سنة 1971، تطوع عدد من مرشدي الطفولة في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، بتأمين دراسة مسائية يومية لعدد من أطفال العائلات المحرومة. وقد وجّهتُ إليهم بهذه المناسبة الرسالة التالية.
لقد تلطّف الأخ طوني بيطار، فطلب مني إلقاء كلمة بينكم في هذا اللقاء المحبَّب. إلا أن المرض اضطرني إلى ملازمة الفراش. لذا أرجو أن تنوب هذه الكلمة عن حضوري معكم بالجسد.
أودّ أن أتحدّث إليكم عن المشروع الجديد الذي تجنّدتم له. ألا وهو مشروع الدروس المسائية لتلامذة المرحلة الابتدائية، هذا المشروع الذي أرى له أهمية مزدوجة، إن بحدّ ذاته أو من جهة أبعاده الروحية.
1- الأبعاد التربوية والاجتماعية للمشروع.
فهو بحدّ ذاته محاولة جدّية لمعالجة المشكلة الاجتماعية من جذورها. فالمدرسة وحدها لا تكفي لفتح طريق المستقبل لأولاد الطبقة المحرومة، إن لم تتوفّر لدى هؤلاء شروط الإفادة منها بشكل صحيح. ولكن كيف السبيل إلى تلك الإفادة إذا كانت الصفوف مكتظة بالطلاب، كما هي الحال في معظم الأحيان في بلدنا، فلا تسمح للمعلّم بالاهتمام الكافي بكل تلميذ على حدة، وتضطّر هذا الأخير، بالتالي، إلى اللجوء إلى مساعدة أهله في البيت؟ وكيف السبيل إلى تلك المساعدة إذا كان الولد لا يجد في بيته لا الجوّ الملائم للدراسة ولا الأهل المتعلمين الذين يمكنهم أن يساعدوه على فهم ما أُشكِلَ عليه؟ هكذا يتخبّط الطالب المحتاج في دوّامة الفقر، إذ أن بؤس بيئته العائلية كثيرًا ما يحول دون تيقّظ ذكائه ويحكم عليه بالتقصير في دراسته، فييأس ثم يفشل وتُسدّ أمامه الطريق التي كان من شأنها أن تقوده إلى مستقبل أفضل.
لقد بدأتم، أيها الإخوة، بتحطيم هذه الدوّامة المخيفة، وأخذتم بإعادة الثقة والأمل إلى الأولاد المحتاجين وعائلاتهم، وما التقدم الذي لمستموه في علامات عدد من الطلاب المداومين على دروسكم المسائية سوى باكورة ثمار عملكم التي يُرجى أن تتكاثر مع مرور الزمن. إنكم هكذا تعملون في الخطّ الصحيح الذي يجب أن تسير فيه كل خدمة اجتماعية جديرة بهذا الأسم، ألا وهو أن لا يُكتفى بالمساعدة الآنيّة التي تبقي على عجز المحتاج وتخلّد تبعيّته، بل أن يساعَد هذا الأخير على النهوض بنفسه وحلّ مشكلته بيده. هذا ما عبّر عنه المثل الصينيّ المأثور: “إذا أعطيت إنسانًا سمكة، أشبعته يومًا، أمّا إذا علّمته صيد السمك، فإنك تشبعه كلّ أيّامه”.
2- الأبعاد الروحيّة للمشروع.
ولكن يجدر بنا كمسيحيين أن نتطلع إلى الأبعاد الروحية التي لعملكم هذا. هذا العمل خدمة حبّ مجانية، والحبّ ليس بالطبع وقفًا على المسيحيين، فقد يسير فيه غير المسيحيين لا بل غير المؤمنين، أشواطًا بعيدة، وقد يتفوّقون فيه على كثير من المسيحيين. إلا أن المسيحي يمتاز بأنه يعرف أصل هذا الحبّ ومرماه، لأن إيمانه يكشف له من أين يأتي هذا الحبّ وإلى أين يذهب.
أ- إنه مساهمة في الحبّ الإلهي.
