" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
التديّن بين الإيمان والسحر

خواطر حول قصة “دايم دايم” لمارون عبود

لقد أوحت لي الدراسة القيّمة التي كتبها الأستاذ ايلي قطرميز حول موقف مارون عبود من الإيمان كما يتجلى في كتابه “وجوه وحكايات”، بعض الخواطر حول التدّين وما يكتنفه من أخطار، انطلقت مما ورد في قصة دايم دايم

الإيمان ولغة الرمز

فالاعتقاد بأن البحر يحلو في ليلة عيد الغطاس اعتقاد شعبي كان لا يزال شائعا عندما كنت طفلا، ولعله يستند في الأساس إلى بعض ما ورد في خدمة “تقديس الماء الكبير” التي تقام ليلة عيد الغطاس (بارامون الغطاس) ثم تعاد في يوم العيد بالذات. في هذه الخدمة تعلن الكنيسة (أي الجماعة المؤمنة بالمسيح) أن الرب يسوع، عندما وحّد نفسه بالخطأة الذين كانوا يأتون تائبين إلى يوحنا المعمدان في برية الأردن ويعتمدون منه في النهر، فنـزل بدوره فيه واكتنفه الماء رمز الحياة والموت (أنه يميت ويحيي)، استبق بعمله هذا سرّ صليبه وقيامته اللذين أصبحا منطلقا لتحرير الخليقة وتجديدها. في خدمة “تقديس الماء الكبير” تعلن الكنيسة أن دخول المسيح في مياه الأردن ليعتمد، غرس بذور التجدد ليس في الإنسان وحسب، إنما في الكون المادي أيضا (الممثَّل بالماء الذي لامس جسد يسوع)، وان طاقة التجدد هذه، الني انفجرت بعد القيامة، لا تزال عاملة في صميم لحمة الكون، بصورة بطيئة وخفية، كالخمير في وسط العجين أو كحبوب الحنطة المطمورة في أديم الأرض، إلى أن تتجلى بما يفوق كل تصور عند انتهاء الأزمنة ومجيء الرب. فما حصل مرة في الأردن لا يزال حاصلا اليوم لأن المسيح حاضر أبدا بالروح القدس في الكنيسة التي هي امتداده في التاريخ (“ها أنا معكم كل الأيام والى إنقضاء الدهر”، متى 28 :20) والتي لا يزال من خلالها مكملا عمله الخلاصي. وما خدمة العيد، بهذا المنظار، سوى استحضار مكثف، في يوم متميز، لما يجريه الرب كل يوم بفعل قيامته، من تجديد للكون والإنسان.

  هذا التجديد، تعبّر عنه خدمة “تقديس الماء الكبير” بتلك التعابير الرمزية التي يركن إليها الإنسان عفويا إذا شاء أن يترجم الحقائق الأكثر صميمية وجذرية في خبرته، تلك التي لا يمكن سوى التلميح إليها بالكلام، لأن ليس في اللغة المألوفة وما تحويه من عبارات ذات مدلول محدود، ما يفيها حقها ويحيط بكل غناها. لذا نرى المرء يلجأ إلى التعبير الشعري إذا شاء أن يعبّر عن معاناة وجدانية عميقة، وكل امرئ شاعر بالفطرة إذا عاش مثل تلك المعاناة، فإذا به يعبّر عنها تلقائيا بالاستعارة، فيخاطب مثلا المحبوب قائلا: “يا نور عينيَّ…” . تلك هي لغة الرمز. فالكلمة الواحدة (“النور” هنا) لم تفقد معناها الأصلي، إنما اتخذت بالإضافة إليه معنى آخر يصعب التعبير عنه بشكل مباشر فيُتخذ المعنى الأول لتهجئته والتلميح إليه (فكما النور يبهج الإنسان، هكذا، وإنما بشكل آخر، يبتهج الحبيب بالمحبوب). هكذا تصبح الكلمة حاملة لمعنى يتجاوز معناها المألوف، وان كان ينطلق منه ويستند إليه ويستلهمه، إنما لا يستطيع إدراك هذا المعنى الجديد إلا من كان متحسسا للخبرة التي يشير إليها. أما إذا كان غريبا عن هذه الخبرة، فهو ينـزع إلى حصر الكلمة في مادية معناها الأول الخام، أي إلى تجريدها من عمقها وبترها عن أفقها البعيد؛ انه، بعبارة أخرى، يسطّح الكلمة ويعطل شفافية الرمز، فتحتجب عن ذهنه البليد الرؤيا التي كان ذاك الرمز مدخلا إليها وكمثل نافذة مطلة على رحابها. وتحضرني هنا حادثة رويت لي في طفولتي على إنها وقعت فعلا في مجتمعنا (حتى انه كان يذكر لي اسم بطلها): كانت أم تعاتب ولدها – وقد اصبح رجلا – على عقوقه، فقالت له: اذكر يا ولدي الحليب الذي أرضعتك إياه في صغرك. فأجاب ذاك الرجل: سوف ابتاع لك رطلا من الحليب أعوضك به عما أطعمتني إياه. هكذا تعامى هذا الرجل – بسبب قسوة قلبه – عما كانت والدته تحاول أن تبلغه إياه بلغة المجاز. هي استخدمت بالفطرة أفضل دالّ على عالم الأمومة وما يمثله من حنان ودفء وأمان وإشباع، فاستخدمت صورة الحليب (التي بيّن الشعراء، وأوضح التحليل النفسي من بعدهم، غنى الخبرة الإنسانية الأساسية التي نشير إليها)، ولكن ولدها أغفل غنى العبارة، مختزلا إياها إلى معناها المادي الصرف.

