" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
سؤالان حول كتاب "المحبة والعدالة والعنف"

أسئلة وردتني من أسرة الجامعيين في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية بعد دراستها الكتاب.

السؤال الأول
" هل لدى الكاتب فكر شيوعي بأن كل الناس يجب أن يقتسموا خيرات البلاد ليعيشوا بنفس الطريقة؟"

الإجابة
1- ما هو بالضبط فكر الكاتب؟:
نعم إن الفكر الموجّه للكاتب هو  "إن كل الناس يجب أن يقتسموا خيرات البلاد" (لا بل خيرات الأرض) وممتلكاتها، لا ليعيشوا بنفس الطريقة كما نص السؤال، بل لتتوفر أمامهم فرص متكافئة لتلبية حاجاتهم الأساسية وإحقاق كرامتهم الإنسانية، مما يعني فرصاً متساوية للوصول إلى ما يلزمهم من صحة وتغذية وتعليم وعمل واستشفاء.

2- إنه فكر نابع أصلاً من معاشرته للإنجيل:
هذا الفكر الذي نُعت بـ "الشيوعي"، اكتسبه المؤلف أصلاً من معاشرته للإنجيل الذي يؤكد
أن جميع الناس أخوة لأنهم جميعاً أبناء الله، ولأن الله تبناهم بنوع أخص عندما صار ابنه الوحيد أخاً لهم بتجسده. والأخوة -إذا كانوا أخوة فعلاً- يقتسمون كل شيء في ما بينهم، ولو أزعج ذلك نزعة كل واحد منهم إلى الاستئثار، بالضبط كما يجري في الأسرة المتحابة: فقد علمنا أهلنا، منذ أن كنا أطفالاً، هذا المبدأ الذي انطبع فينا عميقاً وهو "كونوا أخوة واقسموا قسمة الحق".

3- غريب أن ينسب مسيحيون فكراً إنجيلياً إلى "الشيوعية":
إنما الغريب أن يكون المسيحيون قد تغربوا بهذا المقدار عن تراثهم حتى أن مبدأ اقتسام الخيرات أصبح ينسب، لا من طارح السؤال وحده بل من كثيرين غيره، لا إلى الإنجيل، أصله الفعلي، بل إلى عقيدة سياسية، قدمت نفسها على أنها ملحدة في الأساس، استمدته بالواقع من التراث الإنجيلي الذي طبع، طيلة عشرين قرناً، المجتمع الأوروبي الذي نشأت فيه، فأخذته عنه وفهمته على طريقتها. 

4- هذا الالتباس أدى إلى نتائج مأسوية في أميركا اللاتينية:
ويتبادر إلى ذهني، بهذا الصدد، ما حصل لواحد من أعظم شهود المسيحية في القرن العشرين، المغفور له المطران هيلدر كامارا رئيس أساقفة ريسيف في البرازيل، الذي اشتهر في العالم كله كمدافع جرئ عن حقوق المحرومين في بلاده وفي الأرض كلها، ومنعته، بسبب من ذلك، الدكتاتورية العسكرية عن الكلام فترة من الزمن. هذا لُقِّبَ بـ "المطران الأحمر" لمجرد مناداته باقتسام الخيرات، فكان يقول بشيء من الفكاهة: "عندما اجمع مساعدات للفقراء، يقولون إنني قديس، أما عندما أنادي بزوال أسباب الفقر، فيقولون إنني شيوعي". لكن الأكثر مأسوية من ذلك، هو أن آلافاً من المسيحيين في أميركا اللاتينية، بينهم مطارنة وكهنة ورهبان وراهبات، سُجِنوا وعُذِّبوا وقُتِلوا بتهمة "الشيوعية"، في عهد الدكتاتوريات العسكرية التي كانت تدعمها الولايات المتحدة، وذلك لمجرد مناداتهم بحق الفقراء، وهم السواد الأعظم من شعوبهم، بالتمتع بحصة عادلة من خيرات الأرض بدل أن تحتكر حفنة من المتموّلين والمتنفذين جلّ هذه الخيرات تاركين للمساكين الفتات، كما صنع غنيّ المثل الإنجيلي مع لعازر المتضوّر جوعاً أمام موائده وترفه.

