" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
هل يستجيب الله كل طلبات الإنسان؟

"هل الله يحقق طلبات عباده أيّاً كان الطلب أم أنه لا يحققها إلا إذا كان المصلي بحاجة إليها؟"

1- حاجاتنا تصبّ كلها في حاجة أساسية واحدة.

إن حاجات الإنسان كثيرة، وإن كانت متفاوتة من حيث أهميتها وإلحاحها. بعضها مادية وبعضها عاطفية وبعضها فكرية وبعضها إجتماعية. وهي تعبّر عن ذاتها برغائب مختلفة (كالرغبة في الطعام والرغبة في الراحة والرغبة في العطف والرغبة في التواصل والرغبة في المعرفة والرغبة في الاستقرار والرغبة في النجاح والرغبة في الكرامة …). إنما هذه الحاجات كلها تصبّ في آخر المطاف في حاجة أساسية واحدة، ألا وهي اكتمال إنسانيتنا بكل أبعادها. هذا ما عبّر عنه الرب بقوله لمرتا: ” أنتِ مهتمة ومضطربة في أمور كثيرة؛ وإنما الحاجة (…) إلى واحد” (لوقا 10: 41 -42)

2- ما يلبيه الله بشكل أكيد، إنما هو حاجتنا الأساسية.
وقد يلبي الله هذه أو تلك من حاجاتنا إذا سألناه، وقد لا يلبيها، إنما ما يلبيه بشكل أكيد إنما هو حاجتنا الأساسية المحورية السالفة الذكر. ذلك لأنه يحبنا، وقد جعل هو نفسه فينا هذا التوق إلى اكتمال إنسانيتنا لكي يحقّقه عبر اتحاده بنا وإشراكنا في حياته. من هنا إن حاجتنا الأساسية (“الحاجة إلى واحد”) التي أسلفنا ذكرها إنما هي بالحقيقة حاجتنا إلى الاتحاد به والحياة معه: ” كما يشتاق الأيّل إلى ينابيع الماء الحيّ، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله” (مزمور 41 :1) ” … أشبع عندما يتجلى لي مجدك”. (مزمور 16 :15)

3- الله يلبي فحوى طلباتنا العميق.
هذه الحاجة إلى الله هي، في آخر المطاف، ما تسعى إليه وتعبّر عنه، وإن بشكل ضمنيّ، سائر حاجاتنا. لأننا إذا طلبنا الصحة والأمان والنجاح والانشراح والعطف والتقدير، إلى ما هنالك، فإننا، من خلال ذلك كله، نسعى، من حيث ندري أو لا ندري، إلى تحقيق كامل لذواتنا وسعادة كاملة، يفوقان كل طاقات الكون، ولا يتمّان إلا بالله وبالاتحاد به.
هذا يعني أن الله، وإن لم يلبِّ المضمون الحرفيّ لطلباتنا، فإنه يلبي فحواها العميق وتوقها البعيد، ألا وهو توق الإنسان إلى اكتمال وجوده. قد نتوقف أحياناً عند الحاجات الآنية وما يناسبها من رغائب ونتناسى ما هو أبعد منها وأعمق. من هنا ما يقوله الرسول إن روح الله فينا هو الذي يوجّه صلاتنا نحو هدفها الحقيقي الأصيل: ” (…) الروح (…) يعضد ضعفنا؛ لأننا لا نعرف كيف نصلي كما ينبغي؛ لكن الروح يشفع فينا بأنّات تفوق الوصف، والذي يفحص القلوب يعلم ما ابتغاه الروح، لأنه بحسب الله يشفع في القديسين…” (رومية 8 : 26-27)

