" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
عودة إلى الينابيع

خواطر في الذكرى الستين لانطلاق أسرة الطفولة

مقدمة
في هذه الذكرى، وقد أعطاني ربنا أن أكون من المعنيّين المباشرين بها، لايسعني إلا أن أعود، بالفكر والقلب، إلى خبرة محوريّة عشتها في طفولتي، وهي خبرة معاناة آلت إلى بهاء، كان تقاطعها مع تأسيس الحركة وانتمائي المبكّر إليها، الينبوع الذي روى وألهم وأخصب مساهمتي الشخصية في تأسيس ما دُعي أولاً "مدارس الأحد" ثم سُمّي "منظمات الطفولة" ومن بعد ذلك "أسرة الطفولة".

معاناة طفل
ولتفصيل ذلك دعوني أعود بالذكرى – مُتخطياً خشيتي من إشاعة الملل في نفوسكم – إلى تلك الحقبة البعيدة (سنة 1938، إذا لم أكن مُخطئاً) حيث كان لي من العمر 12 سنة وكنت عندها تلميذاً في صف ال quatrième (الثالث من المرحلة المتوسطة) في مدرسة الفرير في طرابلس. كان النظام المدرسيّ في تلك الأيام كئيباً (ولست أدري إذا قد تغيّر كثيراً من هذه الناحية منذ ذلك العهد)، خاصةً بالنسبة إلى طفل من ذلك العمر شاءت الظروف أن يكون أصغر تلامذة صفه. كانت المدرسة تبدو لي سجناً كبيراً على هامش الحياة الحقّة نقضي فيه ساعات طوال، من الصباح الباكر وحتى المساء في الأيام الإعتيادية، نُلقَّن خلالها تلقيناً مواداً دراسية لا نرى غالباً أيّ رابط بينها وبين اهتماماتنا العفويّة، ونخضع طوالها لنظام جامد لا يترك لنا أي مجال للمبادرة الحرّة وإطلاق طاقاتنا الفتية. أذكر، على سبيل المثال الموضح، أن أحد أساتذة الصف المذكور، وهو معلم للرياضيات، كان يُعاقب كل تلميذ يسمح لنفسه، إذا شاء طرح سؤال، برفع ذراعه في الهواء، إذ كان عليه، بموجب التعليمات المُشدّدة الصادرة عن ذلك الأستاذ، أن يكتفي بإسناده إلى خشب طاولته، وكان ذلك من جملة أوامر صارمة شبّهها تلامذة صفي، تنفيساً عن ضيقهم، بوصايا الله العشر كما وردت في التوراة، وصاغوها، على شاكلة ما كانت تُصاغ به الوصايا العشر في التعليم المسيحي الذي كنا نتلقاه، بأبيات شعرية. فعلى نَسَق:

إلهاً واحداً تعبُدUn seul Dieu tu adoreras

وتحبه حباً كاملاً Et aimeras parfaitement 

صاروا يُردّدون "الوصية الأستاذية" التالية:

