أولاً : ما هي أسباب الشكّ الذي ينتاب المؤمن؟
1) إننا، في هذه الحياة، “نسلك بالإيمان لا بالعيان” (2 كورنثوس 5: 7)، لا نرى الله بعد وجهاً لوجه، إنّما “في مرآة، في إبهام” (1 كورنثوس 13: 12).
2) من هنا إن علاقتنا بالله تمرّ حكماً بتصورات بشرية. وكما أن تصوراتي عن إنسان تربطني به علاقة مودّة، تبقى دائماً دون حقيقة هذا الإنسان وليست قادرة بحال من الأحوال أن تستنفد غنى شخصه الحيّ، كذلك، وبالأحرى، فإن تصوراتي عن الله تبقى أبدًا ناقصة ولا يمكنها بحال من الأحوال أن تنطبق كلياً على حقيقة الله التي تفوق بما لا يقاس كل تصور. من هنا إن التصورات التي يستند إليها إيماني قابلة دوماً لإعادة النظر وللتطور والنموّ.
3) الشكّ ناتج من هذا القصور في تصوراتنا. فقد ينكشف لنا في وقت من الأوقات ضعف وهزالة هذه التصورات. ولكن، بما أن اتصالنا بالله يتم حكماً من خلالها، فلا عجب أن يتراءى لنا، إذا تصدّعت، وكأن إيماننا عينه قد اضطرب وتزعزع.
4) فإذا كان الشكّ، كما رأينا، نتيجة تصدّع تصوراتنا عن الله، فلماذا يا تُرى، تتصدع هذه التصورات؟
أ- قد يكون ذلك ناتجاً من كونها تصورات موروثة، معلومات تسلمناها من محيطنا عبر التربية التي تلقيناها، ولكننا لم نُعمل فيها بعد تفكيرنا الشخصي، ولم نتقبلها تقبلاً واعياً ومسؤولاً. فإذا بها تبدو وكأنها ثوب مستعار، إذا ما استيقظت فينا القدرة على التفكير الشخصي وأخذنا نعيد النظر بكل ما كان يبدو لنا بديهياً عندما كنا نكتفي بأن نردد كالصدى ما تسلمناه بالتربية. من هنا كثرة الشكّ لدى المراهقين والشباب، بحكم انتقالهم من مرحلة التدين الطفوليّ المبني على التسليم إلى مرحلة التدين الراشد المرتكز إلى القناعة الشخصية.
ب – وقد تكون التصورات المتصدعة تصورات مغلوطة عن الله تسربت إلى معتقدات بيئتنا وانتقلت إلينا عبر التربية الدينية التي تلقيناها من هذه البيئة، على يد الأهل أو سواهم، فتقبلناها دون اعتراض، في حينه، نظراً لما كان للمربين علينا من تأثير وسطوة ونفوذ. ولكن هذه التصورات تتضعضع عندما يستيقظ فينا الحس النقديّ وتنضج خبرتنا بالحياة، فيؤول بنا ذلك إلى الشكّ. ومن هذه التصورات، تصور المصائب على أنها عقاب ينزله الله بالبشر (وهو تصوّر يصطدم بما نكتشفه من ألم الأبرياء)، أو تصور الله وكأنه يسيّر الكون كآلة ويتحكم بكل شاردة وواردة تجري فيه (وهو تصوّر يصطدم بوجود الشرّ في الكون)، أو تصوّر الله وكأنه “مقسّم الأرزاق” (مما يتنافى مع اكتشافنا المرير لواقع الظلم الاجتماعي والاستغلال).
ج – وقد تكون التصورات المتضعضعة تصورات عن الله تنطلق من مفاهيم للكون والإنسان عفا عليها الزمن، فإذا بها تصطدم بمعطيات العلوم الحديثة التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من ثقافتنا الحاضرة ومن ذهنية الإنسان المعاصر. وبفعل هذا التصادم ينشأ الشكّ، إذ يبدو الإيمان وكأنه من مخلّفات الماضي أو كأنه في تناقض مع العلم. هذا ما يحصل مثلاً عندما تؤخذ رواية الخلق، كما وردت في سفر التكوين، بحرفيتها، فتصطدم عند ذاك لا محالة بما توصل إليه العلم من نظرة تطورية إلى الكون وتاريخه وظهور الإنسان فيه.
