منذ أن أشرقت “النور” عام 1944، وأطلعت نور معرفتها للعالم، كان اسم الأستاذ كوستي بندلي ملازمًا لها: فهو صاحب امتيازها، وقلما صدر عدد من أعدادها دون أن يكون له فيه بحث قيم يجيب على تساؤلات الشباب الملحة.
ويوم الجمعة 27/11/1981، جرت مناقشة (soutenance) أطروحة الدكتوراه التي تقدم بها إلى كلية الفلسفة في جامعة ليون الثالثة، وكانت بعنوان “الصور الوالدية والمواقف الدينية”Images parentales et attitudes religieuses وهي بإشراف الأستاذ Léon Husson، ثم العميد François Dagognet ، فنال أثرها شهادة دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية، بدرجة “شرف رفيع جدًا” Très honorable، من أعضاء اللجنة المناقشة المؤلفة من: الأستاذ Bourgeois(رئيسًا) والعميد Dagognet (مقررًا)، العميد Bourgeois، والأستاذ Tricaud والأستاذ Court.
فإننا نتقدم من الدكتور كوستي بندلي بأحر التهاني، وننتهز المناسبة السعيدة لنتعرف إلى الحوافز التي دفعت الدكتور كوستي لخوض موضوع أطروحته، وليعرفنا بأهم الموضوعات التي تناولها فيها.
أ. ق.
1-كيف تبلور في ذهنك موضوع الدكتوراه الذي تقدمت به؟
إن الموضوع الذي اتخذته لأطروحتي تبلور في ذهني بناء على هواجس ثلاثة تعتبر أساسية بالنسبة إلي: الهاجس النفسي، الهاجس التربوي والهاجس الديني.
إن ميدان اختصاصي في الأصل هو علم النفس الذي درسته في مدرسة الآداب العليا في بيروت ثم في مدينة ليون بفرنسا، فحصلت على إجازة كمّلتها بتدريب على علم النفس التطبيقي تلقيته أيضا في ليون وتتوج بحصولي على دبلوم في علم النفس التطبيقي من جامعة تلك المدينة. بعد ذلك قمت لمدة سبع سنوات بتدريس علم النفس في مدرسة الآداب العليا في بيروت، وقد تمحورت الدروس التي ألقيتها هناك حول نمو الحياة الانفعالية لدى الطفل في إطار علاقاته المتطورة بوالديه، وهو موضوع تحسست له بنوع خاص إذ كنت أحيا شخصيًا الخبرة الوالدية. إلى جانب هذا التدريس الجامعي، وبعد انقطاعي عنه، كنت ولا أزال استشار مرارًا في حالات نفسية متأزمة يعاني منها أولاد أو شباب أو راشدون. وقد لمست لمس اليد من خلال هذه الخبرة مدى تأثير علاقات الطفل العائلية على توجيه نموه الانفعالي. كما أن خبرتي هذه اغتنت بفضل اللقاءات التي أمنتها عدة إدارات مدرسية بيني وبين أهالي تلامذتـها، مما سمح لي بمشاركة الوالدين في هواجسهم التربوية المتعددة ومساعدتهم على مواجهتها بمزيد من الوعي والصفاء. وقد تغذّت خبرتي النفسية التربوية هذه بالعديد من الاتصالات التي تمت بيني وبين الشباب، أفرادًا وجماعات، حيث كنت أحاول الإجابة عن أسئلتهم التي كان العديد منها يرتبط بالعلاقات بالوالدين وبالمآزم التي تعترض تلك العلاقات. هذا وقد صادفت نفس تلك المآزم، وتأثيرها البالغ، والمأسوي أحيانًا، في إطار مهمة الإرشاد التربوي التي مارستها طيلة أربع سنوات في ثانوية الملعب الرسمية للبنين التي هي مكان عملي منذ ثلاثين عاما.