4 – التمييز بين الآمال والرجاء.
من هنا ضرورة التمييز بين الآمال Espoirs والرجاء Espérance . فالآمال قد تخيب لأنها التماس لهذه أو تلك من الأشياء التي تلبي حاجاتنا الآنية والتي قد ننالها أو لا ننالها، ولكن الرجاء لا يخيب، لأنه رجاء بالله، والله لا يردّ مسعى الإنسان إليه لأنه هو الذي أوجد هذا المسعى ولأنه أمين لمحبته للإنسان. قد يحقق الله هذا أو ذاك من آمالنا، فيكون ذلك تعبيراً عن حبه لنا وبمثابة مؤشّر ومقدمة وعربون لموهبته الكبرى، ألا وهي موهبة العيش الأبديّ معه. وقد لا يحقّق أملاً رفعناه إليه ولكنه يعدنا مع ذلك بما هو أعظم من كل أمل ومحطّ كلّ الآمال ومصبّها، ألا وهو تحقيق رجائنا: لأن “الرجاء لا يخزى” (رومية 5 :5) (راجع: “لا يخزى الذين يضعون عليك رجاءهم” دانيال 3 : 40). ورجاؤنا هو أن نلقى الله (“في مرآة، في لغز” الآن، و”وجهاً لوجه” في الحياة الأخرى: 1 كورنثوس 13: 12)، لأننا، بهذا اللقاء وبه فقط، نجد ذواتنا. لذا يضحي الشهيد بكل آماله بغية تحقيق رجائه.
على ضوء ما تقدّم يمكن أن ندرك معنى عجائب الرب يسوع. فقد كان يحقق بها آمال الناس في الصحة والشفاء والاكتمال الجسماني والحرية، ولكن مدلول عجائبه كان يتعدّى هذه النتيجة الآنيّة، على أهميتها البالغة، إذ كانت، قبل كل شيء، دلائل إلى ملكوت الله الآتي به إلى العالم، ذلك الملكوت الذي به وبه وحده يتحقق توق الإنسان العميق إلى الحياة التي لا حدّ لها ولا زوال. من هنا أنه بعد أن أشبع الجموع من الخبز (محققاً بذلك أملهم) رفع قلوبهم إلى ما هو أسمى منه (إلى موضوع رجائهم)، قائلاً:  ” لا تعملوا للقوت الفاني بل اعملوا للقوت الباقي في الحياة الأبدية …” (يوحنا 6: 27)

5 – تعليم الإنجيل: الله “يمنح الروح القدس لمن يسأله”.
ما نحن بصدده يتضح إذا قابلنا مقطعين عن الصلاة ورد أحدهما في إنجيل متى والثاني في إنجيل لوقا.
فقد ورد في الأول على لسان الرب يسوع: “إسألوا فَتُعطَوْا؛ أطلبوا فتجدوا؛ إقرعوا فَيُفْتَح لكم. فإن كل من يسأل يعطى؛ ومن يطلب يجد؛ ومن يقرع يُفتح له. أي إنسان منكم يسأله ابنه خبزاً فيعطيه حجراً؟ أو يسأل سمكة فيعطيه حية؟ فإذا كنتم، مع ما أنتم عليه من الشرّ، تعرفون أن تعطوا العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم الذي في السماوات يمنح الصالحات للذين يسألونه!” (متى 7: 7-11)
أما في الثاني فقد ورد على لسان الرب أيضاً: ” وأنا أقول لكم: إسألوا فتعطوا؛ أطلبوا فتجدوا؛ إقرعوا فيُفتح لكم. فان كل من يسأل يعطى، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له. ابن من منكم يسال أباه خبزاً، فيعطيه حجراً؟ أو سمكة، فيعطيه بدل السمكة حية؟ أو إذا سأل بيضة فيعطيه عقرباً؟ فإذا كنتم، مع ما أنتم عليه من الشرّ، تعرفون أن تمنحوا العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم السماويّ يمنح الروح القدس لمن يسأله!” (لوقا 11: 9 – 13)
من تعليم السيد هذا نعرف أن الله، كونه أباً للناس بأسمى ما في الكلمة من معنى، لا يردّ التماسهم بل يعطيهم ما يعود لخيرهم (“يمنح الصالحات للذين يسألونه”). إنما المقطع المقتطف من لوقا يثبت أن هذا الخير الذي يمنحه الله حكماً لمن يلتمسونه منه ليس بالضرورة تلبية لجميع حاجاتهم الآنيّة، إنما هو استجابة لحاجتهم الأساسية إلى العيش معه، هذا العيش الذي يتحقق بسكنى روح الله فينا: “يمنح الروح القدس لمن يسأله”.