د – وقد تكون التصورات المهتزة تصورات نابعة من أهوائي، كأن أتخيل أن الله يضمن تحقيق كل أمانيّ الراهنة (رغبتي في الصحة والمال والنجاح وما شاكل ذلك)، في حين أنه لم يَعِد بالحقيقة إلا بتحقيق أمنيتي العميقة بالسعادة والاكتمال وذلك بطريقة تتجاوز تصوّري (إن لم يكن إلا لأن هذا الاكتمال يمرّ حكماً عبر الموت الذي يرفضه كل كياني!). ولا بدّ أن تصطدم تصوراتي الوهمية هذه بالواقع (مثلاً: أطلب شيئاً ما في الصلاة فلا أناله)، فأصاب بالخيبة وأشكّ بالله لأن سلوكه لم ينطبق على توقعاتي. نموذجيّ من هذه الناحية تطور فكر حكماء العهد القديم كما نقلته لنا الأسفار المقدسة. فبعد اليقين الشائع بأن الله يُسعد البار ويُشقي الشرير في هذه الحياة الدنيا – وهو اعتقاد الحكماء القدامى وقد عبّرت عنه مقاطع من سفر الأمثال ومن كتاب المزامير – نرى أزمة وجدانية تنشب بسبب اصطدام هذا المعتقد بواقع شقاء العديد من الصدّيقين ونجاح العديد من الأشرار، مما أدّى إلى تعديله، كما نرى في بعض المزامير، بالقول بأن نجاح الشرير إنما هو عابر وشقاء الصدّيق مؤقت. ولكن هذا التعديل نفسه لم يثبت أمام تكذيب الواقع له، مما أدّى إلى حيرة عبّر عنها ببلاغة سفر أيوب – حيث يمثل أصدقاء أيوب الاعتقاد التقليدي – وسفر الجامعة.
هـ – أخيراً قد تكون التصورات المتصدّعة تصورات صحيحة، ولكنها بقيت سطحية وناقصة لأنها لم توضع على المحكّ بمواجهتها مع تعاليم أخرى تبثّها مختلف الأديان والأيديولوجيّات. فإذا ما تكشفت لي هذه على تعددها وتناقضها واختلافها عن مضامين إيماني (وهذا ما هو حاصل لا محالة في عالم اليوم من جرّاء تعددية المعتقدات في المجتمع الواحد، وتداخل الحضارات، وانتشار الأفكار عبر الدراسة ووسائل الإعلام، وخاصة في بلد كلبنان تتواجد فيه طوائف ومذاهب متعددة ومتصارعة)، فقد يبدو لي إيماني وكأنه مجرد واحد من تلك النظريات التي تتجاذب البشر، فتغيب عني فرادته وآخذ بالشكّ فيه متسائلاً: أين هي الحقيقة بين كل تلك المعتقدات التي تتشابه فيما بينها من حيث ادّعاؤها كلها التعبير عن سرّ الوجود ومعناه؟
ثانياً: ما هو الموقف الذي ينبغي اتخاذه من الشكّ؟
على ضوء ما سبق، يتضح أن الشكّ إنما هو فرصة لتنمية الإيمان وتعميقه عبر تنقية التصورات التي يستند إليها وتطويرها وتصحيحها وتعميقها. الشكّ، بهذا المعنى، يعبّر عن أزمة نموّ ينبغي معالجتها بالتي هي أحسن، أي بشكل إيجابيّ، فتؤول إلى مزيد من النضج والأصالة في الإيمان، على شاكلة ما يحصل إذا عولجت أزمة المراهقة لا بالقمع أو الاستقالة، بل بالتفهم والرعاية.
فما هو إذاً الموقف الإيماني السليم من الشكّ؟
1- إن هذا الموقف لا يكون بتجاهل الشكّ وقمعه، لأنه قد يغيب نتيجة لذلك في الظاهر ولكنه يتابع في الخفاء عمله التخريـبي. ثم إننا، بهذا السلوك (الذي يمكن وصفه “بسياسة النعامة”)، نكون قد فوّتنا علينا فرصة ثمينة لتنمية إيماننا.
2-كذلك ليس الموقف السليم، على العكس، موقف الاستسلام إلى الشكّ والاستغراق فيه وكأنه قدر محتوم لا يسعنا سوى الانقياد له (وقد يبطن هذا الاستسلام رغبة خفية في إيجاد ذريعة لنا للتفلت من إيمان مكلف لنا ككل إخلاص وكل إنجاز إنساني أصيل).