       لغة الرمز، التي هي لغة الشعر، هي أيضا، وبالأحرى، لغة الإيمان الطبيعية. ذلك لأن الخبرة الإيمانية تتميز بتوتر فريد: فهي من جهة قلب الخبرات البشرية قاطبة، إذ أن هذه من حيث إيجابياتها ترتبط بها كلها كما بأصلها وتصب فيها كلها كما في غايتها (لأن الله، موضوع الخبرة الإيمانية، هو ألف رغبة الإنسان وياؤها، به يتعرف الإنسان إلى أعماق أعماقه وبه يحقق ما يصبو إليه في الصميم)؛ ومن جهة أخرى فهي تتجاوز كل خبرة بشرية لأنها تتطلع بالرجاء وتستبق بالمحبة “ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر” (1 كورنثوس 2: 9). ففي خبرة المؤمن، الله هو بآن أقرب إليه من ذاته، “Quelqu’un qui (est) en moi plus moi – même que moi”، كما قال الشاعر الفرنسي بول كلوديل، وأبعد عنه من أبعد الكواكب؛ انه المحتجب أبدا في حضوره والحاضر أبدا في احتجابه. لذا لا يمكن التحدث عنه إلا برموز تتخذ موادها من سائر الخبرات البشرية ولكنها تعطي لهذه المواد مدلولا جديدا بالكلية. ذلك هو النمط الذي يتحدث به الكتاب المقدس عن الله: فالله نار (“إلهنا نار آكلة”) ولكنه ليس كالنار (هذا ما تشير إليه صورة العليقة التي ظهرت لموسى تلتهب ولا تحترق)؛ والله ملك ولكنه ليس كالملوك (لأن عرشه الوحيد على الأرض كان صليبًا وتاجه الوحيد إكليل شوك وصوره المفضلة “الصغار” لا عظماء الأرض)؛ والله سيد لكن لا كالأسياد (لأنه واقف على باب كل قلب يقرع، ولا يدخل إلا إذا فُتح له الباب طوعا)؛ والله أب ولكن ليس كالآباء (لأنه أصل الوجود وليس مجرد ناقله، ومستقبله وليس مجرد ماضيه، ولأن لا أثر للإستيلائية والتسلط في حبه الأبوي المحرّر)؛ والله حبيب (حتى إن “نشيد الإنشاد”، وهو في الأصل مجموعة من الشعر العشقي، اتخذ ضمن الكتب الموحاة للتعبير عن صلة الحب بينه وبين الناس)، ولكن حبه هذا يفوق بما لا يقاس كل حب بشري (حتى أن الذين يسيرون في درب العفة المكرسة يمتنعون عن الحب البشري لا احتقارا له بل شهادة لتجاوز الحقيقة للرمز مهما سما قدره).. لذا تحدث يسوع عن عالم الله بأمثال (“يشبه ملكوت السماوات ..”) تستمد عناصرها من معطيات الكون والمجتمع ولكنها تعطي لهذه العناصر مدلولا يتجاوزها إلى ما لا يُحدّ: فكلمة الله تشبّه مثلا بالزرع الذي إن سقط في ارض جيدة يعطي غلة بنسبة ثلاثين وستين ومائة ضعف (راجع متى 13 :23)، بينما المعروف أن هذا المردود لم يكن يتعدى في فلسطين في تلك الأيام نسبة عشرة أضعاف في أحسن الاحتمالات (1)، وكان يسوع يعرف ذلك دون أدنى شك، وهو الريفي ابن المجتمع الريفي. هكذا فالحديث عن الله وعن عمله في الأرض يتخذ عبارات الخبرة اليومية ولكنه يفجّر مدلولها دون أن يلغيه، بحيث يعطيه القدرة على الإيحاء بما لا يمكن وصفه وتصوره.

هذا بالضبط ما تفعله الكنيسة هي أيضا في لغتها وعلى وجه التحديد في خدمة “تقديس الماء الكبير”. فلنَرَ ذلك عن كثب بالرجوع إلى نص هذه الخدمة. نجد في بدئها بضع قراءات، منها قراءة من نبوءة اشعيا (اشعيا 55: 1 – 13) فيها تبشير للشعب بأن الله سيعيده برأفته من ارض السبي التي أجلي إليها عنوة، فإذا بالنبي يعبّر عن بهجة هذه العودة بالعبارات التالية:
- “لأن الجبال والتلال تندفع لاستقبالكم بفرح وجميع أشجار الحقل تصفق بأغصانـها وعوض العليق ينبت السرو وعوض القرّاص ينبت الآس.”

ومن البديهي لكل من ألف أسلوب الأنبياء – وأسلوب الشعراء – أن النبي لم يرد هنا أن يشير إلى ظواهر مادية، كما لو أخذت الكلمات بمعناها الحرفي، إنما شاء أن يعبّر بأسلوب رمزي عن قدرة الله المحرّرة والمجدّدة. (هذا وقد يكون في صورة تصفيق الأشجار بأغصانها، الواردة أعلاه، أساس للاعتقاد الشعبي بسجود الأشجار ليلة الغطاس، الذي يشير إليه مارون عبود).