6 – بهذا الروح نسير نحو تحقيق اكتمالنا الإنسانيّ.
إن سكنى الله فينا بالروح القدس، تلك التي يمنحنا إياها حكماً إذا طلبناها من القلب، هذه السكنى تحوّل كياننا برمّته وتسمح لنا ببلوغ هذا الملء الإنساني الذي نصبو إليه بملء جوارحنا ونعاني من انتقاصه في وضعنا الحياتيّ الراهن. إنما هذا التحوّل يبقى على شاكلة مشروع قيد التنفيذ لم يكتمل تحقيقه بعد، طالما لا زلنا في وضعنا الترابيّ الحاضر: ” … عالمين أنّا، ما دمنا مقيمين في هذا الجسد، نظلّ متغربين عن الربّ، لأننا نهتدي بالإيمان لا بالعيان”. (2 كورنثوس 5: 6و 7)
إن تحقيق رجائنا يبقى، في الحياة الحاضرة، جنينياً: فكما أن الجنين يحمل في ذاته، بالقوة، أي بشكل طاقة، كل خصائص الإنسان، إنما ينبغي أن تكتمل فيه هذه الخصائص قبل أن يبصر النور، كذلك تبقى حياة الله فينا على هذه الأرض ميدان نموّ ومخاض وصراع ومجال صبر وانتظار. وقد كتب الرسول بهذا الشأن: ” فإنّا نعلم أن الخليقة جمعاء تئنّ إلى اليوم من آلام المخاض وليست وحدها، بل نحن الذين لنا باكورة الروح نئنّ في الباطن منتظرين التبنّي وافتداء أجسادنا، لأننا نلنا الخلاص، ولكن في الرجاء، فإذا شوهد ما يُرجى بَطَلَ الرجاء، وكيف يرجو المرء ما يشاهده؟ ولكن إذا كنا نرجو ما لا نشاهده فبالصبر ننتظره”. (رومية 3: 22-25)

