" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
لماذا لا يقام قدّاس خلال الأسبوع في الصوم؟

هذه أسئلة طرحتها عليّ فرقة جامعية حركية، بالغة الحيوية، في فرع طرابلس – الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، أطلقت على نفسها هذا الاسم المعبّر، وهو “فرقة الإنسان الجديد”. وقد أجبتها عليها في اجتماعين عقدتهما الفرقة، الأول في 22/4/1989، والثاني في 6/5/1989. وقد سجّل كلماتي أحد أعضاء الفرقة، خريستو المرّ (وهو حاليًا، الأستاذ الجامعّي الدكتور خريستو المرّ) ثم راجعت أنا المذكّرات الخطيّة التي أتيح له أن يسجّلها فكان هذا النص الذي أنقله هنا مع تعديل وتنقيح.
11/2/2006

السؤال: حول الفداء
نص السؤال: لماذا لا يقام قدّاس خلال الأسبوع في الصوم؟
الإجابة
كل قداس إنما هو احتفال بالفصح
ننطلق من مسلّمة، وهي أن كل قداس إنما هو احتفال بالقيامة. كل قداس هو فصح لأننا فيه نلتقي بالمسيح الحيّ، بالمسيح الناهض من بين الأموات، عبر المناولة. نتحد به فتسري حياته فينا وتقيمنا نحن أيضًا معه. ومن مؤشرات هذه القيامة، الشركة التي تنشأ بين بعضنا البعض: فكل قداس مناسبة لكي نلتقي بالعمق ونحقق كوننا جسد المسيح: “أليس الخبز الذي نكسره مشاركةً في جسد المسيح؟ فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك إلا خبز واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد” (1 كورنثوس10: 16-17). وبهذا الحبّ الذي يتجدّد فينا ويوّحدنا في المسيح، نؤكّد أننا ننتمي إلى عالم القيامة، أننا قياميّون، لأن من يحبّ فقد انتصر على الموت: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحبّ الاخوة” (1 يوحنا 3: 14). لذا ففي القدّاس يتلو الكاهن قبل أن يناول المؤمنين قطعًا فصحية (لا نسمعها، للأسف، لأن العادة جرت بأن تُتلى بصوت خافت!). يقول: “إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرب القدوس، يسوع البريء من الخطأ وحده. لصليبك أيها المسيح، نسجد ولقيامتك المقدسة نسبّح ونمجّد إلخ…”، وأيضًا: “أيها المسيح، الفصح العظيم الأقدس، يا حكمة الله وكلمته وقدرته، امنحنا الاشتراك بك بأجلى بيان في نهار ملكك الذي لا يغرب أبدًا”. تُقال هذه القِطَع تعبيرًا عن الطابع الفصحي الذي يتّسم به كل قدّاس. فإذا كان كلّ قدّاس، بطبيعته، احتفالاً فصحيًا، نفهم لماذا لا يُقام في الصوم. ذلك أن الصوم الأربعيني احتفال بآلام المسيح ومشاركة بها.
وجها السرّ الفصحيّ: الآلام والقيامة

ولكن التمييز الذي أتينا على ذكره ليس بالبساطة التي قد نظنّها. فهناك توضيح لا بدّ منه لوضع الأمور في نصابها الحقيقي، وهو أن الآلام والقيامة وجهان لسرّ واحد، وجهان لا ينفصلان للسرّ الفصحيّ الذي هو قلب إيماننا.
ومن أجل جلاء هذا الأمر بشكل أوضح ينبغي أن نحاول الغوص إلى عمق سرّ الفداء ونتساءِل: متى وكيف أتمّ المسيح الفصح في ذاته أولاً، لكي يتاح له أن يشركنا نحن به؟ وبعبارة أخرى، يوحنّائية: متى وكيف “مُجِّد” المسيح؟ في إنجيل يوحنا نجد توازيًا مذهلاً بين المجد والصليب، يتجلى مثلاً في هذا القول الذي يرد على لسان يسوع: “فإذا رُفعت من هذه الأرض، جذبت إليّ الناس أجمعين” (يوحنا 12: 32). هذا الارتفاع يشير لأول وهلة إلى الصَلب القريب، ولذا أضاف الإنجيلي: “وأشار بذلك إلى الحال التي عليها سيموت” (يوحنا 12: 33) (وبهذا المعنى أيضًا تخاطب طقوسنا السيّد هاتفة: “يا من ارتفعت على الصليب مختارًا…”) ولكن سياق الجملة يفيد بأن الارتفاع هنا يشير أيضًا إلى الاقتدار: “جَذَبت إليّ الناس أجمعين”. الارتفاع المذكور في هذا النص يعني إذًا، بآن معًا، منتهى الإذلال وذروة الرِفعَة. فكيف نفهم هذا التلازم الغريب بين الصليب والمجد؟
بوسعنا أن نفهمه إذا أدركنا أن اللحظة التي تمجّد فيها المسيح، أي اللحظة التي امتلأت فيها إنسانيته بالحضور الإلهي (فالمجد، في الكتاب، هو كثافة الحضور الإلهي)، هذه اللحظة هي بالذات تلك التي مات فيها يسوع على الصليب بعد أن قال: “قد تمّ كلّ شيء” (يوحنا 19: 30).