هذه الهواجس النفسية التربوية التقت فيّ بهواجس دينية. فأنا عضو منذ 1944 في حركة الشبيبة الأرثوذكسية. وبقدر ما كانت هذه الحركة، ولا تزال، تشدد على ضرورة وضع حد للتباعد القائم بين الإيمان والحياة، كان هذا الموقف حافزًا لي على مواجهة الأسئلة الملحة التي تطرحها العلوم الإنسانية اليوم على الإيمان، تلك الأسئلة التي كنت كمرشد ألمس صداها في التساؤلات القلقة الصادرة عن شباب الحركة في مواجهتهم للتطور السريع الحاصل لمجتمعهم وتحدي الحداثة لبناه وتقاليده. وقد كان من الطبيعي – بداعي اختصاصي – أن أتحسس بشكل خاص للأسئلة الخطيرة التي يطرحها التحليل النفسي على الإيمان، وهي أسئلة كانت ولا تزال تبدو لي ذات أهمية بالغة بسبب اعتناقي للنهج الفرويدي في تحليل الدوافع البشرية وبسبب ما كشفته لي ممارستي السيكولوجية من آثار فادحة، على الصعيدين النفسي والروحي، قد تتركها التربية إذا بنيت على عقد نفسية. إلا إنني كنت أرى بالمقابل أن الطابع العصابي الذي ألصقه المذهب الفرويدي بالدين لا ينطبق بالفعل إلا على الأشكال المنحرفة التي قد يتخذها التدين والتي هي بمثابة تجربته الدائمة.
من هنا كان الحوار مع فرويد من أهم حوافز بحثي هذا والخط الموجه له، وقد حرصت على أن يكون هذا الحوار حرًا وصريحًا ومنفتحًا.
2-ما هي الأبواب الرئيسية التي تناولتها في دارستك؟ وما هي أهم الأفكار الجديدة التي حاولت إثباتـها؟
• في الجزء الأول من رسالتي حاولت أن أضع الأسس الفلسفية التي يستند إليها البحث كله. فناقشت جوهر النظرة الفرويدية إلى الدين وأخذت عليها طابعها الاختزالي réducteur الذي ينـزع إلى اعتبار المواقف الدينية مجرد إسقاط للصور الوالدية المتكونة في نفسية الطفل والممتد أثرها إلى نفسية الراشد انطلاقًا من عقله الباطن، وبالتالي مجرد إشباع هوامي fantasmatique للنزوات الغريزية البدائية الكامنة وراء تلك الصور.
وقد أوضحت أن تلك النظرة ليست نتيجة حتمية للاكتشافات العلمية العملاقة التي حققها فرويد في ميدان استقصاء اللاوعي الإنساني، إنما هي حصيلة تأويل لمضمون تلك الاكتشافات وفقا لمسلمات فلسفية مبطنة مرتبطة بشخصية فرويد وبالمناخ الفكري الذي نشأ فيه، مسلمات يتجاوزها فرويد نفسه بين الفينة والفينة بهدي حدسه العميق واستقامته الفكرية المدهشة. وقد واجهت هذه النظرة الاختزالية للعلاقة بين الصور الوالدية والتدين بنظرة أخرى وجدتها عند مفكرين استعرضت آراءهم وناقشتها، – منهم محللون نفسيون كيونغ وبودوان وكاروزو، ومنهم فلاسفة كريكور، ومنهم أناس جمعوا إلى التحليل النفسي الفلسفة واللاهوت كبوهييه وفرغوت. هذه النظرة الثانية سميتها “رمزية” لأنها ترى أن المواقف الدينية تتجذر في الصور الوالدية الطفولية لأنها صور مؤسسة للشخصية كلها وموجهة لكافة علاقاتها، ولكنها تتخطى بآن تلك الصور إذ تضفي عليها معنى جديدًا وفريدًا. وقد بينت أن تلك النظرة الرمزية تتوافق مع خصائص الرغبة الإنسانية désir، تلك الرغبة التي هي في قلب مفهوم فرويد للإنسان. ذلك أن الرغبة هذه لا تقف عند حد بل تتجاوز كل إشباع، مما يشير إلى أنـها في جوهرها وعمقها متجهة إلى مطلق يستقطبها ويحركها نحوه دون هوادة، وان كل ما تشتهيه على طريق مسيرتها اللانهائية هذه ليس سوى تـهجئة أو رمز – لا يفي بالغرض – للواقع اللامتناهي الذي ترجوه في العمق وتتوق إليه، والذي تكشف لا محدودية الرغبة حضوره في صميمها، كما تكشف خيباتـها المتتالية ابدا غيابه عنها نتيجة لتعاليه: فهو ملازم لها ومتعال عنها بآن، حاضر في غيابه وغائب في حضوره.
