" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
كيف يواجه الوالدون أزمة كِبر الأولاد؟

- "عندما يكبر الأولاد يشعر الأهل أن هدف وجودهم في الحياة بدأ يتزعزع لأن أولادهم أصبحوا مستقلين عنهم (خاصة إذا كان هذا الاستقلال استقلالاً ماديًا).

- يكبر الأولاد ويشعر الأهل انهم بدورهم يكبرون. وبالتالي انهم صائرون إلى الزوال. ما هو العلاج لهذه المشكلة عند الأهل؟". 

1- مفتاح العلاج إنما هو في نظرة جديدة إلى العلاقة بين الوالدين وأولادهم
المعاناة التي يشير إليها السؤالان المثبتان أعلاه واقعية لا محالة، بشكل أو آخر. إنما يمكن التخفيف كثيرًا من حدّتها والحؤول دون تحوّلها إلى مأساة تحطّم الوالدين، إذا حصل تغيير جذريّ في نظرة هؤلاء إلى علاقتهم بأولادهم. وما اقصده هنا بـ "النظرة" ليس موقفًا ذهنيًا وحسب- من السهل نسبيًا أن يتوفر، ومع ذلك فلا يزال، على ما أعتقد، نادرًا في مجتمعنا- بل موقفًا معاشًا يشمل الكيان كلّه من ذهن وميول ومشاعر وتصرفات. هذه النظرة ينبغي لها، لكي تأتي بكل ثمارها، أن تلازم الوالدين منذ بداية حياتهم الوالدية، لا بل أقول انه ينبغي أن تكون أسسها ومقوماتها متوفرة لديهم منذ الفترة السابقة لإنجاب أولادهم لا بل منذ ما قبل زواجهم. من هنا أهمية التربية التي تلقاها الوالدون في طفولتهم وشبابهم، وأقصد هنا بنوع خاص التربية العاطفية، الانفعالية، التي تتوفر لهم من خلال العلاقات الإنسانية التي يقيمونها، وبنوع خاص تلك التي تجمعهم بوالديهم. ومع ذلك، فالنظرة التي نحن بصددها، وإن تأخر ظهورها نسبيًا، هي قادرة، ولو تعسّر الأمر واكتنفته المصاعب، على تغيير كل مجرى حياة الوالدين والتأثير في نمط تفكيرهم ومشاعرهم. 

2- طبيعة هذه النظرة الجديدة: تجاوز ازدواجية الحب الوالديّ
أما طبيعة هذه النظرة فتتضح مما يلي: في الحبّ الوالديّ (كما في كل حبّ) بعدان متلازمان ومتناقضان بآن، مما يضفي على الحب طابعًا صراعيًا لا بدّ من مواجهته والتنبّه إلى مخاطره. فهناك حبّ الآخر من أجل نفسه، أي أن يكون مأربنا ومصدر فرحنا أن نسعى إلى فرحه وتنميته وانشراحه وانطلاقه، وهناك حب الآخر من أجل أنفسنا، أي أن يكون هاجسنا تحقيق حاجاتنا بواسطته ومن خلاله، معتبرين إياه وسيلة لا غاية، مذوّبين إياه في مشاريعنا ورغائبنا، ناظرين إليه كما إلى مجرد امتداد لأنفسنا، وفي أسوأ الاحتمالات كما إلى ملك لنا نتصرف به كما نشاء، غير آبهين لتمايزه وفرادته واستقلاله. كلّ حبّ بشريّ مشدود أبدًا بين هاتين النـزعتين، وهو يقترب من النضج بقدر ما يتمكن من تغليب الأولى، بحيث تلطّف الثانية وتهذّبها وتصقلها وتوجهها دون أن تلغيها، فيصبح السعي إلى إشباع حاجاتنا الذاتية مرتبطًا بالسعي إلى شباع حاجات المحبوب ومنسجمًا معه لا بل مانحًا إياه الأولوية.

الصراع بين النـزعتين اللتين نحن بصددهما محتدم بنوع خاص في الحب الوالديّ، وذلك من جرّاء الطابع الحميم جدًا الذي يتميز به ذلك الحب. فالرباط الذي يجمع الوالدَين بولدهما رباط فريد، لأن الولد ثمرة حبهما وتجسيده الحيّ، ولأنهما أنجباه معًا (وقد حملته الأم تسعة أشهر لم يكن خلالها يتميز عنها بل كان جزءًا حميمًا من كيانها تتركز عليه رغائبها وأحلامها)، ولأنهما تابعا إنجابه طيلة سنوات تنشئته، فساهما مساهمة كبيرة في تكوين عقله ومشاعره ومجمل شخصيته، ولأنهما تمنيا أن يتحقق له ما لم تسمح لهما الحياة بتحقيقه لنفسيهما وسعيا إلى ذلك بكل جوارحهما. مجمل الكلام إنه تعبير بالغ الأهمية عن شخصيهما وتعويض لهما عن آلام الماضي وحرمانه، ونافذة يطلاّن منها على مستقبل مشرق.