ولنتوّسع في الأمر بعض الشيء. حين بلغ التأزم بين يسوع ورؤساء شعبه أشدّه واتضح له أنهم مقدمون على قتله لا محالة بسبب مجاهرته أمامهم بحقيقة الله، وجد نفسه أمام خيار بين احتمالين. فإما أن يسخّر الله لكي ينجّي نفسه، وقد جُرّب فعلاً بذلك: “يا أبتا، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس” (مرقس 14: 36). وإما أن يقبل بأن يصبح مرميًّا بالكلية في جحيم المأساة البشرية وكأن الله تخلّى عنه، محققًا بذلك كليًا مشيئة الله (“لكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء”: مرقس 14: 36)، أي مشيئة محبته التي تريد أن تشارك الإنسان عمق مأساته. فالله، الذي، بطبيعته، لا يموت، اراد حبًا بالإنسان (حبًا جنونيًا، كما وصفه الآباء)، أن يشاركه في ذروة مأساته التي هي الموت. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا من خلال إنسان مائت، من خلال يسوع. ولكن، حتى يحقق الله أمنيته “الجنونيّة” تلك، كان لا بدّ للإنسان يسوع أن يرتضي بأن يكون ذلك الوسيط، أن يقبل بأن تحطّمه المأساة البشرية لكي، عَبر جسده المكسور ودمه المهراق ونفسه “الحزينة حتى الموت” (مرقس 14: 34)، يذوق الله كل طعم مرارة هذه المأساة، حبًا بالإنسان.
كان على يسوع إذًا أن يقبل بأن يكون وكأن الله أهمله وتخلّى عنه. وهذا ما حصل بالفعل، إذ أرتضى أن يشرب الكأس حتى الثمالة، حتى تلك الصرخة الرهيبة التي أطلقها على الصليب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (مرقس 15: 34). ولكنه، في تلك اللحظة عينها التي تحقق فيها قبوله بأن يكون مرميًا في المأساة البشرية حتى أسفل دركاتها، مسحوقًا منها جسدًا ونفسًا، ارتفع بحبّه المبذول إلى مستوى الله، إذ صار الحب الإلهي هو المسيّر الوحيد لبشريته. إنسانيته ارتفعت إلى مستوى حب الله “الجنونيّ”، للبشر، فحصل إذ ذاك التطابق التام بينها وبين الله. هذا التطابق كان موجودًا بالطبع منذ الأزل بين الآب والابن، ولكنه في تلك اللحظة، ارتسم كليًا في تلك الإنسانية التي اتخذها الابن لذاته.

عندئذ، هذا الجسد النازف والمختنق عل الصليب، والذي أضحى “لا صورة له ولا بهاء” كما تنبأ أشعيا (53: 2)، صار، بكل معنى الكلمة، جسد الله، أي صار الحضور الإلهي مالئًا لهذا الجسد، منتشرًا في كل ذرّة من ذرّاته. صحيح أنه كان، منذ لحظة التجسد، جسد الله، ولكنه كان ذلك بالقوة، بالطاقة en puissance. أما الآن فقد صار جسد الله بالفعل en acte. ولما صار هذا الجسد جسد الله فعلاً، لما ملأه الحضور الإلهي الذي لا يقوى الموت عليه، أصبح هذا الجسد، بطبيعة الحال، غالبًا للموت، وذلك في اللحظة عينها التي ارتضى فيها أن يرتمي في الموت حبًّا. فكانت القيامة.

من هنا أن التقليد القديم، الذي يعود إلى يوحنا الإنجيلي، كان يعيَّد للفصح بموجبه يوم الجمعة العظيمة اعترافًا بهذا التطابق بين الصليب والقيامة. كلّ ما في الأمر أن ذلك الانتصار الذي تحقق لحظة الموت، لم يُعلن عنه في تلك اللحظة عينها، بل أرجئ إعلانه إلى اليوم الثالث. إلى فجر أحد الفصح.
في الصيام تركيز على الآلام على خلفيّة القيامة

هناك إذًا توازٍ بين الآلام والقيامة، إنما، مثلما امتدت تاريخيًا مسافة بين الصلب وإعلان القيامة، ولأجل اعتبارات رعائية وتربوية، ورحمة بالذهن الإنساني الذي يصعب عليه أن يجمع المتناقضات ويحتوي الأضداد في رؤية واحدة، من أجل كل ذلك جرت العادة أن يُفصل بين الاحتفال بالآلام والاحتفال بالقيامة. وصار الصوم مكرسًا للاحتفال بالآلام بالدرجة الأولى.