• أما في الجزئين الثاني والثالث، فقد دخلت في صلب الموضوع إذ تناولت مباشرة الصور الوالدية في علاقتها بالمواقف الدينية. فخصصت الجزء الثاني “لدارسة إجمالية للصلات القائمة بين علاقات الولد العائلية والمواقف الدينية”. أما الجزء الثالث، وهو الأهم، فقد تناول تلك الصور الوالدية بالتفصيل، فاستعرض أولاً الصور الأمومية بوجه عام ثم بمراحلها المتتالية زمنيًا من صورة جنينية للأم، إلى صورة فمية لها، إلى صورة شرجية، إلى صورة أوديبية، ثم انتقل إلى الصور الأبوية بوجهها العام ثم بمراحلها الثلاث: المرحلة السابقة للاوديب، ثم المرحلة الأوديبية المأزمية، ثم المرحلة اللاحقة لحل عقدة أوديب. وقد أجريت مسحًا مفصلاً لمضامين تلك الصور المختلفة ولعلاقة كل منها بالمواقف الدينية، وذلك على ضوء المعطيات الغزيرة التي يوفرها التحليل النفسي بهذا الصدد بدءًا من دراسات فرويد الشهيرة، واستنادًا إلى حصيلة الدراسات الميدانية في علم النفس الديني، والى خبرتي الشخصية على الصعيد النفسي التربوي وملاحظاتي النفسية التي سجلتها طيلة أعوام عن سلوك أولادي، والى ما التقطته من معطيات نفسية في آثار الأدباء وترجماتهم الذاتية. وقد أتى هذا المسح مؤكدًا للفرضية الفلسفية “الرمزية” التي تبلورت من خلال الجزء الأول، إذ تبين أن المواقف الدينية في أصالتها (وقد اعتمدت في تبيانـهـا على التراث المسيحي في أنقى مصادره) تتجذر على الصعيد النفسي في كل من الصور الوالدية المتعاقبة وتتلون بخصائصها النـزوية والانفعالية (ولا غرو، فالله في الكتاب المقدس يقدم لنا ذاته بصورة الأب وبصورة الأم أيضا)، ولكنها تتخطى هذه الصور مفردة ومجتمعة متخذة منها تهجئة لوجه كائن متعال تكشفه تلك الصور وتحجبه بآن (فأبوّة الله مثلا تتجاوز كل صورة للأبوة البشرية بحيث أننا إذا اتخذنا أبوّته مقياسًا لم يعد بوسعنا أن ندعو أحدًا على الأرض أبًا،كما علّم يسوع تلاميذه). كما اتضح أيضًا من المسح الذي أشرت إليه أن تلك الصور الوالدية قد تتضخم بفعل عوامل نفسية وتربوية ودينية وتاريخية واجتماعية بحيث يفقد الرمز شفافيته ويغلب فيه الطابع الحاجب على الطابع الكاشف، فتُسقَط عند ذاك على الله الصور الوالدية الطفولية وتشوّه صورته عوض أن تؤدي دورها الأصيل كدليل للقلب إليه.
هكذا تنشأ مثلاً صورة الإله المتخَذ ضمانة سحرية ضد كل مشاكل الحياة ومخاطرها، أو صورة الإله الساحق الذي لا يترك للإنسان سبيلاً حياله الا العبودية أو التمرد. في مثل هذه الحالات، المؤذية روحيًا ونفسيًا على حد سواء، تتحقق إلى حد ما نظرة فرويد إلى التدين، ولكنه تديّن زائف ينبغي للمؤمنين، أفرادًا وجماعة، أن يحترزوا منه بحرص شديد وسهر دائم وتنقية مستمرة لمواقفهم. لذا فقد بدا لي أن النقد الفرويدي للدين، على علاته، قد يكون من الوسائل الفعالة لتلك التنقية الواجبة للإيمان التي دعا إليها الكتاب المقدس وكبار الروحيين، والتي لا بد منها للحيلولة دون مسخ صورة الله وفقا للأهواء البشرية التي تتجذر كلها في نرجسية الطفولة واستيلائيتها. وقد حرصت على استخلاص توجيهات تربوية عائلية تصبّ في خط التنقية هذا الذي يحفظ، وحده، لله تعاليه وللإنسان كيانه وكرامته ومسؤوليته التاريخية.