3- الموقف السليم يكون أولاً وأساساً بأن نبقى مشدودين إلى موضوع الإيمان، وهو الله كما انكشف لنا في يسوع المسيح، أن نبقى شاخصين إليه بحب، واضعين به ثقتنا (فالإيمان يعني بالأساس الثقة: آمن=أمَّن. راجع عبارة “آمين” التي تعني: أنا واثق من ذلك)، ولو اعترى الاضطراب تصوّرنا له. المهم أن يبقى القلب مطمئناً إليه، منجذباً إليه، وسط القلق والحيرة، مترجياً لنوره في العتمة الحاضرة. (هذا الموقف نجد له أمثلة في خبرتنا البشرية. فقد نُصدَم بسلوك صديق لم نكن لنتوقّعه منه، وقد تهتز من جراء ذلك صورته فينا وتشوب غشاوة صفاء نظرتنا إليه. ولكن، إن بقينا على ثقتنا به، رغم الخيبة والألم، فقد ينكشف لنا بعد حين سرّ سلوكه هذا، فتعود الطمأنينة إلينا وتنمو علاقتنا به عبر هذا الامتحان). هذا هو الموقف الذي عبّر عنه الرسول بطرس بإسم رفاقه الرسل عندما صدم الرب يسوع كل تصوراتهم المألوفة عن ماسيّا المنتظر إذ قدم لهم صورة ماسيّا الخادم الذي يهب ذاته مأكلاً ومشرباً ليحيي المؤمنين به، عوض صورة الملك المسيطر المتسلط الذي كانوا يتوقعون قدومه. “فارتدَّ عنه عندئذ كثير من تلاميذه وانقطعوا عن مصاحبته. فقال يسوع للاثني عشر: “أفتريدون أنتم أن تذهبوا مثلهم؟” فأجاب سمعان بطرس : “يا رب، إلى من نذهب وكلام الحياة الأبدية عندك!…” (يوحنا 6: 66 – 68). ذلك كان أيضاً موقف يسوع على الصليب. فإنه، من جهة، عبّر عن أعماق الشكّ البشري بصيغته المأساوية: “إلهي، إلهي، لماذا تركتنيّ” (متى 27: 46). ولكنه بقي، وهو مكتنَف بالظلمة، على ثقة بأبيه، تلك التي عبّر عنها بصرخته الأخيرة: “يا أبتاه، في يديك أجعل روحي!” (لوقا 23: 46).
المهم إذًا أن نبقى على علاقتنا بالرب، ولو خُيّل إلينا أنه أصبح بعيداً عنا. لا بل علينا أن نغذي هذه العلاقة، في ذلك الوقت الحرج الذي نجتازه، بمزيد من المعاشرة لكلمته، بمزيد من الصلاة والمشاركة في الأسرار (وقد تكون صلاتنا، في لحظات التأزم الشديد، مقتصرة على أن نضع أمام الرب شكّنا واضطرابنا). ينبغي لنا أيضاً، في أزمة الإيمان التي نمرّ بها، أن نمتحن سلوكنا ونجتهد في أن يكون منسجماً مع إخلاصنا لله، “لأن كل من يفعل الحقّ، فإنه يُقبل إلى النور…” (يوحنا 3: 20-21). فإذا انحرف سلوكنا، فهذا من شأنه أن يؤثّر سلبياً على إيماننا وأن يغذّي فينا الشكوك التي تنتابنا بحيث نجد في تلك الشكوك مبرراً لانحراف سلوكنا: “إن النور قد جاء إلى العالم، والناس آثروا الظلمة على النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يوحنا 3: 19). وقد قيل : إن لم تعش كما تؤمن، فسوف تؤمن كما تعيش.
4 – إلى جانب ذلك الثبات في الثقة بالله والإخلاص له (وهو الموقف الأساس كما قلنا)، ينبغي أن نتخذ الخطوات الكفيلة بأن تساعدنا على تنقية تصوراتنا الإيمانية وتصحيحها، دفعًا للشكّ النابع، كما قلنا، من تضعضع هذه التصورات. علماً بأن هذه الخطوات يلهمها ويوجهها الرب من خلال تلك العلاقة الصحيحة التي لا زلنا محافظين عليها بيننا وبينه في خضمّ اضطرابنا الحاضر.
ومن هذه الخطوات :
أ – أن نسعى إلى وعي أعمق وفهم أكبر لحقائق الإيمان عبر المطالعة والحوار، فنتجاوز بذلك شيئاً فشيئاً إيمان التسليم الذي تغلب عليه العاطفة، إلى قناعات إيمانية راسخة ترضي العقل وتنسجم مع المستوى الثقافي العام الذي بلغناه.
ب – أن نتحرر من التصورات الشعبية الخاطئة عن الله التي انتقلت إلينا من مجتمعنا والنابعة من الأهواء البشرية. وذلك باكتشاف الإله الحق، الإله المختلف عن أهواء البشر (هذا الاختلاف الكلّي هو ما عبّر عنه الكتاب بحديثه عن “قداسة” الله)، كما تجلّى لنا في تعليم يسوع المسيح وفي سلوكه.