وفي فترة لاحقة من الخدمة نفسها يتلو الكاهن بصوت جهوري أمام الشعب “أفشينا” (أي دعاء حارا) أذكر هنا فقرات منه ترتبط مباشرة بما نحن بصدده. إذ نجد فيه هذا المقطع:
- “اليوم نظرنا الشمس التي لا تغرب والعالم يستنير بنور الرب، اليوم القمر يتلألأ مع العالم بالأشعة الساطعة، اليوم الكواكب المضيئة تزين المسكونة ببهاء إشراقها، اليوم السحب من السماء تندّي البشر بغيث العدل…”
من الواضح أن العبارات التي تشير عادة إلى ظواهر طبيعية لم تؤخذ في هذا النص بمعناها المألوف، إنما أعطيت، انطلاقا من هذا المعنى، مدلولا جديدا بالكلية يشير إلى تجديد الكون والإنسان بفعل عمل الله الخلاصي. فـ “الشمس التي لا تغرب” ليست بالطبع شمسنا، إنما هي صورة كتابية عن الألوهة، وكذلك “نور” الرب يتعدى النور الحسّي المألوف. أما بريق القمر “الساطع” (بينما قد تكون تلك الليلة غير مقمرة) و”بهاء إشراق” الكواكب (فيما أن سطوع نور القمر لا بّد وان يحجب ضوء الكواكب في الواقع الحسّي) فهما بما لا يحتمل الشك إشارة رمزية إلى بهجة الخلاص. أما السحب (التي لو كانت هنا ظواهر مادية، لتعارض وجودها في السماء الغائمة مع سطوع القمر وإشراق الكواكب)، فان ما تسكبه ليس مجرد مطر، لأنها “تندّي البشر بغيث العدل” (والعدل مصطلح كتابي يشير إلى مواعيد الله بخلاص الإنسان وتحريره).

بعد ذلك نقرأ العبارات التالية:
- “اليوم زلات البشر تمحى بمياه الأردن، اليوم الفردوس فتح للبشر إذ أشرقت شمس العدل، اليوم الماء المرّ على عهد موسى يتحول للشعب إلى عذوبة بحضور الرب …”

لعل الجملة الأخيرة، التي تحوي تلميحا إلى أعجوبة تحلية مياه “مارّة” على يد موسى كما وردت في سفر الخروج (راجع خروج 15: 22 – 25)، اتخذت أساسا للمعتقد الشعبي بان مياه البحر تحلو في ليلة عيد الغطاس. ولكن الواضح من سياق الإفشين كله إنها هنا مجرد إشارة إلى تجديد الحياة وتحرير الإنسان من مرارة مأساته، اللذين دشنهما الرب منذ أن شارك الإنسان مأساته بدخوله مع الخطأة في مياه نهر الأردن، واللذين لم تكن أعجوبة موسى سوى صورة لهما.

هكذا قل عن ذلك المقطع اللاحق من الإفشين نفسه، وهو يستوحي مقطعا من المزامير (راجع مزمور 76: 17-20) كما يستوحي نص اشعيا المذكور أعلاه:
- “اليوم الأرض والبحر يقتسمان الفرح والعالم يمتلئ سرورا، أبصرتك المياه يا الله أبصرتك المياه ففزعت، الأردن رجع إلى الوراء لما عاين نار اللاهوت منحدرة وحالّة فيك بالجسد. الأردن رجع إلى الوراء عندما رأى غير المنظور منظورا والخالق متجسدا والسيد بصورة عبد، الأردن رجع إلى الوراء والجبال تهللت لمشاهدتها إلها في الجسد، والسحب أبدت صوتها متعجبة من الآتي وهو نور من نور واله حق من اله حق، مُضرقًا في الأردن موت المعصية وشوكة الضلالة وعقال الجحيم …”

في مقارنة هذا النص بحادثة معمودية المسيح كما ورد وصفها في الإنجيل (راجع متى 3: 13-17؛ مرقس 1: 9-11؛ لوقا 3: 21-22)، يتضح أن “فرح” الأرض والبحر (لعل تخصيص البحر بالعذوبة أتى من هنا)، و”رجوع” الأردن إلى الوراء و”تهلل” الجبال و”تعجب” السحب (2)، التي لم يذكر منها شيء في الرواية الإنجيلية، ان هي هنا إلا تعابير رمزية عن مشاركة الكون في السر المذهل، سر تنازل الإله لتحرير الخليقة.

2- تحريف لغة الرمز:
إن المقابلة بين نص خدمة “تقديس الماء الكبير” وبين المعتقدات الشعبية المتعلقة بليلة الغطاس والتي ذكرها مارون عبود، تظهر مدى انحراف هذه الأخيرة عن المعاني الطقسية التي يبدو إنها تفرعت عنها (علما بأن الخدمة التي رجعنا إليها خدمة أرثوذكسية، إنما لا بدّ أن تكون لدى الكنائس المسيحية الشرقية الأخرى خدم مماثلة من حيث الفحوى، نظرا للتراث الديني المشترك فيما بينها، هذا مع الإشارة إلى أن المعتقدات الشعبية المتعلقة “بالدايم” قريبة عند الأرثوذكسيين اللبنانيين منها عند الموارنة الذين يتحدث عنهم مارون عبود). أما جوهر الانحراف فيكمن في أن ما هو تعبير رمزي في التراث الليتورجي، حوّل إلى واقع حسّي، ولم يعد بالتالي يشير إلى فعل الهي يعمل باستمرار في صميم الكون، بما فيه من نواميس، ليجدّده ويكمّله، فعل يدعى الإنسان إلى المساهمة فيه بتجديد ذهنيته ومواقفه وسلوكه ونبذ عتاقة الأهواء والأوهام من حياته الفردية والجماعية، إنما صار يقصد به ظواهر طبيعية خارقة تشبع ميل الإنسان إلى الخوارق المثيرة وتوهمه بان إلهه أصبح واقعا تحويه حواسه وان بمقدوره أن يضع اليد عليه بين الفينة والفينة ليتأكد من قدرته وحمايته ويسخّره لأغراض حاجاته وأهوائه.