يدك ترفعهاLa main tu lèveras 

على الطاولة عامودياًSur la table perpendiculairement 

كان "إخوة المدارس المسيحية"، الذين تعهّدوا آنذاك معظم تعليمنا، أناساً مُكرَّسين، وكثيراً ما كنا نرى نور الرب مرتسماً في عطائهم وإخلاصهم واهتمامهم الحقيقي بنا. ولكن الدور الجامد الذي ألبسهم إياه النظام التربوي التقليدي كان يأسرهم ويأسرنا معهم ويُقيم الحواجز بيننا وبينهم ويُنشئ عوائق أمام قيام علاقة إنسانية بينهم وبيننا كما وبيننا نحن التلامذة المفروض علينا بأن نكون مُتلقّنين وحسب. اما التربية المسيحية التي كنا نتلقاها في المدرسة (والتي، والحق يُقال، أكسبتنا قسطاً هاماً من أسس الإيمان المسيحي التي لم تكن كنيستنا الأرثوذكسية الإنطاكية آنذاك، في هزالة أوضاعها واقتصارها على تأدية الطقوس، قادرة على تزويدنا بها)، فكانت تربية مسيحية تقليدية تتّسم بنفس النمط الإلزامي الإكراهي الذي اتّسم به النظام التربوي الذي أُخضعنا له. كان يومنا المدرسي يبدأ حكماً بقداس لا مناص من حضوره للتلامذة المسيحيين على مختلف مذاهبهم،في أيام الأسبوع. أما يوم الأحد، وهو يوم عطلة مبدئياً، فكان يؤتى بنا فيه، مع ذلك، إلى المدرسة لنحضر القداس في كنيستها ونتلقى بعض الإرشادات. أما التعليم المسيحي، الذي كنا نتلقاه في النصف ساعة الأخير من يومنا المدرسي، فكان مضمونه أشبه ما يكون بمجموعة فرائض تتوزع على محاور ثلاثة: الحقائق التي يتوجب الإيمان بها، الواجبات التي تتوجب ممارستها، الوسائل التي يتوجب أن نتّبعها لكي نتقدّس. كان يغيب عن بال الذين ينقلون إلينا هذا التعليم، على إخلاصهم، أنهم، في غمرة هذا التأكيد المهووس على الواجبات، يُضيعون الجوهر وبيت القصيد، ألا وهو، إن المسيحية هي، قبل كل شيء، حياة تُكتشف فيختارها المرء بملء حريته لاختباره بأنها تنعشه وتجدّده وتطلقه وتحقّق اعمق ما يصبو إليه، وجمال يَفتن لأنه يُضفي على كل شيء ألقاً وبهاءً، و معنى يُلتزم به لأنه ينشل الوجود من العبث ويعطيه نكهة وجدوى، وكنز يُباع كلّ شيء لاقتنائه لأنه وحده يُلبّي انتظار القلب الغامض ويروي عطشه الصميم، وإنّ "الواجبات" بالتالي، بدل ان تكون الأصل، لا تتعدى كونها تعبيراً عن متطلبات هذه الحياة الجديدة وأطراً للحفاظ عليها من التشتت والضياع.

رغم هذا الإلتباس الذي أحاط بتربيتنا الدينية المدرسية هذه، كان الإنجيل، لحسن الحظ، حاضراً فيها، وكانت بعض نصوصه تقدَّم إلينا بانتظام لنتأملها ونحفظها غيباً، فكنا، بفضلها، ننتقل إلى عالم آخرنستنشق فيه هواءً نقياً منعشاً، عالم تسوده الحرية والحياة ويعود فيه كل شيء إلى نصابه الصحيح. ولكن الإنجيل كان، بالنسبة إلينا، وكأنه أسير تلك القوالب التربوية والدينية الجامدة التي كانت تطبق علينا وتحدّ آفاقنا، وكانه كان محبوساً فيها كالمارد في القمقم، أو بالأحرى، وبتعابيره هو، كان كالسراج الذي يوضع تحت المكيال أو الخمر الجديدة التي تُسكب في خوابٍ عتيقة. كان محتاجاً إلى مناخٍ آخر، يُحرّره من عقالاته ويُتيح له مجال ممارسة طاقته المحرّرة. هذا ما كنت، ولا شك، أنتظره وأتوق إليه، بصورة غامضة، في قرارة نفسي، إلى أن برز أمامي، برأفة إلهية، في وضح النهار.