المسيحي يعلم أن حبّه من الله يأتي، لأن “الله محبة، فمن أقام في المحبة أقام في الله وأقام الله فيه” (1 يوحنا4: 16). يعلم أن حبّه إنما هو مساهمة في الحبّ الإلهي، ذلك الحب الذي خلق الأكوان واتخذ أجلى أشكاله وأسماها في تجسّد إبن الله وحياته على الأرض وموته (حبًا للبشر). يعلم أنه، إذا أعتق إخوته من قيود الجهل والبؤس، يكون مساهمًا في عمل المسيح الذي جاء، كما قال الإنجيل، “ليطلق المأسورين إلى الحرية” (لوقا 4: 18) ويحطّم جميع الأغلال.
ب- إنه يندرج في خطّ القيامة.
ولكن المسيحي، إذ يعلم من أين يأتي حبّه، يعلم أيضًا إلى أين يذهب. فقد يتساءَل المرء ما هي جدوى الجهود التي يبذلها في سبيل الغير. إنه يودّ، في حبّه لهم، أن يوفّر لهم سبيل النجاح والسعادة. ولكن كل نجاح نسبيّ في هذا الوجود، وكلّ سعادة ناقصة. أماني الإنسان ترتطم بصخور الواقع، واقع المرض والضعف والتقهقر، واقع الألم بشتى أنواعه، واقع التنافر والتباغض والعزلة، واقع الموت الذي يكرّس في الظاهر فشل المشاريع الإنسانية برمّتها. “الناس يموتون دون أن يبلغوا السعادة”، تلك هي الملاحظة المريرة التي أبداها ذلك المفكّر الملحد، ذو القلب الكبير، ألبير كامو Camus. فما الجدوى إذًا من الجهاد في سبيل إسعاد الآخرين؟ كامو يقول إن هذا الجهاد ضروري وإن كان يذهب عبثًا (على شاكلة جهود بطل الأسطورة “سيزيف” Sisyphe الذي كان، المرة تلو الأخرى، وبشقّ النفس، يدفع صخرته إلى أعلى الجبل، وأبدًا يراها بعدئذ تتدحرج إلى أسفله). هذا موقف نبيل طبعًا، ولكنه يائس.
الإيمان وحده يعطي لخدمة الإنسان معناها البعيد وجدواها الحقيقية. إذا كان حبنا من الله يأتي، فكلّ مجهود حبّ نقوم به يصبح مساهمة في الخطة التي يرسمها حبّ الله من أجل حياة الإنسان وخلاصه. وهذه الخطّة لا يمكن أن تفشل ولا بدّ لها أن تبلغ هدفها رغم العقبات كلّها. لا بدّ لها أن تنتصر على الموت نفسه. وما قيامة المسيح، مركز إيماننا وقلبه، سوى باكورة هذا الظفر، ظفر الله، من أجل الإنسان (حبيبه)، على القوى التي تسحق الإنسان.
لذا فكل مجهود حبّ نقوم به من أجل تحرير إخوتنا، إنما في خطّ القيامة يندرج، يمدّها في الكون، ويساهم في بناء الملكوت الآتي حيث يزول الحزن والشرّ والموت (رؤيا 21: 4).
ج- إنه يحمل المسيح إلى الأطفال الذين تتعهدّونهم.
لذا فإنكم، إذ تذهبون إلى هؤلاء الأطفال، فإنكم، وإن لم تحدّثوهم عن المسيح مباشرة، تحملون إليهم المسيح مترجمًا بمحبّتكم، فيستنشقون، من خلال اهتمامكم بهم، عبير المسيح، وينتعشون به، وقد يأتي بعض هؤلاء الأولاد إلى أسرة الطفولة، فيتعرّفون فيها على وجه السيّد صراحة، ويدخلون في حوار معه. أما الباقون، فإن محبتكم ستحمل إليهم شيئًا من (حضور) المسيح، وإن لم يشاهدوا وجهه. تذكرون حادثة تلك المرأة المصابة بنزيف دم والتي أتت من خلف يسوع ولمست هدب ثوبه، فبرأت في الحال من دائها (المزمن)، هكذا فإن حبّكم للأولاد الذين شئتم الاهتمام بمستقبلهم، يكفي ليتيح لهم أن يلمسوا، على نوع ما، هدب ثوب يسوع النوراني. إذ تلامسهم، من خلالكم، محبة المخلص فتداوي ضعفهم وتجعل فيهم طاقة ليحبّوا بدورهم ويعطوا.
أخذ الرب بيدكم، والسلام.
ك. ب.
ألقيت هذه الكلمة في 30/12/1971
غير منشور قبلاً