هذا الانحراف الذي يهدد أبدا الموقف الإيماني نابع من كون الإنسان مشدودا إلى حواسه، محاصرا بحاجاته ورغائبه، بحيث ينزع تلقائيا إلى احتواء الله في دائرة الأحاسيس وتسخيره لتحقيق الأماني بصورة آنية ومضمونة وبأقل جهد ممكن. من هنا نزعة الإنسان إلى تحريف الرموز التي تخاطبه بها كلمة الله بحيث يتلاءم مع حاجاته الآنية عوض أن يرى فيها وعدا بملء لا محدود يفتح الله افقه لمن ارتضى أن يدخل مجازفة التجاوز الدائم لذاته تلبية لنداء الله.

هذا ما نلمسه مثلا في حوار يسوع مع السامرية عند بئر يعقوب (3). قال يسوع للسامرية بعد أن سألها ماء فتعجبت:
- “لو كنت تعرفين عطية الله، ومن ذا الذي يقول لك: أعطيني لأشرب! إذن لكنت أنت تسألينه فيعطيك ماء حيا”.
لم تفهم المرأة رمز الماء الحي وما يحويه من معنى التجدد الكياني النابع من مشاركة الإنسان في الحياة الإلهية، فقالت له:
- “يا سيدي، ليس لك ما تستقي به، والبئر عميقة؛ فمن أين يكون لك هذا الماء الحي؟ أو تكون أعظم من أبينا يعقوب، الذي أعطانا هذه البئر، ومنها شرب هو وبنوه وماشيته؟”

أعاد يسوع الكرة وحاول أن يوقظ الحس الرمزي عند المرأة فيشعرها بأن “الماء” الذي يعدها به إنما هو قادر وحده أن يلبي فيها رغبة عميقة محورية ليست الرغائب كلها، على تعددها ولجاجتها، سوى تمتمات لها، بحيث إن إشباع تلك الرغائب يبقي على العطش الكياني الذي لا يرويه إلا الله وحده. فقال لها:
- “كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضا، وأما من يشرب من الماء الذي أعطيه أنا له، فلن يعطش أبدا: فإن الماء الذي أعطيه له ينقلب فيه نبعا يتفجر حياة أبدية”.

ولكن المرأة لم تستطع أن ترتقي مباشرة إلى مستوى هذا التعليم، بل جرّدت الصورة من مرماها الرمزي، من بعدها النبوي، لتحتويها في دائرة الحواس وتؤولها وفق منطق الحاجة الآنية، وإذا بالماء العجيب الذي يتحدث عنه يسوع يتحول في خيالها إلى ماء خرافي قادر أن يفي بحاجتها بشكل سحري، مجنبا إياها مشقة الجهد والسعي:
- “فقالت له المرأة: أعطني هذا الماء لكي لا اعطش البتة، ولا أجيء بعد إلى ههنا لأستقي”.

3- المعنى الإنجيليّ للأعجوبة:
إن نفس الالتباس حصل ولا يزال بالنسبة لمعنى الأعجوبة. لقد روى لنا الإنجيلي عددًا من المعجزات صنعها يسوع. والمعجزة أمر خارق ولا شك يشذ عما نألفه من ظواهر الطبيعة وعما استطاع العلم أن يكتشفه من نواميسها. ولكن ليس من مبرر منطقي للجزم باستحالة حدوثها لمجرد مخالفتها لما نألفه أو نعرفه. فقد تكون في الطبيعة طاقات لم نفطن إليها بعد ولكنها، ككل ما هو موجود، مرتبطة بذاك الذي هو مصدر الوجود. والعلم الصحيح يعرف حدوده، فيجزم بما يعرفه ولكنه لا يتسرع بإطلاق أحكام مطلقة، مما يفسح أمامه مجال التقدم المستمر من خلال انفتاحه الدائم للمجهول الذي قد يبرز في افقه ويضطره إلى إعادة النظر في تصوراته. فلو كان لعقل بشري أن يوجد منذ نحو عشرة مليارات من السنين عندما كان الكون لا يزال عبارة عن سحب من ذرات الهيدروجين والهيليوم، لكان هذا العقل انساق إلى الجزم بأن ظهور الحياة بتعقيدها الفائق واستقلاليتها النسبية، أمر مستحيل. ولو كان لهذا العقل أن يرى ظهور الأشكال الأولى للحياة على وجه الأرض منذ مليارين أو ثلاثة مليارات من السنين، وهي عبارة عن متعضيات Organismes  مجهرية الحجم، لكان من السهل جدا عليه أن يقرر أن ظهور دماغ كدماغ انشتاين أمر مستحيل. على قياس ذلك لا يمكن الجزم باستحالة المعجزات انطلاقا مما نعرفه اليوم عن طبيعة الكون. فلا شيء يحول دون الافتراض بأنها تكامل Intégration خارق لنواميس الكون، كما صدرت الحياة عن تكامل فائق لنواميس المادة وكما صدر الفكر عن تكامل فائق لنواميس الحياة.

إنما بيت القصيد هو في معنى الأعجوبة، وهنا يكمن الالتباس الذي أشرنا إليه. فإذا عدنا إلى الإنجيل، رأينا أن يسوع لم يقصد من وراء المعجزات التي اجترحها أن يبهر الناس بمشهد قدرة فائقة تسبيهم إليه وتخضعهم قسرا لرسالته. فقد رفض دور الساحر الأكبر الذي جربه به الشيطان في البرية عندما طلب منه أن يلقي بنفسه من أعلى الهيكل فيبقى سالما (راجع متى 4 :5-7)، ولم يشأ أن يصنع “آية في السماء” كما استدرجه الكتبة والفريسيون (راجع مرقس 8 : 11-12)، وكثيرا ما طالب الذي نعموا بأشفيته بالكتمان خوفا من أن يؤوّل الجمع عجائبه وفقا لأحلامهم الدنيوية فينصبوه ملكا عليهم (راجع مرقس 1 :34؛ 5 :43؛ 7 :36؛ 8 :26). لا بل ارتضى أن لا يقاوم بالخوارق الحتميات النفسية والاجتماعية التي أدت إلى إلقاء القبض عليه ومحاكمته والحكم عليه بالموت (راجع متى 26 : 53) والحتميات البيولوجية التي أدت إلى موته على الصليب نزفا واختناقا (فيما كان خصومه يستدرجونه لإظهار قدرته بالنزول عن الصليب: راجع متى 27: 42). مجمل الكلام أن يسوع خالف بالكلية حلم الاقتدار السحري الذي يراود الإنسان كتعويض عن عجزه وضعفه، ذلك الحلم الذي ينزع إلى إسقاطه على الله متذرعا بالله لتحقيقه.