إن هذا كله من شأنه أن يوقظ في الحبّ الوالديّ معطائية فائقة: فمن السهل نسبيًا، كما أتصور وكما تثبت وقائع عديدة، أن يبذل والد أو والدة حياته فداء عن ولده، لأنه يختبر بأنه، إذا فعل ذلك، إنما يموت ليبقي على أفضل ما في ذاته، وانه إذًا بالموت ينتصر، بمعنى من المعاني، على الموت نفسه ويذوق خبرة قيامية.

ولكن طبيعة هذا الحب عينها من شأنها أيضًا- وهنا تكمن المفارقة- أن تحرّك العنصر الآخر، العنصر الإستيلائيّ، الإحتوائيّ، وأن تذهب به إلى أقصى حدوده، أي إلى حدّ تذويب الولد في شخصية الوالدَين. ذلك أن العلاقة الحميمة جدًا القائمة بينهما وبينه قد تنسيهما بسهولة التمايز والاختلاف الضروريين لكي يوجد الولد فعلاً ويحيا بنفسه ولنفسه. عند ذاك يتورط الحب الوالديّ في طريق مسدود ويتنكر لأسمى طموحاته، الا هو نقل الحياة  إلى الآخر وإطلاقه في رحاب الوجود. عند ذاك يتحول الحبّ الوالديّ إلى عبء وقيد يُلقى على الولد فيكبّله- وأسوأ تكبيل إنما هو ذاك الذي يتمّ باسم الحبّ ويغلَّف به- وينشئ بينه وبين الوالدَين صراعًا ظاهرًا أو خفيًا يسمم حياة كل من الطرفين.

ثم إن الوالدَين، مهما تشبثا بحلمهما الإستيلائيّ واسترسلا فيه،  فلا بدّ أن يستفيقا منه ذات يوم، على الأقل إذا كبر الولد واستقلّ ماديًا عنهم، ليدركا، بعد فوات الأوان، أن الحياة لا تعود القهقرى، وأن المشروع الذي راهنا عليه بكل ما يملكان إنما كان مشروعًا فاشلاً لا محالة، وأنهما أضاعا أفضل سني حياتهما لاهّثَين وراء سراب وان آمالهما قد خابت وتلاشت تاركة إياهما يواجهان وحدهما النهاية المرتقبة...

يتّضح مما سبق أن السبيل الصحيح لمعالجة الأزمة الوالديّة المرافقة لاستقلال الأولاد والتخفيف من حدّتها قدر الإمكان، إنما هو في تنقية الحب الوالديّ بتغليب عنصر المعطائية والتقبّل فيه (أي تقبّل الآخر في اختلافه) على عنصر الاستيلائية والاحتواء. وهذا ما يلتقي مع مضمون بيت شعري بالغ الدلالة استوحته الشاعرة الفرنسية المعاصرة ماري نويل من معاناتها الشخصية. هذا البيت يقول ما معناه: "إن علاج الحب إنما هو في مزيد من الحبّ".
“Le remède d’aimer est d’aimer davantage” (Marie Noël) 

3- سُبُل تنقية الحبّ الوالديّ
أما السبيل إلى تحقيق ذلك فعليًا، فأرى له عدة وجوه:
أ‌- الترحيب بتدرّج الأولاد نحو الاستقلال:
منها أن يتمرس الأهل منذ بدء حياة أطفالهم على ملاحظة كل خطوة يقوم بها هؤلاء نحو الاستقلال وإبرازها وتشجيعها والاحتفال بها، من الخطوات الأولى التي يخطوها الطفل بنفسه عندما يقدم على المشي، إلى مطلع الكلام، إلى الرغبة في تناول الطعام بنفسه (ولو بشيء من الرعونة)، إلى إثبات قدراته العضلية الناشئة بشتى الوسائل، من قفز وجري ورمي وما شابه ذلك (ولو كانت هذه الحيوية الفياضة وغير المنضبطة بعد مزعجة بعض الشيء)، إلى ذهابه إلى المدرسة وما يرافق ذلك من تعلّق بالمعلمين والرفاق ينافس تعلّقه بالوالدين، إلى فترة المراهقة وما يقترن بها من انسلاخ عن البيت وتطلع إلى الخارج وبدايات الاتصال الحميم بالجنس الآخر...

