1- الصوم انقطاع عن الأطعمة غايته ان ينصرف الانسان عن الاهتمام بعطايا الله، اية كانت اهميتها بالنسبة اليه، الى الاهتمام بالله نفسه الذي هو مصدر هذه العطايا وألف وياء الانسان. انه بالتالي عبادة لله يقدمها الانسان في جسده ومن خلالها يسعى الى الاتصال بالله بتقبل حضوره فيه.
2- ولكن شرط هذا الاتصال المحيي بين الانسان والله ومحك أصالته إنما هما اتصال الانسان بأخيه الإنسان وتآلفه معه. فمحبة الله ومحبة القريب متلازمتان كما علم السيد، إنهما الوجهان اللذان لا ينفكان للوصية العظمى التي هي "كمال الناموس". لذا فكما أن الصوم جهاد للقاء الله، فهو بآنٍ معاً وبحركة واحدة، جهاد للقاء القريب. والقريب، كما علمنا المسيح، هو كل انسان إذا اقتربنا منه بالتعاطف معه والاهتمام بحاجاته.
3- إن محبة القريب هذه، وهي غاية أساسية من جهاد الصوم، تتوجه بنوع خاص إلى كل المعذبين والمحرومين، هؤلاء الذين علمنا المسيح انهم صورته بيننا وان كل ما فعلناه أو قصرنا به تجاه كل واحد منهم، إنما نكون قد فعلناه أو قصرنا به تجاه السيد نفسه. تلك هي زبدة إنجيل الدينونة الذي تتلوه الكنيسة على مسامعنا عند العتبة الأولى من الصوم، في أحد مرفع اللحم: "كل ما فعلتموه بأحد أخوتي هؤلاء الصغار، فبي فعلتموه... كل ما لم تفعلوه بأحد أخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه" (متى 25: 40 و45). وفي العهد القديم، قال الله في سفر أشعيا النبي: "أليس هذا هو الصوم الذي آثرته حل قيود النفاق وفك ربط النير وإطلاق المضغوطين أحرارًا وكسر كل نير. أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وان تدخل البائسين المطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وان لا تتوارى عن لحمــك" (اشعيا 58: 6و7).
4- وإن شئنا ان نتعلم كيف تمارس المحبة، وجب علينا ان نتتلمذ على المسيح: "أحبو بعضكم بعضًا كما أحببتكم أنا" (يوحنا 15: 12). فالمسيح لم يشأ أن يبقى خارج مأساتنا وأن يرسل لنا الخلاص من عليائه دون ان يمتزج بنا. إنما شاء أن يشاركنا في الصميم، أن يصبح واحداً منا لكي نصبح واحدًا معه. لقد شاركنا فقرنا ليمكننا من مشاركة غناه. تلك هي المحبة الحقة، إنها ليست عطاء مترفعًا بل مشاركة محيية. هذا ما ينبغي بالتالي ان نحياه بشكل خاص في زمن الصوم. فالصوم توبة، أي تغيير ذهنية، لأنه انتقال من موقف الاستهلاك الى موقف المشاركة.
5- هذا ما نستطيع ترجمته، بشكل راهن، ملموس، اذا اعتبرنا ان فترة الصوم إنما هي فترة نشارك بها، من خلال نظامنا الطعامي وما سواه من مجالات الحياة، نمط عيش جياع الارض وبائسيها، فنرتضي بأن نحرم انفسنا من الطيبات التي حكم عليهم بأن يحرموا منها، وذلك بغية رصد ما نوفره في هذا المجال لنقدمه هبة لهم فنخفف ولو جزئيًا بؤسهم من خلال مشاركة ولو رمزية فيه. هذا ما كان يفعله المسيحيون الأولون: فقد شهدت لنا الكتابات القديمة انهم كانوا، وهم في معظمهم فقراء، اذا شاؤوا أن يساعدوا افقر الأخوة بينهم، يصومون من حين الى آخر، كي يحملوا إليهم ما وفروه بحرمان أنفسهم.
6- ان كثيرين من مسيحيي اليوم يجتهدون في احياء تلك الخبرة التي عاشها آباؤهم في الايمان، اذ قد إكتشفوا معناها الانجيلي العميق واهميتها في عالم يعاني من تناقض في مستويات المعيشة. إن الدراسات العلمية تثبت اليوم ان نسبة تتراوح بين 10 و15 بالمائة تشكو من الجوع وان 60 بالمائة من البشرية تشكو من سوء التغذية.
تشير الإحصاءات إلى أن إثني عشر ألف شخص يموتون جوعًا كل يوم، بينما تعاني أقليات من البشر من أمراض التخمة. صوم المشاركة يعني، من هذا المنظار، أننا، ولو جزئيًا ولفترة ما، ننضم الى مصف الجائعين والمحرومين، لكي نشعر معهم في الصميم ونشاركهم بؤسهم. إن إمتناعنا عن اللحم مثلا في بلد جعل فيه جشع المحتكرين هذه المادة الغذائية الرئيسية فوق متناول الفقراء، يعني مشاركة لهؤلاء لا بالكلام والعواطف وحسب، إنما بمساهمة فعلية في حرمانهم نحياها في الجسد.
7- نحن مدركون أن صوم المشاركة هذا ليس حلاً لمشكلة البؤس والجوع. إننا لا نقدمه بديلاً عن الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إنما نحن مقتنعون بأن من التزامه صادقًا يستطيع من خلاله، بنعمة الله، أن يهتدي إلى المشاركة الحقة التي لا أخوّة بدونها فيُنتَزَع قلبه الحجري ليحل محله قلب لحمي يتحسس لآلام الناس، ويستيقظ فيه "جوع وعطش إلى البر" يدفعه إلى نضال لا هوادة فيه من أجل أن تزول بنى الظلم والاستغلال وتستأصل جذورها من قلوب الناس ويسود العدل في الارض وتصبح البشرية فعلاً عائلة أبناء الله.
ك.ب. 2/3/1978