فما معنى عجائبه إذا؟ لم تكن تعبيرا عن إرادة تسلط، حتى ولو قُصد من هذا التسلط إحقاق الحق والخير، إنما كانت تعبيرا عن حنان فياض يهتز لآلام الناس فينسكب عليها بلسما وشفاء: “أبصر جمعا غفيرا”، فتحنن عليهم، وشفى مرضاهم” (متى 14:14)؛ “ولما قرب من المدينة، إذا ميت يشيّع؛ وهو ابن وحيد لأمه التي كانت أرملة (…) فلما رآها الرب تحنن عليها ، وقال لها: “لا تبكي”. ثم دنا ولمس النعش …” (لوقا 7: 12-14)؛ “…. وأبرأ (…) جميع من بهم سوء؛ ليتم ما قيل باشعيا النبي: “انه أخذ عاهاتنا، وحمل أوجاعنا” (متى 8: 16-17).

       ولكن حنان يسوع هذا لم يكن كأي حنان بشري، ذلك الحنان الذي كثيرا ما يعاني من العجز أمام آلام الغير، إنما كان التعبير البشري عن حنان الله نفسه الذي انحدر بيسوع إلى البشرية ليلفها ويضمد جراحها ويقودها إلى العافية والتحرر والتجدد والشفاء. من هنا كانت عجائب يسوع تعابير ملموسة عن إقبال ملكوت الله إلى الأرض بيسوع المسيح، أي عن سكنى الله مع البشر ليعتقهم ويجددهم بفعل محبته. لذا نرى عجائب يسوع مرتبطة في الإنجيل بإعلانه أن الملكوت قد أقبل، وكأنها مؤشرات حسية لقدوم هذا الملكوت: “وكان يطوف في الجليل كله، يعلّم في مجامعهم ويبشر بإنجيل الملكوت، ويشفي كل مرض وكل سقم في الشعب” (متى 4 :23). ويقول الإنجيلي نفسه انه عند ذاك تحققت نبوءة اشعيا القائلة: “الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورا عظيما، والمقيمون في بقعة الموت وظله أشرق عليهم نور” (متى 4: 16).

عجائب يسوع كانت إذا علامات على حلول العهد الماسياني أي ذلك العهد الذي كان الأنبياء قد بشروا به، وكان الشعب ينتظره، حيث يملك الله في الأرض من خلال مسيحه ويقود تحرر البشرية من كل شر وضعف وبؤس وقهر وموت. عهد التحرر هذا أشار إليه النبي اشعيا بتلك العبارات التي أعلن يسوع في مجمع الناصرة أنها تحققت به:
- “روح الرب عليّ، أنه مسحني لأبشر المساكين؛ وأرسلني لأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، وأطلق المرهقين أحرارا”…” (لوقا 4 :18)

ولم تكن أعمال الشفاء التي صنعها يسوع سوى إشارات إلى حصول هذا الحدث المذهل، حدث دخول الله في تاريخنا ليقوده إلى الانعتاق والتجدد. لذا فهم الشعب من هذه العجائب أن “الله افتقد شعبه” (لوقا 7 :16). ولذا أيضا، فعندما أرسل يوحنا المعمدان من سجنه يستوضح يسوع إن كان هو ذاك المنتظر الذي به تنطلق في العالم ورشة التجديد، أجاب يسوع بتعداد العلامات الماسيانية الحاصلة على يده، قائلا للرسل الذين أوفدهم يوحنا:
- “انطلقوا، وأعلموا يوحنا بما تسمعون وترون: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون والصم يسمعون، والموتى ينهضون، والمساكين يبشَّرون …” (متى 11: 4-5).

لذا فمن عاد إلى وصف العجائب كما ورد في النص الإنجيلي، وجد في أقوال يسوع التي كانت ترافقها، عبارات تتردد وتشير كلها إلى التحرر والانعتاق والانطلاق. مثلا يقول للرجل ذي اليد اليابسة: “مدّ يدك” (متى 12 :13)؛ وللمقعد: “قم، واحمل فراشك، وامش” (يوحنا 5 :8) (وإذا بالمستلقي يقوم وبالمحمول يحمل، وبالكسيح يتحرك) ، وللأصم: “انفتح!” (مرقس 7 :24)، ولأعمى أريحا: “انطلق” (مرقس 10 :52) (وهو الذي كان يتعثر في مشيته) وأيضا: “أبصر” (لوقا 18 :42)، وللمرأة الحدباء التي كانت منذ ثماني عشرة سنة “منحنية لا تستطيع البتة أن تنتصب”: ” انك مطلقة من دائك” (لوقا 13 :12)، ولأبن أرملة نائين الميت: ” أيها الشاب، لك أقول: انهض! ” ولابنة يائير التي فارقت الحياة: ” يا صبية، قومي! ” (لوقا 8 :54). عجائب يسوع كانت إذا إشارة إلى أن “كل شيء” صار “مستطاعا” (مرقس 9 :23) للإنسان إذا انفتح لرب المستحيل (مرقس 10 :27) الآتي بمسيحه لتحرير الأرض. وكما كتب روجيه غارودي:
- “لقد أتى المسيح، فكان ثغرة في حدودنا كلها. والموت، حد الإنسان الأخير، الموت نفسه قد غُلب”.