• أما الجديد في الأطروحة، فأجمله بما يلي:
أ- التأليف synthèse بين العناصر المتفرقة في كتابات العديد من العلماء والمفكرين وسواهم، وإغنائها بخبرة شخصية، نفسية وتربوية وأبوية وإيمانية، وتركيب كل ذلك في وحدة متماسكة هادفة أقرت لجنة المناقشة أنها مساهمة شخصية هامة في حوار المسيحيين مع الفرويدية، ذلك الحوار الذي بدأ منذ أيام فرويد على يد تلميذه، المحلل النفسي والقس بفيستر.
ب- تحقيق النظرية “الرمزية” التي استلهمتها من عدد من المفكرين المعاصرين، فكانت مساهمتي الشخصية تثبيتي لها من خلال ذلك المسح الشامل المفصّل، المذكور أعلاه، الذي أجريته للصور الوالدية على اختلاف مراحلها، محللاً علاقتها بالمواقف الدينية.
ج- إبراز عنصر هام في تلك العلاقة بين الصور الوالدية والمواقف الدينية، ألا وهو أن الموقف المسيحي الأصيل (كما يتضح إذا عدنا إلى أنقى مصادر التراث). إذا تجذر في صورة والدية ما، فانه يتجاوزها بآن معا بتلبسه، إلى جانبها، صورة والدية أخرى تمثل درجة أرقى في سياق النمو. فمثلاً إذا عُبِّر رمزيًا عن مضمون إيماني بصورة الأم الجنينية (بما فيها من توق نكوصي régressif إلى العودة إلى اندماج الجنين بأمه والى ما يمنحه هذا الاندماج من طمأنينة وأمان وإشباع فوري)، رأينا هذا المضمون الإيماني عينه لا يكتفي، للتعبير عن نفسه، بهذه الصورة البدائية جدًا بل يُقرنها بصورة أرقى تناقضها، ألا وهي صورة الولادة بما توحيه من عناصر المواجهة والتمايز والاستقلال (فالمعمودية مثلا ترسم بالتغطيس عودة الإنسان إلى رحم الأم ولكنها تمثل بالانتشال صورة الولادة).
كذلك فالتعبير الفمي oral عن الإيمان، بما يوحيه من عناصر إستيلائية تتميز بها هذه المرحلة من النمو (إذ يخيل للرضيع انه يستوعب أمه في ذاته، يلتهمهها)، لا بد وأن يشمل أيضا، كي يستقيم، عناصر مستمدة من خبرة الفطام (فالمناولة المسيحية مثلاً يسبقها صوم، والأهم من ذلك أنـها اشتراك في موت المسيح أي إنها دعوة إلى انسلاخ دائم)، بما في هذه الخبرة من اعتراف باستقلالية الأم وتجاوز النرجسية الأولى. كذلك فالعناصر الأمومية في صورة الله (فالله أمان وراحة وتعزية وغذاء …)، بما توحيه من اندماج بدائي بالأم واحتماء بها، تقترن بعناصر مستمدة من الوظيفة الأبوية التي تبرز في حياة الطفل لتقطع رباط السرة النفسي بينه وبين أمه وتطلقه في رحاب الوجود (فالله كلمة أيضا وشريعة وملك وديّان، بما يوحيه كل ذلك من عناصر التمايز والتجاوز والمسؤولية والالتزام). كأن الإله الحي، إذا شاء أن يكشف ذاته للإنسان من خلال إحدى البنى النفسية التي تأسس عليها كيانه، يفجّر بآن معا محدودية هذه البنية ليفتحها على بنية أحدث عهدًا وأرقى، بحيث يكون التجاوز النفسي الأفقي هذا صورة للتعالي الكياني العمودي.