إطلالة مبهورة على عالم مختلف

وإذا بما كنت أتلمّسه من حيث لا أدري، بما كان يصبو إليه قلبي الفتيّ في ضيقه، وفي عطشه الغامض إلى الانتعاش الانساني و الأصالة الروحية، إذا به يلتمع أمام ناظريّ.  فذات يوم من تلك السنة التي سبق أن أشرت إليها، لم أعد أذكر تاريخه بالتحديد، علمت ان مدرستي تحتضن جمعية شبه كشفية ذات طابع مسيحي (القلوب الشجاعة). فشدّتني إليها بالحال،*اتخذت اسم Coeurs Vaillants وكأني وجدتُ فيها ضالّتي المنشودة. وإذا لم تخني الذاكرة، فإنني قررت الانتساب إليها إثر حلم رايته في إحدى الليالي واستيقظت منه مبهوراً بوعوده. كان موعدي الأول مع هذه الجمعية موعد حبّ، لذا ما زلت أرى بخيالي، وكأن ذلك قد حدث بالأمس، كيف أُدخلت للمرة الأولى إلى قاعة صغيرة في بناء مدرستي الضخم كانت قد اتُخذَت مقراً لتلك الجمعية، وكيف شاهدت فيها أربع لوحات جدارية حملت كلّ واحدة منها اسم الفرقة التي اتخذتها زاوية لها، مع الهتاف الذي تتميز به تلك الفرقة. هذه الفرق الأربع كانت على التوالي: فرقة " الراعي الصالح"، وشعارها Veiller (ساهرون) (وهي الفرقة التي انتميت إليها)، وفرقة "سيدة لبنان"، وشعارها Servir (خادمون)، وفرقة القديس يوسف الصدِّيق، وشعارها Jusqu’au bout (حتى النهاية)، وفرقة القديس جاورجيوس، وشعارها Toujours prêts (مستعدون أبداً).

لا أزال أذكر كم فتنني ذلك المشهد الذي بقي، نظراً لما حمله من شحنة انفعالية، مطبوعاً فيّ حتى اليوم بعد كل السنين التي عبرت، وكأنه مشهد واحة خضراء في صحراء مدرستي الكئيبة، تتعانق فيه آفاق الحرية والانطلاق والمغامرة مع روحية الإنجيل ورموزه. لدى زيارتي لتلك القاعة، تراءى لي أنها، على بساطتها، تختزل، ولو بشكل مُبهَم، الوعد باسلوب جديد للتعامل مع الإيمان ومع الحياة كنت أحنّ إليه بكل جوارحي، وهو أسلوب أصبح شيئاً فشيئاً في ما بعد قلب مسعاي الروحي والإنساني، وقد عبّر عنه مثلاً عنوان كتاب صدر لي سنة 1975 بالفرنسية بعنوان L’Evangile dans la vie (الإنجيل في الحياة)، وقد حرصتُ على ان أهدي يومها نسخة منه، مدفوعاُ بمشاعر عرفان عميق، إلى الذي كان مرشداً لتلك الجمعية في مدرستي، الأخ أندريه، مع عبارات أشرت بها إلى ما أتيح لي أن أتذوّقه في أجواء الفريق الذي كان مشرفاً عليه بحبّ، من بهجة نبعت من عيشي الإنجيل في مناخ من المشاركة الأخوية الحيّة.

ذلك أن ظني لم يَخب عندما بدأت بالتردد الفعلي إلى اجتماعات الفريق. فقد ولجتُ بالفعل عالماً جديداً كثير الجاذبية كان يتخلّل، بوتيرة مرتين في الأسبوع (الخميس بعد الظهر والأحد بعد الظهر)، رتابة أيامي المدرسيّة، فينقلني، بنوع من السحر، إلى نمط آخر من السلوك والتعامل، إلى رؤية أخرى للأشياء. هنا الأمور لم تكن تُفرَض علينا فرضاً وِفق ما يخطّطه ويرسمه الراشدون، بل تُراعى حاجاتنا واهتماماتنا إلى أبعد حدّ، وعلى الأخص حاجتنا إلى الحركة والنشاط واللعب والاكتشاف والاحتكاك بالطبيعة والتفاعل فيما بيننا وإلى تكوين عالم لنا على قياسنا نجد فيه أنفسنا على حقيقتها. كنا ننصرف إلى مختلف الألعاب المثيرة نصرف عِبرَها زخم طاقاتنا المتوثّبة، تارة في ملعب المدرسة الكبير، طوراً فوق كثبان الرمال التي كانت تنتشر آنذاك في منطقة البحصاص غير المأهولة بعد، نذهب إليها مشياً على الأقدام ونخوض في تلك الفلاة الرحبة، جرياً على تلالها وانحداراً إلى وديانها، معارك وهمية حماسية نرمي فيها بعضنا بعضاً بالطابات.