العجائب إذا علامات حلول “عهد التجديد” (متى 19 :28) الذي دشنه يسوع في الأرض، ولكنها ليست هذا العهد بالذات. إنها ترمز إليه وتنبئ به ولكنها لا تستنفده بحال من الأحوال، لأنه يتجاوزها كما تتجاوز الحقيقة الرمز الذي يشير إليها ويهجئها. وهذا واضح لمن يتأمل الإنجيل بإمعان. فمن جهة لم يشف يسوع المرضى كلهم ولم يردّ البصر إلى كل العميان ولم يعد إلى الحياة كل الموتى… بل اكتفى بالبعض، وان كان عدد هذا البعض كبيرا. والاهم من ذلك أن الذين شفاهم عاودهم المرض فيما بعد والذين أقامهم من الموت كلعازر خضعوا للموت في آخر المطاف. لا بل أن يسوع نفسه، شافي المرضى ومحيي الموتى، خضع لحكم الموت ولم يشأ أن يخلص ذاته وهو الذي أنقذ الآخرين (راجع متى 27 :42) وذاق الموت فعلا لا شكلا ولم يبلغ القيامة إلا عبورا به وبما يعنيه للإنسان من انسلاخ كياني. ولكن قيامة السيد، تلك التي اختبرها التلاميذ بالإيمان خبرة اليقين، كانت تتويج رسالته والبرهان الثابت على مصداقيتها. فقد أعلنت أن قوى الشر والحقد والموت التي تألبت على يسوع وأماتته، لم تقو على طاقة المحبة والحياة والتجدد، تلك الطاقة الإلهية الحالّة في إنسانيته والآتية به إلى العالم، إنما سمحت لها بالعكس أن تبلغ، عبر الموت الطوعي، كل مداها المحرر وكل فعلها الخلاصي.

إن موت المسيح وقيامته هما الحدّ الفاصل بين الإيمان والسحر، بين الرمز والخرافة. فقد أعلن (بضم الهمزة) بهما، بما لا يحتمل الشك، أن ملكوت الله الآتي بيسوع إلى العالم لا يلغي المأساة الإنسانية، بما تتضمنه من ضعف وألم وشرّ وموت، إنما يزرع في صميم المأساة قوة حياة وتجدّد من شأنها أن تمنح البشر، منذ الآن، إذا شاؤوا، القدرة على مكافحة قوى الشر والموت فيهم وفيما بينهم، إلى أن يكتمل فعلها في نهاية الأزمنة في “سماء جديدة وأرض جديدة” (رؤيا 21 :1) يزول منهما الشر والألم والموت (رؤيا 21 :4).

هذا، ومن مفارقات هذه الحياة الجديدة التي زرعتها قيامة المسيح في صميم بؤسنا، إنها حياة محبة (لأن “الله محبة: فمن ثبت في المحبة ثبت في الله ، وثبت الله فيه” – (يوحنا 4 :16)، ولذا فهي تتوق إلى مشاركة لله وللإنسان الآخر لا تتم إلا بانسلاخ دائم عن الذات بحيث لا يجد الإنسان ذاته الحقيقية ويحقق ملء وجوده إلا بخروجه الدائم من ذاته (” فمن طلب أن يخلص نفسه، يهلكها؛ ومن أهلكها يحفظها” – لوقا 17 :33)، وبعبارة أخرى فهو كحبة الحنطة لا يجد حياة مكتملة متجددة إلا عبر موت (يوحنا 12 :24). وفي آخر المطاف لا بد له أن يمر، كما مرّ المسيح، عبر الموت الجسدي وما يعنيه من انحلال لوضعه الإنساني الراهن، ليبلغ ذلك التحول الكياني الذي يجعله بمأمن من الموت.

4- تحريف معنى الأعجوبة:
ولكن الإنسان إذا ترك على سجيته (“الإنسان الطبيعي” كما يسميه بولس الرسول – 1 كورنثوس 2 :14) يودّ لو يستطيع أن يبلغ الحياة دون المرور بالموت (وقد ورد في إحدى الترانيم الزنجية الأميركية : “الكل يريدون الذهاب إلى السماء ولكن لا أحد يريد أن يموت”)، لو يحقق ذاته بالانهماك بذاته لا بتجاوزها بالمحبة، لو يتاح له أن تخلو حياته من المأساة عوض أن يعيش المأساة في رجاء الغلبة واستباقها. مجمل الكلام انه يريد كل شيء الآن وفورا ودون أن يكلف نفسه مشقة الجهاد ومعاناة التحول. لذا فهو يتمنى لو يقلب الله نواميس الكون لصالحه ويسخّرها بفعل سحري لتحقيق فوري لكل أمانيه. من هنا هذا التهافت على العجائب بحيث يُطلب من هذه الأخيرة أن تكون لا مجرد نوافذ يطل منها المرء من حين إلى حين، وحين يشاء الله، على عالم القيامة، بل مؤسسة ثابتة،مرهونة بأوقات محدَّدة ومراسيم معلومة، مما يسمح له بتدجينها لخدمة أغراضه والاستفادة منها بشكل مضمون أو شبه مضمون