5- تعليم الآباء عن اقتسام الخيرات:
هل كان آباء الكنيسة العظام في القرن الرابع، كباسيليوس وغريغوريوس ويوحنا الذهبي الفم، "شيوعيين"، عندما علّموا بأن خيرات الأرض خلقت في الأصل لتكون مشتركة بين جميع الناس لا ليتملكها أفراد على حساب سواهم كما حصل بفعل خطيئة الإنسان، وبأن العودة إلى القاعدة الأصلية التي شاءها الله هي بأن يعتبر الغني نفسه مجرد وكيل مؤتَمَن على خيرات هي بالفعل من حق سواه؟
أما تعلمون أن باسيليوس الكبير، رئيس أساقفة قيصرية الكابادوك علّم بأن الغني الذي يستأثر لنفسه بخيرات ليس بالفعل مالكها بل مجرد مؤتمن عليها لتلبية حاجات أخوته، يكون على شاكلة إنسان دخل إلى مسرح ليشاهد تمثيلية ولكنه حجز المقاعد كلها له وحجب المشاهدة عن غيره، لا بل أنه يكون سارقاً لأنه احتفظ لنفسه بما هو في الأصل أمانة في عنقه كان مفروضاً أن يوصلها إلى أصحاب الحق فيها، أي إلى كل من يحتاجها من الناس؟ فما يتكدس لديه من طعام، يقول باسيليوس،
"هو ملك الجياع"، وما يفيض عنه من ثياب هو "ملك العراة"، وما يتكدس لديه من مال هو "ملك الفقراء".

6- المسيحيون الأولون عاشوا اقتسام الخيرات: 
و لنعد إلى أقدم من آباء القرن الرابع ،إلى مسيحيّي العصر الرسولي و كيف فهموا الإنجيل. عندما ذكر يسوع العلامات التي تشير إلى مجيء الملكوت الذي أتى يدشنه، أي إلى حلول حكم الله في الأرض ليجددها و يحييها، قال إن من بين هذه العلامات أن "الفقراء تُحمل إليهم البشرى". فما هي، يا ترى، البشرى التي تُحمَل إلى الفقير، إن لم تكن البشرى في تحريره من وطأة الفقر وحرمانه وذله؟ يسوع يؤكد أن هذه البشرى سوف تُحمَل إلى الفقراء في العالم الجديد الذي أتى يقيمه بدءاً من الجماعة المسيحية حتى يشعّ منها على العالمين فيصبح في التاريخ البشري خميرة تحرّر وتجدّد. هذه البشرى سوف تُحمل لأن الفقر سيزول بحلول المشاركة بدل الاستئثار، واقتسام الخيرات بدل التشبث النهم بها. وعد يسوع هذا أخذه المسيحيون الأوائل في أورشليم على محمل الجدّ كل الجدّ. راجعوا ما يرويه كتاب أعمال الرسل بهذا الصدد. فقد أوجد تلاميذ المسيح هؤلاء صيغة للمشاركة أوحاها لهم سخاؤهم. فباع كل واحد منهم ما يملكه وأودع ثمنه بين أيدي الرسل في صندوق مشترك للجماعة كي يأخذ منه كل واحد ما يحتاج إليه ليعيش. والنتيجة كانت، كما يقول كتاب أعمال الرسل، انه " لم يكن فيهم محتاج"( أعمال 34:4).

 7- واقع اليوم: الفقراء لم تُحمل إليهم البشرى:
ولكن الفقراء لم تُحمل إليهم البشرى بعد، وهذا صحيح بنوع خاص في أيامنا حيث يتواجد ازدياد متسارع في إنتاج الخيرات بفعل التقدم التكنولوجي، مع اتساع متزايد للهوة بين الأثرياء والمحرومين. إذا طالعنا التقرير السنوي الصادر سنة 1999 عن "برنامج الأمم المتحدة من اجل التنمية" PNUD، رأينا أنه، في العام 1998، كان 20% من البشرية وهم الأثرياء، يحتكرون لأنفسهم 86% من خيرات الأرض، تاركين 1% منها فقط لل 20% الأفقر من الناس، و13% ليس إلا لشريحة ال 60% المتبقية!   هذا ويملك الأشخاص الثلاثة الأكثر ثراء في العالم ثروة تفوق الدخل القومي المتوفر لل 48 بلداً الأكثر فقراً!  (وقد وردت هذه الأرقام المرعبة لا في نشرة شيوعية بل في مجلة الأونيسكو الشهرية).