فإذا ما رافق الوالدون هذه الخطوات الاستقلالية كلها بالترحيب والتشجيع، فإنهما لا يوفرون لولدهم أفضل شروط النموّ السليم وحسب، بل انهم، بالإضافة إلى ذلك، يربّون أنفسهم (أو انهم يتركون لولدهم المجال لكي يربيهم، على الانسلاخ الضروريّ (الذي هو نوع من "فطام الوالدين" على حدّ تعبير المحللة النفسية الدكتورة فرنسوار دولتو) التدريجيّ عن ولدهم، وتقبّل هذا الانسلاخ بفرح نابع من رؤيتهم لنموّه، وتطوير رعايتهم له بحيث تفسح المجال أكثر فأكثر لمبادرته الذاتية.

هكذا يتهيأون لتقبّل الانسلاخ الأكبر، بحيث يتسنّى لهم أن يروا فيه، عندما يحصل، لا كارثة تحلّ بعلاقتهم بولدهم وانهيارًا لهدف وجودهم، بل تحقيقًا لهذا الهدف وتتويجًا لتلك المسيرة التي كان هاجسهم فيها، لا أن يربطوا ولدهم بهم نهائيًا، بل أن يساعدوه على الاعتماد تدريجيًا على ذاته ومواجهة الحياة بنفس حرّة واثقة. يفرحون عند ذاك - رغم غصّة لا بدّ منها- لأنهم حققوا أمنيتهم وبلغوا غاية عملية الإنجاب الطويلة التي خاضوها، وأطلقوا في الحياة كائنًا مكتمل الطاقات، قادرًا أن يقف على قدميه وأن يشقّ طريقه بنفسه وأن يواجه الصعاب مرفوع الرأس. فرحهم يكون شبيهًا إلى حدّ ما بفرح المعمدان الذي كان همّه أن يمهّد الطريق ليسوع، ولما انطلق يسوع هتف سابقه: "... هذا هو فرحي وقد اكتمل. ينبغي أن ينمو هو وأن أنقص أنا".

صحيح أن دورهم في حياة ولدهم يتناقص إلى حدّ التواري، ولكنهم يدركون حقّ الإدراك أن ذلك الاستقلال عينه الذي يتمتع به ولدهم في واقعه الراهن إنما هو عطية منهم إليه وانه ما كان له أن يواجه الحياة بثقة وانتعاش وإقدام لو لم يمنحوه أفضل ما لديهم من حب ورعاية. لا بل يفرحون بأن هذا الولد الذي اعتبروه "فلذة كبدهم" ليس مجرد نسخة عنهم بل كائنًا جديدًا يتجددون هم به ويطلّون عبره على عالم الغد الذي لولاه لأمتنع عليهم حتى في أحلامهم، كما يقول نبيّ جبران.

ثم إن الولد الذي أوصله والداه إلى هذه المرحلة من النضج والاستقلال بحبهما المتقبّ‍ل المعطاء لا بدّ له على الأرجح من أن يشعر حيالهما بعاطفة التقدير والعرفان (لا مجرد تمثيل العاطفة بموجب الدور الذي يفرضه عليه العرف والتقاليد، بل العاطفة التلقائية النابعة من صميم من اختبر أنه نال حبًا أصيلاً وأن هذا الحب أعطاه لذاته)، فلا يصبح استقلاله عنهما حجة للتباعد والاغتراب بل فرصة للانتقال من حبّ اتّسم بالتبعية والحاجة إلى علاقة متجردة صافية فيها الكثير من التعاطف والتفاهم والاحترام. تلك هي اللحظة المأثورة التي يتحدث عنها الشاعر الفرنسي Péguy حيث تكتمل الأبوة والأمومة بصداقة تربط بين راشدَين وعلاقة حرة شفافة بين الندّ والندّ.