هذا ما حصل لبطرس عندما كان مع المسيح على جبل التجلي.جرت الحادثة عندما كان يسوع منطلقا إلى أورشليم ليواجه فيها الموت شهادة لله وفداء للبشر. وفي الطريق، وبينما كان على جبل يصلي، أشرق وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور، فكان هذا المنظر البهي بمثابة نافذة أطلّ منها تلاميذه المختارون على المجد الذي كان مزمعا أن يلج إليه بالقيامة. ولكن بلوغه القيامة كان مرتبطا بعبوره الآلام والموت (ولذا يخبرنا إنجيل لوقا إن موسى وايليا تراءيا إلى جانب يسوع أثناء تجليه وأخذا يخاطبانه “ويتحدثان عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم” – لوقا 9 :31)، وكان على الرسل أن يشاركوا السيّد في آلامه – كما أنذرهم- ليشاركوه مجد القيامة. كان لا بدّ بالتالي من تجاوز الرؤيا ومتابعة المسيرة الشاقة لبلوغ حقيقة المجد المنتظر. ولكننا نرى بطرس يتصرف بوحي من عفويته البشرية، فيودّ لو يحتوي الرؤيا ويحولها إلى واقع دنيوي في متناول يده ويقيم فيها ويستوطن، موفرا” على نفسه وعلى المعلم مشقة تجاوز الذات الأليم، من هنا قوله ليسوع:
- “يا ربّ، انه لحسن أن نكون ههنا؛ إن تشأ أصنع ثلاث مظال: لك واحدة ولموسى واحدة ، ولايليا واحدة” (متى 17 :4).

نفس محاولة تدجين الإلهيات نلاحظها في المعتقد الشعبي حول “الدايم دايم”. فلكي يصبح التصرف بقوة المسيح العجائبية ممكنا، تحصر هذه القوة (وما يرافقها من معاني التجديد التي تعبّر عنها عادة تجديد الخميرة كل عام مرة، ليلة الدايم) في ليلة معينة، ويرهن التقاطها بمراسيم محددة لا يطلب من المرء سوى التقيد بها بدقة (4) ليضمن الحصول على مبتغاه، كتعليق العجينة بشجرة أو ترك خلايا الطحين مفتوحة أو التعبير عما يشاء من الأماني. هكذا يتذرع المرء بمرور السيد ليقلب نواميس الكون لصالحه، وان لليلة واحدة، متصورا أن هذه الليلة، بما إنها “ليلة الدايم”، فهي تحدد وضع العام بمجمله؛ وهكذا يمتد الفعل السحري من “ليلة الدايم” إلى “ليلة دايم” لاحقة ليشمل العمر برمته، فيتسنى للمرء أن يتوهم أن بيده طلسما يقيه مواجهة مأساة الحياة.

إن هذا الاستخدام السحري للأعجوبة يرافقه تحريف خطير لمعناها. فالعجائب في إنجيل يوحنا تسمى “آيات”، وهذا ما يشير إلى كونها علامات نبوية، إشارات، رموزا، تبشر بحلول “عهد التجديد” وتدعو إلى الانخراط الفعلي في ورشة التجديد التي أطلقها المسيح في الكون ولا يزال يقودها بروحه العامل فيه. ولكن التجديد الذي تبشر به تلك الآيات ليس عملية آنية، سحرية، يكفي الإنسان أن يمد يده ليجني ثمارها جاهزة ناضجة. انه، خلافا لذلك، في حياة الإنسان الفرد كما في حياة البشرية مجتمعة، عملية طويلة النفس (بفتح الفاء) لن تبلغ غايتها إلا في نهاية الأزمنة التي لا يعرف ميعادها إلا الله وحده. إنها تشبّه بالنمو (راجع مثل الزرع النابت: مرقس 4: 26-28؛ ومثل حبة الخردل: راجع مرقس 4: 30-32؛ ومثل الخميرة: راجع متى 13 :33) أو بالمخاض العسير:
- “فنحن نعلم أن الخليقة كلها معا تئن حتى الآن وتتمخض. وليس هي فقط، بل نحن أيضا، الذين لهم باكورة الروح، نحن أيضا نئن في أنفسنا، منتظرين التبني، افتداء أجسادنا.” (رومية 8: 22-23). أما الاعتقاد السحري بالمعجزات، فبه يوهم الإنسان نفسه أن القدرة الإلهية قد وضعت رهن إشارته ليتصرف بها كما يحلو له فيحقق فورا كل ما يراوده من أمان، دون أن يترتب عليه أن يتكبد مشقة الجهاد ومعاناة الدخول في عملية التغيير الذاتي والجماعي العسير.