7 – لماذا لا يحقق الله كل طلباتنا؟
أ – بسبب نمط علاقته بالكون
فهو، بآن معاً، حاضر فيه كل الحضور، يمدّه بالوجود ويسوسه ويرعاه؛ ومحتجب عنه بشكل جذريّ كي يبقى للكون كيانه الذاتي المتميز فلا يذوب في الله أو يكون مجرد ظلّ له أو مسرح دمى يحرك الله خيوطه. فالله محبة، وعلاقته بخليقته هي بالتالي علاقة محبة، والمحبّة تؤكّد وجود الآخر ولا تذيب هذا الوجود وتلغيه. من هنا أن الله، بفعل الخلق، أوجد ما هو مختلف عنه، ما هو آخر بالنسبة إليه. إنه، كما يقول اللاهوتي الأرثوذكسي المعاصر فلاديمير لوسكي، قبل بمعنى من المعاني “مجازفة” مواجهة هذا الآخر على اختلافه .
بفعل الخلق قيّد الله ذاته على نحو ما، إذ أوجد الكون كمتمايز عنه وتخلّى بالتالي بمعنى ما عن قدرته الكلية حياله وقَبلَ من جراء ذلك أن لا تتحقق مقاصده الخيّرة في الكون إلا بصورة تدريجية ومكتنفة بالمخاطر والشوائب والانتكاسات، تبعاً لكثافة الكون ومحدوديته وما ينتج عنهما لا محالة من شرور ومآسٍ. من هنا أن الله دخل، من جراء محبته، في معاناة نابعة من احترامه لتمايز الكون عنه ومن مقاومة الكون بالتالي لمقاصده. هذه المعاناة الإلهية تجلّت بأوضح صورة في صليب المسيح الذي قال المجمع الخامس المسكوني بصدده أن الله تألم ومات بالجسد، وقد عبّر عنها سفر الرؤيا عندما ألمح إلى أن الحمل مذبوح منذ إنشاء العالم (رؤيا 13: 8) أي أن الصليب مرتسم في الوجود الإلهي منذ أن برزت الخليقة. لذا، وانطلاقاً من إحساس إنسان اليوم بمآسي التاريخ المعاصر (قنبلة هيروشيما، معسكرات الاعتقال النازية والستالينية، نهب العالم الثالث وتجويعه…)، يعود اللاهوت المسيحي، في مختلف الكنائس، إلى الحديث عن “ألم الله” ، وإذا بهذا الحديث يلتقي، عبر العصور، بما سبق وقاله القديس غريغوريوس النيصصي في القرن الرابع عن الإله المتألم .
وقد كتب اللاهوتي الأرثوذكسي الفرنسي المعاصر أوليفيه كليمان بهذا الصدد: ” أعتقد أنه يمكن لا بل يجب أن يُتحدث عن الله، إنما بشكل آخر. ينبغي القول بأن الله لم يخلق الشرّ وحتى بأنه لم يسمح به. لقد كان لاون بلوا Léon Bloy يقول: “وجه الله يسيل دماً في الظلمة”، وهي عبارة كثيراً ما استشهد بها بردياييف (فيلسوف أرثوذكسي روسي معاصر : ك.ب.). فالله يتلقى الشرّ بملء وجهه كما كان يسوع يتلقى الصفعات وهو معصوب العينين… ” .
ب – بسبب احترامه لحرية الإنسان.
فإذا كان احتجاب الله عن خليقته ناتج عن احترامه لخصوصية الكون، فهو بالأحرى نابع من احترامه لتمايز الإنسان، ذاك الذي أفرده بجعله حراً على صورته. من هنا إنه لا بدّ لله أن يتوارى كي يفسح أمام الإنسان مجال المبادرة والمسؤولية ويترك له أن يساهم في صنع تاريخه وتقرير مصيره وتطوير الكون نحو الأفضل، هذا الكون الذي تُوِّج بظهوره فيه، فيكون هذا مشاركاً، بصورة ما، لله في عملية الخلق (وقد قال القرآن عنه إنه “خليفة الله” في الأرض). إن عون الله للإنسان متواصل ودائم ولكنه يتخذ أشكالاً خَفِرة تقتضيها استقلالية الإنسان. لقد قال الفيلسوف الوجودي المسيحي كيركغارد بحق إن معونة الله للإنسان تستتر كي يتعلم الذي يتلقاها أن يمشي معتمداً على نفسه .
وكما أن الأب الحريص على نموّ شخصية ابنه يترك له، بتواريه النسبيّ عن تلبية حاجاته، مجال الاعتماد على النفس، ولو كلفه ذلك ألماً يعاني منه عندما يشاهد عثرات ابنه، هكذا فإن صمت الله هو، كما يقول مفكر مسيحي معاصر، الثمن البالغ الذي يدفعه الله عن حريتنا .

