في التحليل النفسي.."

 ومع أن تركيب الجملة الأولى يبدو لي غامضًا بعض الشيء – وقد يكون غموضه عائدًا لوقوع خطأ مطبعي- إلا إنه يفهم من المقطع أن فرويد يدعو إلى إشباع الرغبات المكبوتة، خلافًا لما يأمر به "الناموس الأخلاقي".
فإذا صح أن هذا هو رأي الكاتب في نظرية فرويد، أسمح لنفسي أن أؤكد أنه لا يتفق البتة مع مضمون هذه النظرية الذي أوضحه فرويد منذ عامي 1916 و1917 عندما رد، في كتابه "مدخل إلى التحليل النفسي"، على الإتهام نفسه الذي كثيرًا ما قوبل به التحليل النفسي في بدء إنتشاره.

فقد أوضح فرويد، بأسلوب في منتهى السلاسة، ما القصد من التحليل النفسي، فقال إن الغاية منه ليست إطلاق العنان لإشباع للنـزوات غير مشروط، إنما هي إبراز المكبوتات إلى حيز الوعي كي يتمكن المرء من مواجهتها بوجهها المكشوف والتعامل معها وفقًا لقناعته الشخصية (عوض أن يدعها تتحكم به من خلال أعراض عصابية تتخذها قناعًا لها لإستحالة بروزها إلى النور).

لم ينكر فرويد ضرورة الصراع، إنما أوضح أن هذا الصراع غير متكافئ وعقيم إذا قام بين عناصر في الإنسان واعية وعناصر أخرى غير واعية (مكبوتة)، وإن غاية التحليل النفسي هي بالضبط أن ينقله إلى أرضية الوعي كي يسفر عن ضبط للغرائز فعلي وفقًا لمقتضيات العقل .

صحيح أن فرويد، في المقطع نفسه، لا يخفي معارضته لـ "الأخلاق الإجتماعية" السائدة في ذلك العهد (راجع ص 411). فهل يُعتبر ذلك بالضرورة نسفًا لـ "الناموس الأخلاقي"؟ ألا يمكن أن يكون، بالأحرى، دعوة لتنقيته من شوائب ألصقتها به ظروف حضارية معينة وما يعتمل وراءها من مآزم نفسية لا تمت إلى القيم الأخلاقية الأصيلة بصلة؟ أما إذا نظرنا إلى القضية، لا من زاوية "الناموس" بل من زاوية الإنجيل، فهل يجوز أن نعتبر أن الرؤية الإنجيلية للسلوك تتبنى كل مضامين "الأخلاق الاجتماعية" المتعارف عليها، ولو حاولت هذه المضامين أن تتستر بمبرّرات دينية؟ إن فرويد يتهم هذه الأخلاق بسحق الإنسان الراهن وبالرياء. أوليس في اتهامه هذا صدى لتوبيخ السيد لكتبة عصره وفريسييه عندما قال "انهم يحزمون أحمالاً ثقيلة، ويضعونها على أكتاف الناس، ولا يريدون هم أن يحركوها بإحدى أصابعهم" (متى 23: 4)؟

 رأيي أن المواجهة المسيحية لتيارات العصر لا تثمر إلا إذا انطلقت من معرفة لهذه التيارات حقيقية، لا من آراء مسبقة حولها. والدافع إلى معرفة رصينة من هذا النوع ليس مجرد الاستقامة الفكرية أو ضروريات الرعاية والتبشير، إنما هو أيضًا شعورنا بأن الله قادر على أن يعلمنا من خلالها ويكمل اهتداءنا – ذاك الذي لا ينتهي – إليه. فالله ليس حكرًا على المؤمنين. إنه أعظم من أفكارنا وقلوبنا وأوسع، لا بل هو أعظم من إيماننا نفسه، ذلك الإيمان الذي لا تحده خطايانا وحسب، إنما أيضًا قيود مآزمنا النفسية وشروطنا الفئوية والحضارية. لذا فالله قادر على أن يعلمنا من خلال فرويد، من خلال ما كان لفرويد، رغم إلحاده، من خبرة بالنفس البشرية عميقة، واستقامة فكرية، وحب فاعل للإنسان المتألم. وقد يرشدنا، من خلال فرويد، إلى سبل تنقية أخلاقنا وحياتنا الروحية نفسها مما قد يشوبها من تحكم خفي للضغوط الاجتماعية والنزوات اللاواعية، وإلى تجاوز المفهوم الناموسي للخطيئة إلى مفهومها الإنجيلي العلائقي . ومن يدري؟ فقد يكون اهتداؤنا هذا مدعاة لاهتداء الكثيرين ممن يتلمسون، ربما من حيث لا يدرون، كلمة حية في وسط عالمنا المضطرب القلق.
كوستي بندلي
النور، العددان 8و9،  1980