>د- ومن عناصر الجدَّة في الأطروحة إثبات صلاحية المفاهيم اللاهوتية الأرثوذكسية من أجل حوار مثمر مع الفرويدية. وأخص بالذكر هنا المفهوم الآبائي الذي بلوره القديس غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر وتبنته الكنيسة الأرثوذكسية رسميًا، ألا وهو التمييز، في الله، بين “الجوهر” الذي لا يدنى منه، و”القوى” أي الحضور الإلهي المنبثّ في الكون، الملازم له. فقد حاولت أن أبين في سياق رسالتي مدى انسجام هذا المفهوم الأرثوذكسي مع النظرية “الرمزية” التي تعطي الفرويدية حقها وتحررها بآن من محدوديتها: فالصور الوالدية تنقل الحضور الإلهي بفعل “القوى” الكامنة فيها (فالطفل يبدأ بتذوق الله فعلا من خلال علاقته بوالديه)، ولكنها بآن معًا تعجز عن احتواء هذا الحضور وذلك لأن “الجوهر” الإلهي متجاوز أبدا للخبرة الإنسانية. كما إنني أوضحت كيف أن هذا المفهوم الأرثوذكسي يوفي الرمز حقه تمامًا، فلا هو يضخمه بحيث يحجب الإله المتعالي، شأن كل صنمية، ولا هو يبخسه باعتباره مجرد إشارة إلى الإلهيات كما أخذت على نظرية الفيلسوف الكبير ريكور Ricœur المتأثر بالفكر البروتستانتي حسب مذهب بارت. وقد سرني جدًا ما رايته من تفاعل مرحّب أبداه أعضاء اللجنة المناقشة، حيال هذا المفهوم الأرثوذكسي، رغم مخالفته لمسأليتهم المألوفة المتأثرة باللاهوت الغربي أو الإلحاد، كما سرني اهتمامهم بمفاهيم أرثوذكسية أخرى جرى التداول فيها بيننا أثناء المناقشة، كالمفهوم الأرثوذكسي للثالوث وللأيقونة وللاهوت، وقد لمست بهذه المناسبة الأثر الذي تركه مفكرون أرثوذكسيون معاصرون عرفوا كيف يخاطبون الغرب بلغته، كالفرنسي أوليفيه كليمان واليوناني خريستوس ياناراس. وقد أشار العميد بورجوا أثناء المناقشة إلى أن ما يميز أطروحتي عن كتابات هذين المفكرين، هو انفتاحها على الفرويدية، مضيفًا أن هذا قد يكون مرتبطًا برسالة الانفتاح التي تتميز بها كنيستي الانطاكية.
3-ما هي برأيك، الفائدة المباشرة التي يمكن للمجتمع أن يجنيها من هذه الأطروحة؟
لقد كان هاجس المجتمع الذي أنتمي إليه وأحيا فيه، حاضرًا بقوة في ذهني أثناء كتابتي هذه الأطروحة. لذا خصصت قسمًا منها لا يستهان به لبحث الوضع العربي بشكل عام والوضع اللبناني بشكل أخص. وأعتقد أن الفائدة الأهم التي يمكن لمجتمعنا أن يجنيها من عملي هذا، هو أن يكتشف من خلاله خطورة الانحرافات التي من شأنها أن تشوّه التدين وتمسخ صورة الله، نتيجة للعقد النفسية المتأصلة في الطفولة.
إن الصورة الإلهية لا تزال تلعب دورًا حضاريًا بالغًا في مجتمعنا على اختلاف مذاهبه، والحق يقال أن هذا الدور، بوجهه الراهن مأسويّ إلى حد بعيد. فباسم الله نبرر الإتكالية والخمول والرضوخ للأمر الواقع وانعدام التبصر والتخطيط، وباسم الله نبرر السلطوية الساحقة في العائلة والعشيرة والمدرسة والعمل والمجتمع والحكم، وباسم الله نتقوقع ونتنافر طائفيا وقد تذابحنا باسمه في الأحداث اللبنانية الأخيرة. فأرجو أن تساعد أطروحتي على كشف العوامل النفسية المأزمية التي تساهم في تحريف الصورة الإلهية بهذا الشكل المفجع، وان تكون حافزًا للوالدين كي يتفادوا، قدر المستطاع، في علاقتهم بأولادهم، كل ما من شأنه أن يؤدي إلى تلك المآزم والعقد التي تغذي الصورة الإلهية المستلِبة التي نعاني من وطأتها على حساب نقاوة الإيمان وسلامة النمو الإنساني. بحيث إذا تنقت الصورة الإلهية من شوائبها بتأثير تربية عائلية سليمة، كان ذلك عاملاً لا على تحرير الإيمان من قيوده وحسب، بل على تحرير المجتمع والإنسان من استلابهما أيضًا، لأن المرء يستلهم صورة الإله الذي يعبد في توجيه سلوكه وتحديد نمط علاقاته وهيكليات مجتمعه.