هذا الخمس المعدم من البشرية الذي أتينا على ذكره يضم ملياراً ومئتي مليون من الناس الذين يعيشون تحت عتبة ما يسمى بـ "الفقر المطلق"، أي بأقل من دولار واحد في اليوم لكل فرد.وقد بيّنت "منظمة الزراعة والتغذية"  FAO  التابعة للأمم المتحدة أن أكثر من 30 مليوناً منهم ماتوا من الجوع في العام 1998، فيما عانى 828 مليوناً منهم من سوء تغذية شديد في تلك السنة عينها.

8- الواقع الرهيب دينونة لنا نحن المسيحيين:
الواقع الرهيب الذي أتينا على وصفه لهو الدليل على أننا، نحن المسيحيين، قصّرنا بشكل بالغ الخطورة، ولا نزال، في عيش مسيحيتنا، إلى حدّ مناقضة الإنجيل الصارخة، وجرّدنا إيماننا من كثير من مصداقيته، في نظرنا نحن ونظر الآخرين. فهل لنا أن "نتوب"، أي أن نستيقظ ونجدد الذهن والرؤية والعزم، فنتجند، إلى جانب كل المخلصين والشرفاء، من مختلف العقائد والمذاهب والأديان، بما فيهم شيوعيون استفادوا من أخطائهم السابقة ليعودوا إلى أفضل ما في مبادئهم، نتجند، مع كل هؤلاء وكلٌ حسب طاقاته ومواهبه، من أجل إنقاذ عالم أخذ يتحول إلى جحيم من البؤس والاستئثار؟

       3-6-2001
            ك.ب.

من أجل متابعة الموضوع والاستزادة منه. راجع:
• المطران جورج خضر: الفقر والغنى في الكتاب المقدس وعند الآباء، سلسلة "تعرّف إلى كنيستك"، 6، منشورات النور، 1982.
• كوستي بندلي: الإيمان والتحرير. البعد الاجتماعي للحياة الروحية، سلسلة "الإنجيل على دروب العصر"، 13، منشورات النور، 1997.

السؤال الثاني

" النضال اللاعنفي ليس خياراً، لأن الضعيف إذا بدأ بنضال عنفي سيسحق من القوي"

الإجابة

أولاً- الوقائع التاريخية تخالف ما يظنه طارح السؤال:
رأي صاحب السؤال قد يبدو بديهياً، من حيث أنه يتراءى للوهلة الأولى أن الضعيف المقهور، إذا استطاع أن يتخطى الخنوع والاستسلام، وأعتمد طريق النضال دفاعاً عن حقوقه المهدورة، يجد أن لا مناص له من أن يكافح الظالم بغير الوسائل العنفية، لأنه إذا اعتمد هذه الأخيرة سُحق لا محالة بسبب تفوق خصمه في امتلاكها وفى التمرس على استعمالها. ولكن الوقائع التاريخية الراهنة تثبت أن الأمور ليست بهذه البساطة.

1- منذ القديم أقدم الضعفاء على محاربة الأقوياء رغم تفوّق هؤلاء:
فالإنسان لا يتصرف، خاصة في القضايا المصيرية، بوحي من المنطق وحده. لذا نرى المستضعفين، منذ قديم الزمن، إذا ضاقوا ذرعاً بما يعانون منه من حرمان وإذلال، ينتفضون في وجه ظالميهم الأقوياء ويخوضون ضدهم صراعاً مسلحاً، غير آبهين بتفوق هؤلاء من حيث وسائل القتل والتدمير. ولنا على ذلك مثال شهير وهو ثورة العبيد التي قادها سبارتاكوس(Spartacus) ضد الدولة الرومانية ما بين 73و71 قبل الميلاد. هذا كان عبداً فارّاً تزعم تمرداً مسلحاً للعبيد رفاقه وألحق،على رأسهم، عدة هزائم بالجيوش الرومانية المتفوقة عدداً وتسليحاً وتدريباً، وبقي سنتين يقاومها ويلقي الذعر في نفوس الرومانيين إلى أن هزم وقتل في معركة أخيرة، ونكل الرومان برفاقه فصلبوا خمسة آلاف منهم على حافة الطرقات المؤدية إلى روما.