ب- حرص الوالدين على أن تكون لهم حياة خاصة متمايزة:
ولكي يتحقق هذا الموقف لدى الوالدين، ينبغي أن يحرصوا على أن تكون لهم حياتهم الخاصة المتمايزة عن مهمتهم الوالدية وعن حياة أولادهم. وقد أصدم الوالدين إذا قلت انه ينبغي لهم أن لا يعيشوا لأولادهم. أوَ ليست تلك هي الصورة المثاليّة التي تراود الوالدين والتي يرسمها المجتمع لهم عبر ما تتناقله الألسنة جيلاً بعد جيل: أن يجعلوا من أولادهم غاية وجودهم ومحوره؟ ولكن حذارِ!‍ إن هذا المثال خدّاع ولا بدّ أن يدفع الأهل والأولاد على حد سواء ثمن الانقياد إليه دون رويّة. ذلك أن من عاش لولده إنما يكون لا شعوريًا قد اندمج بولده إلى حدّ التماهي به، وفي ذلك خطر كبير على تمايز الولد واستقلاله. قد نعيش لأولادنا، إنما نطالبهم بالمقابل أن يتبنوا أفكارنا ومواقفنا وأن يحققوا مهما يكن الأمر رغائبنا وأمانينا ومشاريعنا. وبذلك نلقي عبئًا ثقيلاً جدًا على كواهلهم، عبئًا قد يسحقهم أحيانًا.

كلاّ، لا ينبغي أن نحيا لأولادنا بل أن نرافقهم بكل رعاية وعطف وحنان دون أن نلغي بحال من الأحوال التمايز الضروري بيننا وبينهم، بين حياتنا وحياتهم، بين طريقنا وطريقهم. من هنا إنه يحقّ للوالدين، لا بل يجب عليهم، أن تكون لهم حياتهم الخاصة، من اهتمامات مهنية وثقافية واجتماعية وهوايات ونشاطات ترفيهية وما شابه ذلك....

 ثم انه ينبغي للوالدَين أن يحرصا كل الحرص على علاقتهما الزوجية وأن يسهرا على سلامتها وسعادتها ونموّها. فالعلاقة الزوجية الناجحة خير ضمانة لعلاقة متوازنة سليمة بين الوالدَين والأولاد. أما إذا أهمل الوالدان الاهتمام بعلاقتهما الزوجية بحجة الانصراف إلى رعاية الأولاد والتفرغ لهم، فلا فائدة تُرجى لهؤلاء من قِبَل هذا الموقف، بل بالعكس يكون وبالاً عليهم لأنه يلقي على كواهلهم عبء الإحباط الذي يعاني منه الوالدان من جرّاء تضعضع علاقتهما الزوجية وما قد ينتج عن هذا الإحباط من مواقف استيلائية تعويضية.

ج- العون المستمدّ من الإيمان
هناك أيضًا، بالنسبة إلى الوالدين المؤمنين، عونٌ يستمدونه من إيمانهم لتغليب عنصر المعطائية والتقبّل في حبهم الوالديّ على عنصر التملك والاحتواء. هذا العون لا يأتي بنظري من مجرد مبادئ دينية، قد يقتنع بها الذهن ولكنها تبقى قليلة التأثير في الكيان، بل من الفة حقيقية مع الله بحيث تصبح حياته مستقرة فينا، فنحبّ عند ذاك أولادنا بالحبّ الذي يحبّ هو به خلائقه، ذلك الحب الذي يقترن فيه الحضور المحيي في صميم وجودها بالتواري الذي يسمح لهذا الوجود بأن يكون فعلاً ويتمايز عن وجود الخالق مع أنه مستمَد كليًا منه. هكذا يكتمل عطاؤنا لأولادنا بمروره بصليب التواري والانسلاخ، ذلك الصليب الذي يشير سفر الرؤيا إلى أنه ماثل في وجود الله منذ إنشاء العالم. فنصبح هكذا، على منوال "واهب الحياة"، واهبي حياة لأولادنا، وترتد علينا الحياة التي نمنحها لهم فتثري وتنعش حياتنا.

هكذا نختبر في حياتنا الوالدية السرّ الفصحيّ، سرّ الصليب والقيامة، القيامة عبر الصليب، ونصبح بالتالي أكثر تفهمًا وتحسسًا لهذا السرّ وأكثر مشاركة فيه، مما ينعكس بدوره على حياتنا الوالدية فيزيدها أصالة ونقاء.