ولكنني مدرك أن هذا التغيير المرتجى في مواقف الوالدين ليس بالأمر اليسير: انه يتطلب، كما أشرت في الأطروحة، إلى جانب عملية توعية واسعة تعتمد حوار الوالدين فيما بينهم ومع الأخصائيين، إعادة نظر من قبل رجال الدين والمسؤولين عن التربية الدينية، في القوالب التي يصيغون بها الرسالة الروحية التي يدعون إليها، وكذلك تغييرًا في البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية يحرر الإنسان عندنا من استلابه الراهن فيسهل عليه إذ ذاك تأمين مناخ تربوي لأولاده يتلاءم وشروط نموهم السوي.
هذا ولكي يتاح لهذه الأطروحة أن تأتي بالفائدة المرجوة، ينبغي بالطبع أن تتوفر لأفكارها فرصة الانتشار، وهذا ما سوف أعود إليه في إجابتي عن السؤال التالي والأخير.
4-ما هي مشاريعك بعد نيلك شهادة الدكتوراه؟
لا أعتقد أن نيلي هذه الشهادة، وان أتى تتويجًا لعمل فكري طويل وشاق تابعته طيلة خمسة عشر عامًا، سوف يحدث تغييرًا جوهريًا في مسار حياتي. ذلك أن حصيلة العمل الذي أشرت إليه لم تنتظر مناقشة الأطروحة كي تظهر إلى حيز الوجود، إنما سبق لها أن غذت نتاجي الفكري والتربوي، وعلى سبيل المثال المؤلفات التي كتبتها “كإله الإلحاد المعاصر” و”الجنس ومعناه الإنساني” و”مع تساؤلات الشباب” و”الإنجيل في الحياة” (هذا الأخير بالفرنسية) و”مواقف الآباء ومشاكل البنين”، وكذلك مقالاتي المنشورة في مجلة “النور”.
إن هذه الكتابات ساهمت في نشر بعض أفكار الأطروحة لدى عدد لا يستهان به من القراء في لبنان والبلاد العربية. أما الآن فبنيتي أن أكرس معظم أوقات فراغي لمتابعة عملي التربوي بين الشباب والأهل.
أما بشأن الأطروحة نفسها، فيستحيل نشرها كما هي بسبب ضخامة حجمها (1563 صفحة من الورق الكبير). لذا فقد اعمل على تكثيفها كي تصبح قابلة للنشر، وإنني الآن بصدد إجراء اتصالات بهذا الشأن، بمساعدة المشرف السابق على الأطروحة، الأستاذ هوسون، الذي يهتم كثيرًا بهذا الأمر، كما أن هناك احتمالاً بأن تنشر على حدة بعض فصول الأطروحة التي تتناول موضوعًا محددًا متكاملاً. هذا وإنني أتطلع أيضا إلى نشر هذه الفصول أو ذلك النص المكثف معربة.
ما أسأله من الله هو أن يؤهلني أن أبقى طالبًا للحقيقة حتى آخر رمق من حياتي. وان لي في ذلك نموذجًا حيًا وقدوة، ألا وهو الأستاذ هوسون، المشرف الأول على أطروحتي والصديق الوفي لي وللبنان. ان هذا المفكر المرموق، الذي عايش كبار الفكر الفرنسي كللاند وهالبفاكس وبرغسون وغيرهم، لا يزال إلى الآن، وقد بلغ الخامسة والثمانين من عمره وأقعده المرض، يكرّس ما تبقى له من عمر ونشاط لينكب، بفكره الذي لا يزال نيرًا، على كتابة أبحاث في فلسفة الحقوق، وقد كتب لي هذا المؤمن الممارس، وردد على مسامعي عندما زرته مؤخرًا في منـزله المتواضع في ليون، انه سيستمر في العمل طالما وُهبت له القدرة عليه، وذلك وفقًا لتعليم الإنجيل، كي يجده الرب مستيقظًا عندما يأتي ليطلبه. وقد شئت أن أسجل في الختام شهادته هذه تكريمًا له واعترافًا بفضله.
17/12/1981 ك.ب.
العدد 8و9 من مجلة النور 1981