2- وفي العصر الحديث تعلم الضعفاء كيف يهزمون الأقوياء عبر "حرب الأنصار":
لا بل أنه، منذ الثورة الفرنسية، أي منذ نحو من مائتي عام، تعلم الضعفاء كيف يحرزون غلبة حاسمة على الأقوياء، بلجوئهم إلي ما يسمى ب"حرب الأنصار" أو"حرب العصابات"، وهي حرب تلائم الفريق الأقل عدداً وتسلحاً وتدريباً، لأنها تتحاشى المجابهة المباشرة بين جيشين نظاميين، وتعتمد بدلاً منها تشكيل مجموعات مسلحة محدودة العدد تمارس الكرّ والفرّ وعنصر المفاجئة والتحرش المستمر بالعدو ثم الانسحاب بحيث تستنزف طاقات الخصم تدريجياً دون أن تتاح له فرصة خوض معركة فاصلة يحسم بها أمره.

أمثلة على ذلك:
+ نابليون بونابرت، بعد أن دوخ ممالك أوروبا وهزم جيوشها القوية، أراد أن يخضع أسبانيا، فأرسل جيوشه لاحتلالها.انتصر بيسر على جيوشها النظامية وطرد ملكها وأجلس أخاه (أي أخا نابليون)جوزيف على عرشها. ولكن الشعب الأسباني رفض الأمر الواقع وشن على الجيش المحتل حرب أنصار واستنزاف أنهكت قواه واضطرته، في أخر المطاف، إلى الانسحاب. وبدأ نجم نابليون يأفل منذ ذلك الحين، حسبما كان أخوه جوزيف، الآنف الذكر، قد تنبأ له بقوله:"يا صاحب الجلالة، إن مجدك سيفشل في اسبانيا"

+ أما في أيامنا، وبعد الحرب العالمية الثانية بالضبط، فأن شعوباً عدة تحررت بشنها على المستعمرين حروباً من النوع الذي ذكرناه:
+ هكذا تغلب الفيتناميون على الآلة العسكرية الهائلة التي سحقت مدنهم تحت قنابل طائراتها.
+ وبالطريقة نفسها هزمت الثورة الجزائرية الجيش الفرنسي المتفوق.
+ وفي بلدنا نفسه أرغمت المقاومة الجيش الإسرائيلي، الذي يأتي في المرتبة الرابعة بين جيوش العالم، على الخروج من الجنوب بعد 22 عاماً من الاحتلال.

 ثانياً- النضال اللاعنفي،في أصالته، خيار نابع من رؤيا:
أما النضال اللاعنفي، إذا أخذناه في تعريفه الصحيح، أي كما أراده غاندي مؤسسه، والذين اقتفوا آثار المؤسس، أمثال مارتن لوثر كينغ وقيصر شافيز وغيرهما، فهو أبعد ما يكون عن حلّ اضطراري لا يرى المغلوب على أمره حيلة سواه للخروج من مأزقه. انه ليس مجرد امتناع عن العنف، بقصد تكتيكي، بل خيار بكل معنى الكلمة، يقضي بنبذ العنف على صعيد المبدأ. فكما ينبذ عنف المعتدي وطغيانه وقمعه، وذلك حفاظاً على كرامة الإنسان في المعتدي والمعتدى عليه،كذلك ينبذ العنف في مقاومة المعتدي، حتى عند الاقتدار، بإسم هذه الكرامة عينها.

