" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
تأمل ...كفــــى

تقديم

تأمل من وحي فاجعة السيارة المفخخة في ميناء طرابلس

  (19/06/1985)

 • الى زوجتي التي روت لي المشهد المفجع كما نقل لها.

• الى فتاة قالت لي انها لم تنم بعد سماعها بنبأ الكارثة.

 يا رب،

عودتنا المأساة الطويلة، الطويلة، التي يعيشها هذا البلد المنكوب، على تراكم هكذا مقداره للفواجع والضحايا، حتّى اننا اكتسبنا حيالها نوعًا من البلادة بها يحتمي الإنسان غريزيًا من مواجهة الهول. ولكن مشهدًا أو صورة تنتزعنا أحيانًا بعنف من بلادتنا، فإذا بالواقع الشرس يقتحم فجأة طمأنينتنا الزائفة.

هذا ما حصل لي في اليوم التالي لكارثة – وجريمة – السيارة المفخخة التي انفجرت ليلة 19 حزيران 1985 في ميناء طرابلس في مكان مكتظ بالمسالمين من الناس، المتنزهين مع عائلاتهم بمناسبة عيد الفطر ينشدون على شاطئ البحر شيئًا من الفسحة والبرودة والترفيه وترويحًا للنفس من الأجواء الخانقة التي تلفّ شعبنا منذ سنين طوال، فإذا بالموت ينقضّ عليهم بأبشع صوره فيحصد منهم 79 ضحية إذا أحصينا القتلى وحدهم، ومنهم العديد من النساء والأطفال. أما الصورة التي جسّدت في جوارحي وكياني هول هذا الحادث المفجع، فهي ما رُوي لي عن والد كان يتنزّه مع أسرته في سيّارة مرّت بذلك المكان، وإذا بولده، البالغ من العمر اثني عشر عامًا، يبدي رغبته بشراء كوب من "البوظة" من محل الحلويات الذي جرى أمامه التفجير، فيوصيه والده بالإسراع ويوقف السيارة بانتظار عودته، فيركض الولد نحو المحلّ حاملاً بيده ورقة نقدية، فيفاجؤه الإنفجار وهو لا يزال في الطريق، وإذا بالوالد يرى – يا للهول – بأم عينيه مشهد جسد إبنه يُقذف في الهواء أمام عينيه ...

سيّدي،

إنّ تلك الحادثة المفجعة التي رُويت لي، والتي إن هي إلاّ وجه من وجوه المأساة، قد هزّتني في الصميم. ربما لأنني والد، ولأن ولدي البكر كان مارًا في المكان عينه قبل ساعة من وقوع المجزرة ...

هذا المشهد المروّع – وإن لم أره بل اكتفيت بسماعه – قد جسّد أمام عيني قلبي كل بشاعة الجريمة وفظاعتها. وقد شعرت بأن الكلمات عاجزة عن الوفاء بالتعبير عما أحسّ به، إلاّ إذا تحوّلت إلى مناجاة لك، يا ربّ، وحدها تسمح لي بأن أعانق مأساة البشر.

سيّدي،

يتعجّب الناس عادة من بربرية منفذي هذه "العمليات". وأنا أقول أن العبرة ليست في المنفّذ، الذي قد يكون آلة غاشمة عمياء جُردت من إنسانيتها بشتّى أنواع التضليل والترغيب والترهيب والتخدير، إنّما في الأدمغة المدبرة التي "هندست" المجزرة وخطّطت لها ببرودة أعصاب ودبّرتها بعناية وإحكام وهي تتذرع "بأسمى" الغايات والأهداف...