4- كيف يواجه الأهل بمزيد من الصفاء ترقّب زوالهم
إن الخط الذي أشرنا إليه، ألا وهو خطّ تغليب العنصر المعطاء والمتقبل في الحبّ الوالديّ، حريّ برأيي أن يساعد على مواجهة الوجه الثاني من الأزمة الوالدية، ذاك الذي يعبّر عنه الشقّ الثاني من السؤال الذي نحن بصدده، ألا وهو شعور الوالدين، نتيجة كِبَر أولادهم واستغنائهم عنهم، بأنهم قد كبروا من ناحيتهم وأصبحوا صائرين إلى الزوال. هذا ما يتبين مما يلي حيث نذكر العوامل التي تسمح للوالدين بمواجهة ذلك الشعور.

أ- يواجهونه بانتعاش حياتهم الشخصية
الشعور باقتراب الزوال أمر لا بدّ منه في كل حياة بشرية. ولكن ما يجعل من هذا الشعور معاناة مضنية ومدمرة، إنما هو إحساس الإنسان بأنه سائر إلى الموت دون أن تكون قد توفرت له فرصة لكي يحيا بالحقيقة. من هنا إن الإنسان الذي أُحبطت أمانيه ورغباته (وكثيرًا ما يكون هذا الإحباط وليد عوامل نفسية قيدت هذا الإنسان وحالت بينه وبين انطلاق طاقاته وتحقيق ما كان يتوق إليه في أعماقه)، هذا الإنسان يزداد شعوره بالزوال حدة ومأساوية. أما ذاك الذي أُتيح له أن يخوض غمار الحياة ويتذوق عطاياها ويحقق قسطًا معقولاً من وعودها وينعم بانسجام عميق بينه وبينها، فهذا يواجه المصير المحتوم بصفاء أكبر.

من هنا أن الوالدين، إذا ساروا في الخط الذي أشرنا إليه، فإنهم من جهة يسهرون على نجاح حياتهم الخاصة وانتعاشها، دون أن يتخذوا من تربية الأولاد ذريعة للتنكّر لها وإهمالها، فيتاح لهم بالتالي- رغم التضحيات التي لا بد أن يبذلوها لأولادهم (ولكنهم يبذلونها بتلقائية وفرح فلا تتحول عبئًا على أولادهم ومدعاة لشعور هؤلاء بالذنب)- أن يقابلوا اقتراب الموت بقلب مرتوٍ هادئ. ثم إن شعورهم بأنهم نجحوا في مهمتهم الوالدية إذ أطلقوا في رحاب الدنيا كائنًا حرًا طليقًا واثقًا، من شأنه أن يمنحهم قناعة وجدانية بأن حياتهم إنما كان لها هدف ومعنى، وإنها لم تنقضِ عبثًا، مما يساعد أيضًا على مواجهة الأجل بنفسية القائل: "الآن أطلق عبدك أيها السيد بسلام...".

ب- يواجهونه برؤية الحياة المتوثبة المنتقلة منهم إلى أولادهم.
أضف إلى ذلك أن مثل هؤلاء الوالدين يشعرون بأن تلك الحياة التي تتأجج في ولدهم، ولسوف تبقى متأججة متوثبة من بعدهم، إنما هي إلى حد ما من صنعهم، من صنع محبتهم التي لم تكن آسرة بل محرّرة. وإنها، بالتالي، إنما هي، بصورة ما، حياتهم وقد اتخذت وجهًا جديدًا، حياتهم وقد امدّوا ولدهم بها مستودعينه أفضل ما كان فيهم من توق إلى الحياة الحرة الكريمة. وانهم بالتالي سيتحدّون الموت من خلاله مستمرين فيه عبر تلك الحياة التي نقلوها إليه جياشة، فياضة، وعبر الذكر المحبّ الذي تركوه فيه.

ج- يواجهونه بتجارب خبرتهم الوالدية مع الرجاء الفصحيّ:
أخيرًا فإن هؤلاء الوالدين، من جراء اقتران خبرة الانسلاخ في حياتهم الوالدية بخبرة الفرح، فرح إنجاب إنسان جديد مكتمل الحيوية والطاقات، واطلاقه حرًا طليقًا في رحاب عالم الغد، قلت إن هؤلاء الوالدين، إذا كانوا مؤمنين، معدّون، من جراء الخبرة التي ذكرتُ، إلى تحسس أكبر وتجاوب أعمق مع مضمون إيمانهم القائل بأن الانسلاخ الأعظم والأخير، الذي هو الموت، إنما هو الوجه الآخر لولادة الحياة الجديدة فينا، المخاض الأخير الذي منه ننفذ إلى عالم النور الذي لا يغيب.
12/6/1987
ك.ب.
العدد 6 من مجلة النور سنة 1987