أو كنا نكتشف، ودائماً مشياً على الأقدام، مناطق أخرى في جوار طرابلس. كتلك المرة التي كنا نتسلّق فيها أحد الجبال القريبة حين داهمنا المطر، فلجأنا إلى مغارة في سفح الجبل، هناك ابتسم لنا الربيع رغم تجهّم الجو إذ بدا لنا إشراقه في تفتّح أزهار " بخور مريم" بأوراقها الرشيقة البيضاء المطعّمة بالأحمر في قاعدتها. كنت أرى تلك الأزهار للمرة الأولى ففتنتني واختلطت صورتها بالمطر والمغامرة ومناخ المغامرة الذي عشناه يومذاك، لتترك في نفسي بصمات سحرية لا تمّحي.

أما في أيام العُطَل فكنا نقوم، على أقدامنا، برحلات أطول نقصد بها أماكن كمجدليا أو رشعين أو البلمند وغيرها. وكان الأخ اندريه، مرشدنا، والمعروف عنه أنه معلّم صارم في المدرسة، يتحوّل، في لقاءات الفريق، إلى أخ كبير يشاركنا نشاطنا وفرحنا فنحسّه أقرب ما يكون إلينا. وكان يُعلّمنا، وهو الموسيقي العازف على الأرغن، أناشيد كثيرة تنقل إلينا، بلغة مألوفة لدينا، المعاني الروحية والانسانية التي نغتذي بها. كنا ننشدها في الاجتماعات وعلى الطرقات، فتخفف عنا العناء وتلهب مشاعرنا وتكسبنا نفساً واحدة.

غبار وملائكة، أو العناق بين الإيمان والحياة

أود أن أتوقف عند واحد من هذه الأناشيد لأبيّن كيف يتعانق فيه الإيمان بأسمى تطلعاته مع الحياة في أصغر دقائقها، وكيف تنساب فيه المعاني الروحية إلى أبسط الأعمال العاديّة فترتكز إليها وتسمو بها بآن.
النشيد الذي أتناوله هو أحد الأناشيد التي ترافق المسيرات، وقد وُضع له لحن حماسي، مَرِح وخفيف، يحسّ معه المرء أنه مدفوع دفعاً إلى الأمام، ويبدأ بالمقطع التالي:

إرفعوا أقدامكم قليلاً إلى أعلى(...)
Levez donc vos pieds un p’tit peu plus haut (…)
 
فإنكم تثيرون الكثير من الغبار...
Vous faites bien trop d’poussière, les Coeurs Vaillants

ثم ينتقل صعوداً إلى الرُكب، فيطلب رفعها لإكساب السير مرونة أوفر. ثم إلى اليدين، فيقول برفعهما تشبّهاً بأيطال المشي، إلى أن يرتقي إلى العينين حيث يتخذ منحىً جديداً إذ يتناول ما لا يُدرك بمجرد البصر بل يراه الحسّ الداخليّ المتيّقظ:

إرفعوا عيونكم قليلاً إلى أعلى(...)
Levez donc vos yeux un p’tit peu plus haut (…)
 
دعونا نرى روحكم
...Laissez-nous voir votre âme, les Coeurs Vaillants.

إلى أن ينتهي في آخر المطاف، إلى " القلب" (بمعناه الكتابيّ والآبائيّ)، حيث بيت القصيد، فبيتحول إلى دعوة ليتورجية ("لنرفع قلوبنا إلى فوق"):

إرفعوا قلوبكم قليلاً إلى أعلى(...)
Levez donc vos coeurs un p’tit plus haut (…) 
نحو عالم الملائكة
...Vers le pays des anges, les Coeurs Vaillants

هكذا كنا نتدرّج تباعاً، وبشكل تلقائي، من الغبار المتصاعد تحت أقدامنا إلى ملائكة السماء، فيتحول عالمنا شيئاً فشيئاً، دون أن يفقد ذرّة من واقعيته، إلى عالم يملؤه حضور الله الذي يستوطن القلب فيه ولا ينفكّ عن مناجاته وسط كل أعماله واهتماماته ومشاغله.