هنا أيضا تتم عملية تسطيح الرمز التي أشرنا إليها أعلاه. فالأعجوبة لم تعد، في المنظار السحري، إشارة ترمز إلى ما هو أبعد منها وأعمق. لقد أصبحت هدفا بحد ذاتها، ترسخ المرء في انهماكه بذاته وتغلق عليه ضمن محدودية هذه الذات المغلقة، عوض أن تدعوه إلى حركة لقاء لا ينتهي، بالله وبالآخرين. لقد اصطدم يسوع نفسه، في فترة حياته التبشيرية، بسوء الفهم هذا لمعنى عجائبه. هذا ما نراه مثلا في المقطع الآتي من إنجيل يوحنا (يوحنا 6: 30-34). كان يسوع قد كثّر خمسة أرغفة من الشعير وسمكتين ليشبع بها الجمع الذي تبعه. وقد إجترح هذه الأعجوبة رأفة منه بهؤلاء الناس الذين كانوا يتبعونه صائمين (5)، ولكنه كان يرجو أيضا أن يروا في هذا الإشباع العجائبي لجوعهم الجسدي إشارة إلى اقتراب ملكوت الله الذي يشبع وحده جوعهم الكياني، ودعوة لهم إلى الانضمام إلى العمل التغييري التجديدي الذي يطلقه فيهم وفي الكون مجيء هذا الملكوت. ولكن معظم الذين أكلوا من الخبز العجيب وقفوا عند ماديته ولم يذهبوا إلى أبعد من ذلك. فصاروا يتبعون يسوع طمعا بتجدد المعجزة، وكأنهم تصوروا أن الله أرسل لهم من هو قادر أن يحل سحريا مشكلة الرغيف فيضمنه للناس دون أن يترتب عليهم فيما بعد تحمل أية مشقة للحصول عليه، ودون أن يُطلب منهم بذل أي مجهود لتغيير ذواتهم والعلاقات فيما بينهم والهيكليات الاجتماعية التي توجّه تلك العلاقات، بحيث يتأمن للجميع الرغيف والكرامة في مجتمع أخوي يترجم بوقائع ملموسة انتماء الناس جميعا إلى عائلة الله. وإذا بيسوع يلومهم قائلا:
- “الحق الحق لكم: إنكم تطلبونني لا لأنكم عاينتم الآيات، بل لأنكم أكلتم من الخبز وشبعتم. فاعملوا لا للطعام الذي يزول، بل للطعام الذي يبقى للحياة الأبدية، الذي يعطيكموه ابن البشر …” (يوحنا 6: 26-27). ولكن سامعيه لم يترفعوا عن الانهماك بالسعي إلى إشباع سحري لحاجاتهم الآنية، فطالبوا السيد بمعجزة شبيهة بمعجزة المن الذي أكلوه في البرية على يد موسى، ولما أجابهم يسوع أن المن لم يكن سوى صورة عن خبز السماء الحقيقي الذي يهب الحياة للعالم، اعتقدوا انه يحدّثهم عن طعام أفضل من المنّ ولكنه لا يتعدى كونه مثله من فصيلة المأكولات التي يستهلكها المرء لقضاء حاجته، فسألوه وفي نفوسهم توثب نحو هذا الطعام السحري:
- “يا سيد أعطنا على الدوام من هذا الخبز” (يوحنا 6: 34)

٭٭٭

تلك هي معاناة التدين الذي يتجاذبه أبدا هذان القطبان: الرمز والخرافة، الإيمان والسحر. لذا فهو مدعو إلى عملية تنقية دائمة كي يستقيم ويتطهر من شوائبه. وعليه من أجل ذلك أن يتقبل برحابة صدر الانتقادات التي يوجهها إليه “الذين من الخارج”، ولو كان فيها بعض التجني، لأنهم بتصدّيهم لما يتعرض له من انحرافات، يساعدونه على تصحيح المسار ويكونون له، من حيث يدرون أو لا يدرون، من حيث يقصدون أو لا يقصدون، عونا على تحقيق هذه “التوبة” (بالمعنى الإنجيلي لهذه الكلمة، وهو تغيير الذهنية وانقلاب المفاهيم) التي لا بد له أن يمارسها باستمرار إذا شاء أن يحقق أصالته. وان انتقادات مارون عبود لمفيدة جدًا من هذه الناحية كما أوضح الأستاذ ايلي قطرميز في دراسته.

إنما لا بدّ من الإشارة في آخر المطاف إلى أن الموقف العقلانوي والموقف السحري Rationaliste (6)، وان بدا لأول وهلة أنهما متناقضان، يلتقيان بالحقيقة على أرضية واحدة. فالموقف العقلانوي يرفض أن يرى في الخبرة الحسية إشارات إلى حقيقة إلهية فائقة هي أساس تلك الخبرة واقفها بآن (فالشمس عنده مجرد شمس – أي كتلة غازية ذات طاقة حرارية هائلة – وليست بآن معا تعبيرا عن قوة الله المنيرة والمحيية، والماء عنده مجرد ماء – أي سائل ذو تركيب كيماوي محدد – وليس بآن معا تعبيرا عن الحياة الجديدة الآتية من فوق …). أما الموقف السحري فهو يغرق تلك الحقيقة الإلهية المتعالية في تعابيرها الحسية ليتسنى له الاستيلاء عليها وهميا والتصرف بها وفقا لرغائبه. كلاهما بالتالي – وان كان كل على طريقته – أسير الخبرة الحسية يضفي عليها صفة الإطلاق فيبترها من البعد الرمزي الذي يمنحها وحده كل كثافتها وغناها.تجاه هذين الأخوين العدوّين، وعلى نقيض كل منهما، يتمسك الإيمان بالبعد الرمزي للكون، ذلك البعد الذي لا يُفقد الواقع شيئا من حقيقته إنما يحترم عمقه وسرّه إذ يرى فيه تهجئة ونبوءة للملكوت الحاضر والمرتجى.

(1)راجع:Joachim Jérémias: Les Paraboles de Jésus, P. 213, Ed. du Seuil, Paris, 1968.
(2)ولعل هذا أيضا أوحى بسجود الأشجار.
(3)راجع يوحنا 4: 7-15
(4)من هنا لهفة إحدى نساء القصة على الإسراع إلى العودة إلى بيتها لفتح خلية الطحين بعد أن تنبهت إلى إغفالها هذا الأمر.
(5)راجع ما قاله عند تكثير الأرغفة السبعة: “إني مشفق على هذا الجمع؛ فانهم معي منذ ثلاثة أيام، وليس لهم ما يأكلون؛ ولا أريد أن اصرفهم صائمين، لئلا تخور قواهم في الطريق” (متى 15: 32).
(6)الذي يختلف عن الموقف العقلي السليم Rationnel، بما يتصف به من ضيق وتزمت.
25/9/1981
1981 العدد 6و7 من مجلة النور سنة