8 – صمت الله دعوة إلى النموّ في الإيمان والمحبة.
بالإضافة إلى ما تقدّم، فإن صمت الله عن تلبية حاجاتنا الآنيّة إنما هو، على قسوته الظاهرية، دعوة لنا لكي ننمو في الإيمان والمحبة، وذلك باتجاهين:
أ – بتجاوز تصورنا العفوي لله على أنه ضمانة لأمانينا، ذلك التصوّر الذي يحملنا إلى استعمال الصلاة كتقنية يُفرض فيها أن تسمح لنا بالتحكم بالله وتسخير قدرته لتحقيق رغائبنا، ولسان حالنا هو ما عبّر عنه لاهوتيّ ومحلّل نفسي معاصر قائلاً: ” أدفع باباً، فلا بدّ أن ينفتح؛ أجذب مقبض موزّع آليّ، فلا بدّ أن يشتغل. أدعو الله فلا بدّ أن يستجيبني” .
هذا التصور صنميّ بطبيعته لأنه يركّز على ذاتيتي لا على ذات الله، فيمسخ الله باعتباره مجرد صدى لحاجاتي وامتداد لها، ولكنه يمسخني أنا أيضاً لأنه يعزلني في ذاتي قاطعاً إياي عن الإله الحيّ. صمت الله دعوة لي إلى تجاوز هذا الزيف القاتل باكتشافي المعاش، اللحميّ، لا الذهنيّ وحسب، لتعالي الله أي لتمايزه الكلّي عن رغائبي (فالله، كما كتب الرسول يوحنا، “أعظم من قلوبنا” 1 يوحنا 3: 20). عند ذاك أستطيع، عبر التخلي عن الإله الصنم، أن ألقى الإله الحيّ وأن أسير، بمعاشرتي الفعلية له، نحو تحقيق ملء إنسانيتي. وقد تحدث المفكر والّلاهوتي المسيحي المعاصر بول تِلِّخ بهذا الصدد عن “الله الذي يظهر عندما يختفي الله في غمرة القلق والشدة” .
لقد رسم لنا يسوع بنفسه الطريق إذ شاء أن يجتاز في بشريته تلك المعاناة. فقد صرخ في بستان الجسمانية إلى الآب رافعاً إليه رغبته الآنية بأن ينجو من الموت وقوبل مثلنا بصمت الآب، فعانى منه حتى العرق المتصبب منه كالدم وحتى الشعور المرير بتخلي الله عنه: ” إلهي إلهي لماذا تركتني؟”(متى 27: 46)
ولكنه اختبر أيضاً، في تجاوز الرغائب الآنية كلها، في انتصاب الرجاء على أنقاض الآمال المحطَّمة، حضور الإله الحيّ الذي يحوّل الصحراء إلى ينابيع ويشق طريقاً حيث تستحيل كل طريق، فأسلم إليه ذاته حتى الموت: ” يا أبتي، في يديك أستودع روحي”(لوقا 23: 46)  فإذا بالموت يتحوّل إلى قيامة.
ب – بتجاوز العطايا إلى المعطي: صمت الله أمام رغائبنا المعلنة أمامه يستحثنا أيضاً إلى أن نتجاوز، في علاقتنا بالله، تهافتنا النَهِم على عطاياه (التي كثيراً ما ننشغل بها إلى حدّ الانهماك) لنبتغي وجه المعطي ونلتمسه من أجل ذاته حباً بجماله وانجذاباً إلى بهاء حضوره (ألسنا نرتل في المجدلة الكبرى: “نشكرك لأجل عظيم جلال مجدك”؟). لذا كان كبار الروحيين يَنشدون أحياناً خبرة تخلي الله (الظاهريّ) عنهم، على مرارتها، كي لا تشغلهم العطايا الإلهية عن تأمل وجه الحبيب. يقول أحد كبار الروحيين الأرثوذكسيين المعاصرين، المطران أنطوان بلوم، بهذا الصدد: ”تأتي لحظة يشتاق فيها القلب إلى الله، لا إلى عطايا الله بل إلى الله نفسه” .وهكذا، إذا تدربنا، بفعل “صمت الله”، على تغليب ابتغائنا للمعطي على حاجتنا إلى العطايا، استقامت علاقتنا بالله وتوطد لقاؤنا به، ذلك اللقاء الذي به وحده تتحقق أمنية وجودنا العميقة.