إنطلاقة أسرة الطفولة

إذا كنت قد استرسلتُ في سرد خبرة طفولتي مع فريق Coeurs Vaillants ولخصتها باكتشافي حينها لروعة عناق الإيمان والحياة، فذلك كان بقصد إبراز التوجّه المحوريّ الذي رافقنا وألهمنا منذ أن انطلقت في الميناء أسرة الطفولة، وأعطى تلك المؤسسة، منذ بداياتها، تلك النكهة الفريدة التي ما زالت تتميز بها، رغم أنها لا تزال تحتاج منها إلى المزيد المزيد.

ففي عام 1945 – لم أعد أذكر في أي شهر بالذات- عندما عهد إليّ الأستاذ جورج خضر (المطران جورج حالياً)، رئيس مركز طرابلس آنذاك، أن أشرف على العمل الإرشادي (وكنا نسميه وقتها " العمل الثقافي") في منطقة الميناء، وكان لي من العمر 19 سنة، وكنت قد انتسبت في العام السابق إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية في غمرة من الوهج الشبيه بذاك الذي رافق انتسابي إلى جمعية Coeurs Vaillants، صمّمتُ على تركيز المهمة الإرشادية التي أُوكلت إليّ، على العمل الإرشادي بين الأطفال، أي على تأسيس ما كنا نسميه آنذاك " مدارس الأحد" أي فِرَق للأطفال كان قد بلغني أن بعضاً منها سَبَق أن أُنشئ في مركز بيروت الشقيق.

وقد انضمّ إليّ، لهذا الغرض، فريق من الصبايا لعبت فيه إحداهنّ، وهي ماري دروبي، دوراً قيادياً، والتحق بهن في ما بعد عدد من الشبان كان أولهما إثنان أصبح كلٌ منهما مطراناً في ما بعد (المطران بولس بندلي والمثلّث الرحمات المطران جبران رملاوي). أخذنا نجتمع بانتظام لتنظيم العمل وبرمجته ومتابعة سيره وتوفير العناصر التي يحتاج إليها. كان هاجسنا، للوهلة الأولى، توفير التعليم المسيحي الأرثوذكسي لأطفالٍ كانوا يفتقدونه آنذاك سواءً في عائلاتهم أو في مدارسهم، وحتى الأرثوذكسية منها، او في الكنائس نفسها حيث كان الوعظ غائباً. لذا اعتمدنا نظاماً تعليمياً مدرسياً يتوزع وقت الاجتماع بموجبه إلى حصص تُدرَّس فيها تباعاً العقائد والطقوس والتاريخ المقدس والأخلاق، ويتعاقب عليها المعلمات والمعلمون حسب المادة التي اختار كلٌ منهم أن يتخصص بها. ولا أزال أذكر كيف اشتهرت بيننا إحداهم، وهي جورجيت توما، كانت تتميّز بمظلّة ظريفة لا تفارقها وبالأسلوب البالغ التشويق الذي كانت تروي به قصص العهد القديم.

لماذا خصصنا منذ البدء مساحة للعب

إنما، ومع هذه الأولوية التي كنا نعطيها آنذاك للهاجس التعليمي، بسبب من ملحاحيّته، كنا- وهنا أعود إلى الفكرة الأم التي زودتنا بها (أنا اولاً، وزملائي من خلالي) خبرتي في جمعية Coeurs Vaillants - قلتُ إننا كنا نحرص، منذ البداية، على ان تتميّز " مدارسنا الأحدية" هذه بفسحة كبيرة مخصّصة للّعب، وذلك لكي نقدّم حقائق الإيمان لأطفالنا في جوّ بَهِج من النشاط المُحبّب لديهم. وقد اعتمدنا، لهذا الغرض، الألعاب التراثية التي يتناقلها الأولاد جيلاً بعد جيل. ولا أزال أذكر، على سبيل المثال، صفَّين من البنات، في الباحة المحيطة بكنيسة مار الياس، يتقدّم كلٌ منهما، بالتناوب، باتجاه الآخر هاتفاً: "سكتوا، سكتوا يا بناتي، الماما نايمه، الساعة كام؟" فيجيبه الآخر: "الساعة وَحدِه إلاّ وَحدِه يا بنات"، وهلمّ جرّاً في تعداد الساعات. ثم أضفنا إليها ألعاباً تربوية كنا نستقيها من الكتب المتخصصة في الموضوع. هكذا كنا نجتهد في تحقيق هذا " العناق بين الإيمان والحياة" الذي تحدثت عنه، ولو ان تحقيقه كان لا يزال بدائياً وجزئياً، كون الدرس والنشاط في مجرد تجاور وليس في اندماج.