سيّدي،

ما أحذقنا في صناعة الموت، وكأننا، بتدميرنا الحياة التي أنت صانعها وبارؤها وموقظها وراعيها، نحاول أن نجاري، كالمسوخ، قدرتك الخلاّقة. فنتناسى – يا لحماقتنا – إن خلية واحدة من خلايا تلك الأجساد التي نمزّقها ونقطّع أوصالها ونحوّلها الى أشلاء دامية متناثرة، "لا صورة لها ولا منظر ولا جمال"، إن خلية واحدة من تلك الأجساد تحوي من الدقة والتركيب والتعقيد والتنسيق ما يفوق بما لا يقاس كل تلك الآلات الجهنمية التي تستنبطها عقولنا المريضة وتمعن فيها تحسينًا وتطويرًا. فإذا كانت هذه حالة خلية حيًة واحدة، فكم بالحري إذا نظرنا إلى إعجاز هذا الجسد البشري الذي هو رائعة من روائع خلقك وهيكل مُعدّ لسكنى بهائك، وإلى التناسق العجيب القائم بين أجهزته ووظائفها، وإلى فرادة الشخص الإنساني العاقل المحبّ، على صورتك، الذي يطلّ منه على الكون وقد جعلت منه خليفتك…

سيّدي،

ما أبرعنا في استنباط الذرائع لتبرير لا إنسانيتنا! الفظائع التي تُرتكب في بلدنا، وفي العالم كلّه، تتخذ تغطية لها أعظم القضايا وأجلّ المثل: الحرية، العدالة، الكرامة، الوطن، الأمة، التاريخ، المستقبل، الدين، الطائفة… ولأنّ قلوبنا قد خلت منك بالفعل – ولو تشدقنا بذكرك في كل مناسبة كما هي الحال في بلدنا التعيس – فقد تغربنا عن إنسانيتنا ولم نعد ندرك أن كل تلك القيم التي نتحجج بها ونتبجح، إنما وُجدت من أجل الإنسان لا ليُسحق الإنسان باِسمها.

سيّدي،

لأننا غفلنا عمّا أدركه حبيبك غاندي ونادى به، من "أن الغاية كامنة في الوسائل كما تكمن الشجرة في البذار"، رحنا نتغنّى مكيافيليًا بشعار "الغاية تبرر الوسيلة" ونقدّمه ونرفعه على أنّه ذروة الحكمة السياسية و"الواقعية" التاريخية، غافلين عن دروس التاريخ نفسه، وما أكثرها، متناسين أن الوسيلة تفسد الغاية أو أنها بالأحرى تفضح انحرافنا الكياني الفعلي عن الغاية التي تقلّصت إلى مفهوم يدغدغ أذهاننا وشعار تردّده شفاهنا في حين أن ممارستنا جنحت وقلوبنا انساقت وراء أحلام الهيمنة والسطوة وشهوة الحكم والتسلط.

سيّدي،

صباح اليوم، فيما كنت أفكّر بمصير هذا الولد الذي قصفت الفاجعة حياته وهي لم تزل في رونق ربيعها المفعم بالوعود، كانت تصل الى أذني زقزقة العصافير، وكنت أفكّر بحسرة، وأنا أنصت إلى هذه التغاريد التي لم يقوَ بعد زحف الباطون الأعمى على إخمادها، أنّ هذا الولد، الذي لا أعرفه، وكثيرين من أمثاله، لن يسمعوها بعد اليوم. لا أعتقد أن في ذلك انتقاصًا من إيماني بالحياة الابدية. فأنا أرجو، يا رب، من أعماق قلبي، أن يكون هذا الولد الآن بقربك وأن يتمتع "بنور وجهك وحلاوة بهائك". ولكن ذلك لا يمحو برأيي هول ما جرى ولا يعطي مبررًا للاستكانة له. صحيح أنّك "تمسح من كلّ عين كل دمعة"، ولكن ما نعرفه من احترامك الكلّي لخليقتك لا يسمح لنا، على ما أرى، أن نتصور أنّك تمحو بشطحة قلم تاريخنا المأساوي وتجعله كأنّه لم يكن. فعندما أقمت مسيحك من بين الاموات لم تمحُ من جسده الممجّد آثار الحربة والمسامير وقد أراها لتلاميذه عند ظهوره لهم بعد القيامة. لا بل إن هذه الجراحات، التي تراجع وتلخص كل كلوم معذبي الأرض، ستكون بادية فيه عندما يعود في اليوم الأخير ليدين الأحياء والأموات، وعندما، كما يقول الكتاب، سوف "ينظرون إلى الذي طعنوه". لذا، يا سيدي، لايجوز لنا أن نتخذ من إيماننا بظفرك النهائي الحاسم على الموت ذريعة كي نستخف بما يجري  في أرضنا من مآسٍ سوف تبقى رواسبها ماثلة في عالم القيامة نفسه.