9 – كيف ينبغي بالتالي أن يكون موقفنا حين نصلي؟
أ – لنا أن نطلب من الله، بعفوية وبساطة، كل ما نشعر أننا محتاجون إليه. فنحن أبناء الله، نتمتع بحرّية الأبناء ودالّتهم في عالم أبيهم. فإذا كان الله، بحنانه الذي لا يوصف، قد إقتبل أن يهبنا ذاته، فليس كثيراً علينا أن نسأله أي أمر من أمور الدنيا قد نحتاج إليه. يقول الرسول لمسيحيي كورنثوس: ” … فكلّ شيء لكم، أبولس كان أم أَبُلُّس أم صفا أمِ العالم أمِ الحياة أمِ الموت أمِ الحاضر أمِ المستقبل: كل شيء لكم…” (1 كورنثوس 3: 21و 22)
ب – ولكن، إن كنا بالحقيقة أبناء الله، فلا بدّ أن يفوق توقنا إليه كل توق وأن تعلو ثقتنا به على كل ارتياح إلى خيرات الأرض مهما سمت. لذا فلنا أن نلتمس، قبل كل شيء وفوق كل شيء، أن تتم إرادته فينا. فإننا نعلم أن هذه الإرادة تبغي خيرنا وخلاصنا ، وأنها تقودنا في طريق الحياة ولو سلكنا سبلاً تتنافى مع رغائبنا وحاجاتنا الآنية على أهميتها وملحاحيتها: ” نحن نعلم أن الله في كل شيء يسعى لخير الذين يحبونه…” (رومية 8: 28)
نعلم أيضاً أن الله يحبنا أكثر بما لا يقاس مما نستطيع نحن أن نحب ذواتنا، وأننا، إذا أسلمنا ذواتنا لإرادته، فإننا إنما نسلّمها لذاك الحبّ الذي منه نستمدّ وجودنا ومن ثقتنا به نستمد يقيننا بأننا سوف ننتصر على كل ألم وشر وفشل (وبأن الموت نفسه سوف يكون “لنا” في آخر المطاف، على حد قول الرسول المذكور أعلاه، عوض أن نكون نحن له كما يبدو في ظاهر الأمور حيث يبدو الإنسان “كائناً – من أجل – الموت être – pour – la – mort وبأننا سوف نصل إلى الفرح الذي لا يوصف ولا تشوبه شائبة ولا يعروه أفول.

10 – شهادة مؤثرة.
ولنا على هذا الموقف شهادة مؤثرة يقدّمها فلاح هندي من غواتيمالا، وقد التُقطت على لسانه في ربيع 1983 بعد أن لجأ إلى الحدود المكسيكية. كان قد أُلقي القبض على هذا الفلاّح بعد أن أُلصقت به زوراً تهمة الانتماء إلى المقاومة المسلحة التي كانت تتصدى في ذلك الحين للنظام الجائر السائد في ذلك البلد المسكين من أميركا الوسطى وللدكتاتورية العسكرية التي كانت تدعمه وتحميه. زُجَّ المُتهَم في سجن عسكري رهيب، وكان أحد الحراس شرساً قاسي القلب واختصاصياً بالتعذيب. وضع خنجراً على أنف السجين وهدّده بقطعه إن لم يقرّ بما لديه من معلومات. أجاب الفلاح أنه لا يعلم شيئاً وأنه اعتُقل زوراً. ولنترك الآن الكلام للفلاح في حوار مع سجّانه:
” وبدأت أصلي إلى الله أمامه. فقال لي:
” – ماذا؟ يا ابن القذر! قال لي. لماذا تصلي إلى الله؟
“لأنني راغب في ذلك.
“- تريد أن يأتي الله إلى ههنا لينتزعك من أيدينا؟ هنا، لا يستطيع أحد أن يدخل. بالنسبة إلينا، الله غير موجود (ملاحظة: علماً بأن النظام العسكري هناك وفي غيره من بلاد أميركا اللاتينية كان يدّعي أنه إنما هو متجنّد للدفاع عن “الحضارة المسيحية”! ك.ب.). هنا الله غير موجود، لا شيء، لا يوجد شيء. ما تفعله، إنما هو سعدنات لا جدوى منها. لا يسعك أن تنقذ نفسك بنفسك، لأنك إذا كنت تريد أن تنقذ نفسك، إذا كنت تريد أن يأتي الله ليأخذك من هنا، فهذا لا يفيد شيئاً. يمكنك أن تقضي الليل مصلياً، فلن ينقذك ذلك.
“- أنصِت إليّ جيّداً. لقد أسأتَ فهمي. إذا تمّت فيّ إرادة الله، فهذا يعني إما أن ينتزعني ذات يوم من أيديكم ليحررني، وإما أن أموت. هذا ما قلته له (…) في كلتا الحالتين تتحقق إرادة الله. فإما أن يُطلِق سراحي، أو أغيب عن هذا العالم. إنما تلك هي إرادة الله، وليست إرادتك.
“- يبدو انك كثير الإيمان، قال لي … “

3/5/1987
ك. ب.
مجلة “النور”، العدد 5، 1987