ج – أن نقوم بالجهد اللاّزم لتحديث تصوراتنا الدينية على ضوء معطيات العلوم المعاصرة، مستفيدين من تقدم علم التفسير الكتابي الذي أوضح اليوم أن الوحي الإلهي إنما يعبَّر عنه بكلمات بشرية تحمل طابع الظروف التاريخية والمعطيات الحضارية التي نشأت في كنفها، وأن الكتاب المقدس ليس في الأساس كتاب علم أو تاريخ (فمثلاً ليست رواية الخليقة كما وردت في الإصحاح الأول من سفر التكوين عرضاً علمياً أو تاريخياً بل “قصيدة ليتورجية” قصد الكهنة الذين كتبوها، من وراء تقسيمهم عمل الخلق إلى ستة أيام، أن يؤكدوا شرعية الاحتفال بالسبت)، إنما غايته الأولى والأخيرة إنما هي التعبير عن محبة الله للإنسان ومقاصده الخلاصية بالنسبة إليه. تلك هي رسالة الكتاب: إنها رسالة واحدة لكل الأجيال، ولكن لا بدّ لكل جيل أن يتلقاها عبر مكتسباته الحضارية وظروفه المعيشية وهواجسه وحاجاته.
د – أن نجتهد بالانتقال من موقف إيماني طفوليّ يتخذ من الله ذريعة لتجنّب مواجهة مجازفة الحياة ومسؤولياتها، إلى إيمان راشد يدرك أن الله لا يعامل الإنسان كقاصر فلا يحلّ عنه مشاكله ولا يقوم عنه بمهماته، بل يحترمه كفاية ليريده واقفاً على رجليه وحراً وليصرّ على أن يبني الإنسان بنفسه الكون وأن يصنع بنفسه حياته وتاريخه ومصيره عبر الأخطاء والعثرات، إنما هو لا يتركه وحده في هذا الخضمّ بل يرافقه بروحه ويمدّه بنوره وقوّته في مواجهته الفردية والجماعية للمشاكل التي تعترضه والمهمّات الملقاة على عاتقه (وقد بلغت هذه المعية ذروتها بالتجسّد)، ويعده بأنه سوف يحقق له ما يبقى مع ذلك خارج متناوله، ألا وهو الوصول إلى ما يتوق إليه قلبه من سعادة تامة واكتمال إنساني وغلبة على الموت.
هـ – أن نسعى إلى تجذّر أفضل في إيماننا وإدراك لفرادته بين الأديان والإيديولوجيات التي تحاصرنا وتتحدانا، وذلك عبر مواجهة شجاعة لهذه العقائد والأفكار واعتبار طروحاتها سؤالاً مطروحاً على إيماننا وفرصة متاحة لنا لبلوغ فهم له أعمق وأرحب وأغنى ولتأكيد إخلاصنا له بعيداً عن كل تعصب وانغلاق وتشنج.
الخلاصة:
ليست الخطيئة إذا أن ينتابني شكّ في إيماني، إنما الخطيئة هي أن أركّز على هذا الشكّ بدل التركيز على وجه السيد الذي هو موضوع إيماني وأصله وغايته. فإذا تصرفتُ على هذا المنوال غرقت في شكّي كما بدأ بطرس يغرق عندما ركّز بصره على أمواج البحر المتلاطمة بدل أن يركّزها على السيد الماشي على المياه الذي دعاه إليه. علينا بالتالي أن نبقى شاخصين إلى وجه السيد فيساعدنا هذا الشخوص على التقدم عبر الشكّ (لا بل محمولين عليه) نحو إيمان أكثر أصالة وعمقاً كما تقدم بطرس فوق الأمواج إلى السيّد.
ليس الإيمان حالة مستقرة نهائية، إنه صيرورة دائمة، مسيرة لا تنتهي، على شاكلة كل علاقة إنسانية عميقة من صداقة وحب وغير ذلك. “فقصة الإيمان” إنما هي قصة حب وعليها ينطبق ما يقوله نزار قباني عن الحب :
“الحب ليس رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينة وشعورنا أن الوصول مُحال”
الإيمان توتّر دائم وتوق مستمر عبر التأزم إلى مزيد من الشفافية يسمح لنا بتلقي نور الرب بصورة أفضل وأجلى. الإيمان خروج دائم من عدم الإيمان وتجاوز مستمر لنقصه: “أؤمن، يا سيّد، فأعِن عدم إيماني” (مرقس 9: 24).
12/5/1986
ك.ب.
النور، العدد 5، 1986