في فترة متأخرة تعالت أصوات- ليس في الميناء بل في بعض الفروع الحركية التي كانت قد تاثرت كغيرها بالنموذج الذي صاغته الميناء- أصوات تتساءل عن جدوى اللعب في اجتماعات الطفولة. وقد كان موقفي دوماً معارضاً لهذه النزعة التي أرى فيها " طُهريّة" في غير موضعها، لأنها تصبّ، من حيث لا تدري، في سلخ الإيمان عن الحياة. وبالتالي في تقزيم هذه وذاك. فاللعب، بالنسبة للطفل، ليس مجرد تسلية كما هو بالنسبة إلى الراشد، بل إنه قلب حياته وأمر بالغ الجديّة يندفع فيه بملء جوارحه ويبني عبره شخصيته. من هنا أهمية إتخاذنا اللعب ظرفاً يُتاح بفضله للطفل لقاءُ المسيح في جوّ لا يكون فيه بعيداً عن نشاطه الأساسي الحيوي.

نحو تجاوز الصيغة المدرسيّة

لاحقاً طوّرنا هذه الصيغة الأولى، وقد ساعدنا على ذلك انتشار التعليم الأرثوذكسي في المدارس، إن الأرثوذكسية أو الرسمية، بفعل تأثير الحركة ونشاط متطوعيها. فتقلّص الطابع المدرسيّ عن اجتماعات أطفالنا وتحوّلت "مدارس الأحد" السابقة إلى ما سمّيناه "منظمات الطفولة" ودُعي في ما بعد "أسرة الطفولة". ومع احتفاظنا باللَّعِب كإطار لا بدّ منه وشديد الأهمية لتلك الإجتماعات، حاولنا أن نترجم "عناق الإيمان والحياة" في صلب الإجتماعات نفسها، مُستعيضين عن الدروس المُلَقَّنة بتوجيه روحيّ يلعب فيه دوراً محورياً- على الأقل على صعيد المبدأ- الحوار مع الأطفال بقصد إشراكهم الفعليّ في اكتشاف حقائق الإيمان والتحوّل إليها، إنطلاقاً من تفكيرهم وحياتهم وخبراتهم. ولكنني أعتقد أننا لا نزال، بهذا الصدد، في بداية الطريق وأننا لا نزال نحتاج إلى الكثير الكثير من سعة الإطلاع ومن الجهد الإبداعيّ.

تربية دينية مُتجذِّرة في صلب تربية إنسانية شاملة 

إلا أنّ مبدأً أساسياً قد رسا في قلب مسعاناالتربويّ منذ البدايات، نابعاً هو أيضاً من هاجسنا المحوريّ :"عناق الإيمان والحياة". هذا المبدا عبّرنا عنه بقولنا إن التربية الدينية لا بدّ وأن تكون مُتجذرة في صلب تربية إنسانية شاملة، أي أن هاجس إيقاظ الإيمان وتنميته في الطفل لا يمكن أن ينفكّ عن هاجس مساعدته على بناء شخصية إنسانية متكاملة، منتعشة، منفتحة، حُرَّة، واثقة، مِقدامة. هذا ما دفعنا إلى الإقران بين تعلّمنا المستمر لمضامين الإيمان كي ننقلها للطفل على حقيقتها دون تشويه لها أو تقزيم، وبين تعرّفنا الدؤوب، نظرياً وعملياً، على نفسية الطفل ومقوماتها وخصائصها ومراحل نموّها والأزمات التي تواكب هذا النموّ والعوائق التي تعترضه. من هنا كان اهتمامنا، منذ البدء، بالإطلاع على مراجع في علم النفس وعلم التربية يستنير بها عملنا مع الأطفال. أذكر أننا كاتبنا بهذا الشأن الإدارة المركزية لجمعية Coeurs Vaillants في فرنسا، فتلطفوا بتزويدنا بقائمة مراجع في هذين الميدانين، كما أننا بدأنا بتكوين مكتبة نفسية وتربوية جمعنا فيها ما تيسّر لنا من الكتب المتخصصة ومنها الكنب العديدة الصادرة عن المؤسسة الآنفة الذكر والحاملة حصيلة خبرتها الواسعة في العمل مع الأطفال، أخص منها بالذكر كتاباً شيقاً وبالغ الحيوية لGaston Courtois عنوانه Pour réussir auprès des enfants ، ألهم العديد من مرشدي الساعة الأولى. هذا، وبالعودة إلى شخصي، لا أُخفي أن إلتزامي الصميم، إلى جانب الإخوة، في تنظيم الأطفال الذي أنشأناه، أيقظ لديّ اهتمامات وهواجس كان لها دور لا يُستهان به في دفعي إلى التخصص في حقل علم النفس. وكان بمثابة شاهد على ذلك كون بعض مواد الإجازة كنت أختلي أحياناً لدرسها، في بداية الخمسينات، في الشعرية السفلى لكنيسة مار الياس التي كنا قد اتخذناها، مع التي تعلوها، مقراً لأسرة .*الطفولة