في الصوم نعيش رحيل السيد وغيابه عنّا، وبذلك نحقق كلمة يسوع: “أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن فيه يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون” (مرقس 2: 19-20). ولأن فترة الصوم مخصصة لعيش غياب المسيح، فإننا نحيا هذا الغياب في أجسادنا عبر الحرمان الطوعيّ الذي به نحجب بعض عطايا الله عنّا، فيعترينا شيء من الحزن لإفتقادنا ما تمنحه هذه العطايا من انتعاش، ويؤهلنا هذا الحزن للمشاركة روحيًا في آلام المسيح. من هنا تتردّد فكرة الحزن في الصوم: “يا ربّ القوّات كن معنا، فإن ما لنا في الأحزان معينٌ سواك …”. (خدمة صلاة النوم الكبرى)، “لا تصرف وجهك عن عبدك، إني حزين…” (خدمة غروب آحاد الصوم).

ولكن الحقيقة الإيمانية لا بدّ أن تجتمع فيها الأضداد، مهما بسّطنا الأمور. فالصوم الأرثوذكسي لا تختزله الكآبة، إنه يحويها ويتجاوزها بآن. فهو فترة حزن يلطّفه الفرح، فترة نور يتألق وسط ظلمة الحزن. ذلك لأننا، عبر هذا الحرمان الذي به نحجب عنا اختياريًا بعض عطايا الله، يتاح لنا أن نتبتّل إليه تعالى، فنفرّغ إليه ونعلن بصورة معيوشة تفضيلنا له على هباته. وبالتالي فصحيح إننا نحزن لغياب العريس، ولكوننا في غربة عنه (2كورنثوس 5: 6)، ولكننا، عبر الحرمان الذي يتجسد به هذا الحزن، نتوق إلى استعادة العريس. فنحن ساعون إليه عبر الانقطاع عن رغائبنا، وفي السعي إليه نجد فرحًا ونورًا. ولهذا تصرّ الكنيسة الأرثوذكسية على أن ترتّل في فترة الصوم عبارة “هللويا” (هلّلوا لله) التي هي هتاف فرح. ويقول المطران جورج خضر في كتابه عن الصوم (المطران جورج خضر: الصوم، منشورات النور، طبعة ثانية، 1971) أن من أسباب الخلاف الذي أدّى إلى التباعد بين الكنيستين الغربية والشرقية – وهو سبب تمّ تضخيمه بإفراط غير مبرّر، ولكنه مع ذلك يشير إلى حساسية الكنيسة الأرثوذكسية لهذا الموضوع – أن الكنيسة الغربية تنقطع عن ترتيل “هلليلويا” في حقبة الصوم، في حين أن الأرثوذكسية تعتبر تلك الحقبة مجالاً بامتياز لتلك الترتيلة. بالطبع كان ينبغي أن لا يُتخذ هذا الخلاف حجّة للقطيعة كما حصل، بل أن يكون موضوع حوار في مناخ محبة، ولكن وراء رعونة التصرّف نلمس تمسّك الأرثوذكسية بعنصر ثمين من تراثها وخبرتها الروحية، وهو اقتران حزن الصوم بفرح ارتقاب لقاء العريس، والصليب بالقيامة، لأن “النور يضيء في الظلمة” (يوحنا 5: 1)، وصحراء الصوم تخضرّ منبئة بوثبة الحياة المتجددة (ليتورجيًا يُسمى الصوم “ربيع النفس”). تلك الأجواء القيامية التي لا تزال تخيّم على فترة الصيام، ولو بشيء من الخفر، تتجلى بكون الاحتفال بالفصح يستمر في كل سبت وأحد من أسابيع الصوم، فيقام القداس في هذين اليومين ويبطل فيهما الصوم من حيث هو انقطاع كامل عن الطعام حتى الظهر. وبالروح نفسها، ومن أجل أن لا يحرم المؤمنون من المناولة في غير الأيام الآنفة الذكر، يقام في بحر الأسبوع، في زمن الصوم، قداس غير كامل معروف بقداس البروجيازميني أو القداس السابق تقديسه.

هكذا نرى الكنيسة، مع حرصها على التمييز، رعائيًا وتربويًا، بين الآلام والقيامة، تحافظ يوحنائيًا (أي بروح إنجيل يوحنا) على التزامن بين هذين الوجهين للسرّ الفصحيّ الواحد.

11/2/2006

ك.ب.