ربي،

رحماك، أيقظنا من غفلتنا الطويلة. حوّل قلوبنا التي طال تحجّرها إلى قلوب لحمية تنبض بالحياة لأنّها تشعر بالآخر وتتقبله على اختلافه. حرّرنا من وهمنا بأننا غدونا أسياد الحياة والموت لأننا قادرون أن نذيق المنايا لسوانا، فيما نحن بالحقيقة مجرّد خدّام للموت وعبيد ينفذون أغراضه وحاملين لسماته في كياننا. إهدنا إلى سبل الحياة التي منك تأتي وإليك تذهب، واجعلنا خدّامًا لها فينا وحولنا، لأن مجدك، يا الله، إنما هو الإنسان الحيّ، كما شهد أحد قديسيك الذين عاشروك وساروا بمعيتك.

سيّدي،

أعطنا، نحن المنتمين إلى هذه الجمهرة من الفئات والطوائف المتصارعة بضراوة في هذا البلد المسكين، أن نعي أخيرًا، على ضوء الفواجع المتعاقبة التي نشهدها، أنه قد حان الوقت لكي نكفّ عن الاكتفاء بالبكاء – أو التباكي – على الضحايا (خاصة إذا كانت ضحايا "جماعتنا")، لنثوب إلى رشدنا وندرك، قبل فوات الأوان، أننا قد ضللنا بتهورنا كلنا بتعبدنا لمنطق القوة وانبهارنا بقعقعة السلاح وانسياقنا وراء لعبة العنف واستسلامنا لدوامة الخوف والهيمنة، وأنّنا، بسبب من ذلك، تركنا الأمور تفلت من زمامنا والسحر ينقلب على الساحر، وأوجدنا الظروف المؤاتية لجرائم قد نستهجنها، على شاكلة مجزرة 19 حزيران. أعطنا أن ندرك ما انكشف في صليب مسيحك، من أن الإيديولوجيات والعقائد كلها، على أهميتها، تتعطّل وتفسد إذا آل تصارعها إلى سحق الإنسان، وأن الأنظمة والأديان والمذاهب والطوائف، مهما سمت، توضع جذريًا على المحكّ أمام محنة والد يشاهد بأمّ عينيه جسد ولده يتطاير أمامه في الفضاء فوق شاطئ آمن وادع، أحالته إلى جحيم وحشية البشر...

21/6/1985
ك.ب.
"النور"، العدد 7، 1985

ملحق لمقالي "كفى"

 بعد صدور هذا المقال، تلقيتُ ذات يوم مكالمة هاتفية من شخص طلب مقابلتي. استقبلته في مكتبي، وتبيّن لي أنه والد الطفل الذي كان قد هزّني مصرعه؛ وأنه مسلم مؤمن، وأنه، بآن معًا، من قراء مجلة "النور"، التي وقع فيها على مقالي، ومن قراء المقالات التي يكتبها المطران جورج خضر أسبوعيًا في جريدة "النهار"، وكانت إحداها بين يديه، عنوانها "نحن مقيمون على الرجاء"، وهي تشير إلى مجزرة الميناء ومثيلاتها وتحاور أئمة المسلمين، وقد لوّن زائري بالأصفر مقاطع استلفتته في هذه المقالة. تحدّثت وإياه في مواضيع ايمانية، كما أننا توقفنا، بالطبع، عند الحدث المريع الذي حصد حياة طفله أمام عينيه، ولم أتمالك من البكاء معه. طلبت منه صورة للفتى، وبدا لي أنه كان متوقعًا مني هذا الطلب، فسلّمني صورة كان قد أتى بها. ولا أزال إلى اليوم، وبعد انقضاء عشرين عامًا على المأساة، أحتفظ بحرص برسم تلك الملامح البريئة الوادعة التي غيّبتها بلا رحمة، في أول إطلالتها على رحاب الحياة، يد الشرّ والغدر والإجرام.
13/7/2005
ك.ب.