هذا الهاجس لا يزال حيّاً حتى اليوم في أسرة الطفولة

أعود إلى ما كنت أتحدث عنه حول الهاجس الذي راودنا عند فترة التأسيس، هاجس الإهتمام بمجمل شخصية الطفل كي يتسنى لنا التعامل البنّاء مع مختلف جوانبها، فنوفّر له تربية يتآزر ويتعاضد فيها البُعد الروحي والبُعد الإنساني وتَنهَد إلى إطلاق الإنسان الكامل فيه في تعانق حقيقي بين الإيمان والحياة. من دواعي سروري وارتياحي الكبيرين، أنني أُلاحظ أن هذه النظرة الوحدوية إلى الطفل التي تتناوله بكلّيته وتنطلق به، في حركة واحدة، نحو لقاء الحياة ولقاء الله، أن هذه النظرة لا تزال حيّة، ولله الشكر، لدى مرشدي ومرشدات الطفولة. يشهد على ذلك كثير من المقابلات التي أجرَوها معي في السنوات الأخيرة وإلى اليوم، حيث أراهم يطرحون باهتمام بالغ مواضيع تتعلّق بسلامة الطفل النفسية وبالعوائق والمشاكل التي تعترضها وبما يعانيه أحياناً من تأزم في علاقته بوالدَيه. أراهم يمارسون دور إرشاد نفسي للأطفال وتوعية تربوية لوالديهم نحن بأمسّ الحاجة إليه في بلد لا تزال فيه أُطر المرافقة النفسسية والتربوية ناقصة بشكل فادح. عند ذاك أقول لنفسي برضى إننا لا نزال، ولله الحمد، نسير على خطّنا التكامليّ الأول، نجمع الهاجس الإنساني إلى الهاجس الروحي كاجتماع الطبيعتين في شخص المسيح الواحد، ولا نقبل بتغريب الإيمان عن الحياة.

وجوه الإستمرار في أسرة الطفولة
هذا التواصل بين الأجيال حول الهدف الواحد، الذي أشرتُ إليه أعلاه، يبدو لي وجهاً من وجوه تلك الإستمرارية التي يلفتني أن أسرة الطفولة عندنا تتّسم بها بامتياز. صحيح أن كل جيل جديد من المرشدين يأتي بمساهمته الفريدة يُغني بها التراث المشترك، إنما هناك أُطر لا تزال قائمة منذ البداية تُعطي للأسرة وحهاً لا يشعر معه بالغربة من عايشها من زمان وحتى في فترة انطلاقتها. فهناك مثلاً الصرخات، وهناك تسمية الشُعَب بمستنيرين وزارعين وصاعدين وشاهدين، وهناك درجتا "إخوة الفادي" و"رسل الفادي"، ولا بدّ أمور أخرى غيرها تغيب الآن عن بالي. ولكنني سأتوقف عند أحد هذه العناصر التي كُتِبَ لها الخلود، وهوعنصر تفصيليّ جداً ولكنه يرتدي دلالة خاصة في نظري إذ يُخاطبني في الأعماق، وبه سأختم حديثي الطويل لأنني أجد فيه واصلاً بين أول ما أتحدث عنه وآخره، كما أنه يصل بين فترة التأسيس والزمن الحاضر. هذا العنصر الواصل إنما هو "الفولار" Foulard (ربطة العنق) الذي لا أزال أراه اليوم يتدلّى في أعناق أطفالنا والذي لم يتبدّل شكله ولا ألوانه منذ زمن التأسيس.