إنه في رفضه مقاومة الذي يمارس العنف على سواه، بوسائله نفسها، ينطلق من رؤيا تؤسس نهجه، ألا وهي أنه لا بد من تجانس في النضال بين الوسيلة والغاية، وإلا أفسدت الأولى الثانية وانقلبت عليها. فإذا كانت غاية كل نضال يخوضه المظلومون هي، في آخر المطاف، إحقاق كرامتهم الإنسانية المقهورة والمداسة، فهم غير واصلين إلى هذه الغاية إن لم يحترموا كرامة الإنسان في الخصم ايضاً، وذلك عن طريق التمييز بين شخصه وشروره، بحيث تكافَح هذه الشرور بصلابة كلية سعياً إلى استئصالها، إنما بتحاشي تدمير شخص الخصم. ذلك أنه، إذا قادتني مقاومتي للخصم إلى حد تجاهل كرامته كإنسان ونكرانها، عبر تدميري له، فلا شيء يمنع لاحقاً من أن أتخذ الموقف نفسه من المنتمين إلى فئتي إذا ما اختلف رأيي عن رأيهم ومصلحتي عن مصلحتهم. فبتدميري المعتدي أكون قد تماهيت مع نهجه وأقمت عالماً لا يختلف عن عالمه الظالم إلا بتبديل الأدوار، إذ يتحول مظلومو الأمس إلى ظالمي اليوم وانتهى الأمر. هكذا نرى الثورات العنفية تنقلب على هدف الإخاء الذي تاقت إليه في الأصل، فيفترس دعاتها بعضهم بعضاً ويجورون على الشعب الذي نادوا بتحريره، من الثورة الفرنسية - التي أدّت، في آخر المطاف، إلى قيام فئة جديدة من أصحاب الامتيازات (وهم البورجوازيون) بدل الفئة التي سبقتهم (وهم النبلاء) – إلى الثورة البولشفية التي آلت إلى استئثار ستالين بالسلطة وممارسته الطغيان على شعبه، بعد تصفيته رفاقه القياديين والعديد العديد من الشيوعيين المعارضين لخطّه.

ثالثاً – للنضال اللاعنفي، فضلاً عن وجهه المبدئي، ميزات استراتيجية
 ما سبق إيضاحه لا يمنع أن يتمتع النضال اللاعنفي، فضلاً عن النقاوة المبدئية التي أشرنا إليها، بميزات استراتيجية يتفوق بها على النضال العنفيّ: 

1- انه يسمح بتوفير خسائر فادحة على المستضعفين
من جهة فإن نضال الضعفاء العنفيّ، ولو أنتصر - وقد رأينا انه ينتصر في كثير من الأحيان - فانه يحمّلهم كلفة باهظة من الضحايا والدمار، من شأنها أن تعيق بناء المجتمع بعد تحريره، بما يستلزمه هذا البناء من مقومات مادية وطاقات بشرية استنزفتها الحرب غير المتكافئة وقضت على الكثير منها. نضال الفييتناميين المسلّح كان لا شك بطولياً ومكّنهم من دحر الدولة الأقوى في العالم ولكنه كلّفهم 3 ملايين قتيلاً ! في حين أن الأميركيين، مع أن خسارتهم في الأرواح كانت موجعة جداً، فإنها كانت ضئيلة إذا ما قيست بخسارة خصومهم، إذ لم تتعدَّ  58 ألف قتيلاً !

2- أنه يسمح بشقّ صفوف الخصم
من جهة أخرى فإن النضال العنفيّ، مهما كانت دوافعه عادلة ومحقّة، فإنه يثير لدى الخصم مشاعر خوف ونقمة تؤول إلى رصّ صفوفه في خطّ يغلب فيه التطرّف على الاعتدال، وإلى إسكات صوت الشرفاء فيه الذين يناصرون عادة مطالب المظلومين، ويعطي المتشنّجين فيه، على العكس، ذريعة ليتبرأوا من مسؤولية العنف-مع انهم البادئون فيه بظلمهم- وليحمّلوا كل وزره للمظلومين المتمرّدين، مما يسمح لهم بتبرير أشرس أنواع القمع حيالهم، متذرعين بحجة الدفاع عن النفس وعن الكيان. أما النضال اللاعنفي فانه ينتزع هذه الذريعة منهم ويسمح لأنصار العدالة والسلام في صفوفهم (أمثال حركة "السلام الآن" التي تتصدّى للمستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلّة، أو حركة "هناك حدود"، التي تدعو الجنود الإسرائيليين إلى العصيان المدني) من إسماع صوتهم عاليا ومخاطبة ضمير الذين يترددون.