عمّا يحكي "فولار" الطفولة

يهمني أن أبوح لكم أن هذا "الفولار" لا يختلف بشيء عن ذاك الذي وضعته أنا حول عنقي عند انتسابي في العام الثاني عشر من عمري إلى جمعية Coeurs Vaillants . لذا فإنني، إذا رأيته في عنق أحد أطفالنا، أبتسم في سرّي، لأنني أعود بالذاكرة إلى تلك الأيام، الموغلة في البُعد من حيث الزمن ولكن الحاضرة أبداً في قلبي، حيث كنت أرتديه استعداداً للذهاب إلى اجتماع الفريق، فينتابني حينها شعور بأنني أخلع عني زيّ الرتابة لأنتقل إلى عالم ملؤه الإكتشاف والتشويق.

هذا "الفولار"، بلونيه الأصفر والأزرق، يحكي عن ذهب المحبة وزرقة السماء. لذا فهو يحمل إليّ تلك الرسالة التي أودّ أن أنقلها إليكم بدوري:

إن أحببنا فعلاً أطفالنا (هذا ما يشير إليه اللون الأصفر)، آخذين بملء الإعتبار والإهتمام كامل أبعاد شخصيتهم، كما أحبنا المسيح إلى حدّ أنه أخذ على نفسه إنسانيتنا بكل أبعادها، إذا نظرنا إلى كل واحد منهم كما إلى شخصية متكاملة وليس إلى مجرد وعاء ينسكب فيه تعليمنا وتوجيهنا، وإذا اجتهدنا في غرس الإيمان، لا في زاوية من زوايا الك الشخصية ليس إلاّ بل في قلب كثافتها، إذ ذاك نفسح المجال للسماء (التي تشير إليها زرقة "الفولار") لكي تهبط إلى ترابيتهم كما هبطت بالمسيح إلى أرضنا، فيصبح الله، بالنسبة إليهم، لا كائناً برّانياً يقتصر تعاطيه معهم على الشريعة والفرائض، بل "حياة حياتهم"، أي أنه يُحيي بحياته حياتهم ويجدّدها ويملؤها قوةً وعطاءً وفرحاً وبهاءً.

الخلاصة

الآن، وقد شارفتُ على نهاية الشوط في مسيرة عمري، فإنني، كلّ ما رأيت "فولار" الطفولة، الأصفر والأزرق، في عنق أحد أطفالنا، أذكر الطفل الذي كنتُ في زمن بعيد، بائد وحاضر بآن، وأراه يُهرول فَرِحاً إلى اجتماع مع أقرانه تشدّه إليه وعود خلاّبة، أو أشاهده يعود منه وفمه يصدح بأناشيد تعلّمها يرافق بها خطو قدميه تحت الأشجار الباسقة التي كانت تُظلّل في ذلك الحين الطريق التي تصل بين البلدة والميناء. عند ذاك يطمئن قلبي إلى أن هذا البهاء الذي وُهبتُ أن أتذوقه في طفولتي والذي ترك بصماته على مساري كلّه، هذا البهاء الذي يختزل "الفولار" تعابيره، قد أضحى اليوم في متناول الكثيرين من الصغار. لأن رسالة الحياة والفرح التي أطلقتها، بإسم يسوع، منذ ستين عاماً، أسرة الطفولة في حركة الشبيبة الأرثوذكسية، لا تزال، بنعمته، تواصل طريقها الرائدة رغم الصعاب والعثرات والبلادة والتقصير.


2-11 /6/2005
ك.ب.