 3- أنه يمهّد لتعاون لاحق مُثمر مع خصم الأمس
ثم إن نضال المستضعفين العنفيّ، حتى ولو انتصر - وهو ينتصر في كثير من الأحيان، كما رأينا - فإنه يحفر هوة من الضغينة والعداوة بينهم وبين معسكر خصومهم، يصعب ردمها بعد أن يستتب السلام، مما يفوّت على المظلومين المنتصرين فرصة التعاون الفعلي مع خصم سابق، متفوق تكنولوجياً واقتصادياً، في سبيل ترميم بلدهم والخروج به من التخلّف. مثلاً الرواسب التي خلّفها الصراع الدموي الطويل بين الفييتناميين المكافحين في سبيل استقلالهم والأميركيين المستعمرين يحولُ إلى الآن دون إمكانية استعانة فييتنام المستقلة، بما فيه الكفاية، بقدرة الولايات النتحدة، من أجل الخروج من المشاكل الاقتصادية التي لا تزال تتخبط فيها. أما النضال اللاعنفي فإنه يسهّل طي صفحة الماضي الأليم وفتح صفحة جديدة من التعاون، في حدود الاستقلال والكرامة، بين خَصمَي الأمس، استناداً إلى مصالحهما المشتركة.

4- إنه يحمي الشعب من خطر طغيان لاحق، بإلقاء مسؤولية التحرير عليه لا على فئة منه
أخيراً فإن النضال العنفيّ لا بد أن تخوضه عن الشعب – ولو تعاون الشعب معها – فئة مسلّحة (جيش تحرير أو ما شابه ذلك)، ما يسهل على تلك الفئة، بعد انتصارها، أن تصادر هذا الانتصار في خدمة مصالحها الفئوية وعلى حساب السواد الأعظم من الناس، في حين أنها تدّعي تمثيلهم والعمل لبناء مجتمعهم ودولتهم. لأنها استولت على الحكم عن الشعب وباسمه، فإنها تسمح لنفسها بممارسة الحكم على الشعب. هكذا تنقلب الثورة على الطغيان إلى طغيان جديد. والتاريخ حافل بأمثال ذلك. تذكروا الجزائر وكيف استغلت "جبهة التحرير الوطني" الثورة البطولية التي خاضتها ضد الاستعمار الفرنسي، لتتحكّم، بعد الاستقلال وفي ظل نظام الحزب الواحد، بالبلد ومرافقه وموارده وفق هواها ومصالحها الإسثتئثارية، مما قاد الجزائر إلى الوضع الكارثي الذي دخلته منذ حوادث سنة 1988 والذي لا تزال تتخبط فيه إلى الآن. أما النضال اللاعنفي، الذي قوامه الإضراب والتظاهر والاعتصام والمقاطعة ورفض التعاون والعصيان المدني، فهو، بطبيعته، يستدعي تعبئة الشعب بأكمله، أو على الأقل يفسح المجال لمشاركة أوسع شريحة منه. لذا فإنه لا يقدّم ذريعة لفئة ما لتحتكر فضل هذا النضال ولتدّعي بالتالي حق الاستئثار بثماره والتحكم بالمجتمع الذي آل إليه.

رابعاً – قد يعتمد المستضعفون النضال اللاعنفي كخطة لا كمبدأ
هذه الميزات الإستراتيجية التي رأينا أن النضال اللاعنفي يتمتع بها قد تدفع جماعة من المظلومين إلى اعتماده، لا عن قناعة بمبدئه، بل لأنها تجد أن لا خيار لها سواه إذا شاءت أن تحقق الانتصار لقضيتها بأقل كلفة وأقل خطر. ولكن النضال الذي تخوضه هذه الجماعة آنذاك ليس " النضال اللاعنفي" combat non-violent بالمعنى الدقيق من الكلمة، أي بمعنى الرفض المبدئي للعنف سواء لدى الظالمين أو المظلومين، بل أنه ما يمكن أن يسمى "نضالاً دون عنف" combat sans violence، يستبعد العنف، لا على سبيل المبدأ، بل على صعيد الخطة. هذا على أمل أن تتراجع تدريجياُ "ثقافة العنف" الحاضرة، والقديمة قدم البشرية ذاتها، لتفسح المجال أمام ثقافة أخرى يصبح بموجبها النضال اللاعنفي قناعة وجدانية لدى عدد متزايد من الأفراد والجماعات.

        8-6-2001
            ك.ب.

من أجل متابعة الموضوع والاستزادة منه. راجع:
• كوستي بندلي: نضال عنفي أو لا عنفي؟ لإحقاق العدالة، "الإنجيل على دروب العصر"، 9، منشورات النور، 1988.
• كوستي بندلي: النضال اللاعنفي: ملامح وصور، منشورات النور، 2000