إنه ليسعدني أن أتحدّث في هذه الأمسية الى تلك الوجوه العزيزة التي طالما رغبتُ أن ألتقي بها لأغتذي من إيمانها ومحبّتها. فشكرًا للربّ الذي شاء أن يجمعنا وشكرًا لكم على استقبالكم الأخويّ لي فيما بينكم.
إن الموضوع الذي أسند إليّ، ألا وهو “المسيحي أمام تحديات العصر”، واسع جدًا ومتعدد الجوانب. فالتحديات التي يجابه بها عالم اليوم المؤمن كثيرة، ولكنني سأكتفي بتعرّض سريع لثلاثة من مجالاتها، ألا وهي مجال الإيمان، مجال العدالة، ومجال الجنس.
أولاً: مجال الإيمان
تهز عالم اليوم أزمة إيمان، واقصد هنا الإيمان بالله، الذي هو حجر زاوية كلّ المعتقدات المسحية. موجة إلحاد عارمة تجتاح عالم اليوم وتبعد الكثيرين عن الله. ويتخذ هذا الإلحاد وجهَين، الوجه النظري الذي هو إنكار صريح، مذهبيّ، لله، واعتبار الكون الموجود الوحيد؛ والوجه العمليّ، الذي يتنكّر لله بالفعل إذ إنه يوحي للكثيرين أن يسلكوا وكأن الله غير موجود، رغم اعترافهم اللفظيّ به. هذان الوجهان من الإلحاد يتحديان المسيحي اليوم. فما هو موقفه منهما؟
1- الإلحاد النظري ومواجهته
إذا أخذنا الإلحاد النظريّ، رأينا أن له دافعين أساسيّين. أحدهما هو إنكار الله باسم العلم، والثاني هو إنكار الله باسم القيم الإنسانية.
فمن جهة نجد إدّعاء بأن التفسير العلميّ للكون وللإنسان يغني عن الإيمان، لا بل يتعارض وإياه. كأن يقال مثلاً إن التطوّر يكفي لتفسير نشوء الكون وظهور الحياة وترقّيها ثم بروز الإنسان، دون أن تكون حاجة إلى الإيمان بخالق. هذا هو الوجه العلمويّ للإلحاد.
ومن جهة أخرى نرى أن دعاة الإلحاد المعاصر، أمثال نيتشه وماركس وفرويد وسارتر، يرفضون الله لأن الاعتقاد به، بنظرهم، يعطّل القيم الإنسانية كالحرية والكرامة، ويحكم على الإنسان بالضعف والخنوع والعبوديّة والإتكّاليّة الطفليّة.
فما موقف المؤمن من هذه الادّعاءَات؟
عليه، بنظري، ان يجابهها بتواضع وصفاء، بدون أية انهزامية أو خوف. فإن الله الذي يؤمن به إنما هو ملء الحقّ، ولذا فعلى المؤمن به أن يكون مستعدًا ليتحرّى الحقّ أينما وُجد، حتى عند الملحدين، لأن الحقّ الذي عندهم إنما هو من الله وإليه، وإن إمتزجَ بالضلال. فإذا نظر إلى الأمور من هذا المنظار، أدرك أن ما تتصدّى له المواقف الإلحاديّة إنما هو، بالواقع وإلى حد بعيد، مفاهيم عن الله لا تمتّ بصلة إلى الإله الحيّ الحقيقي، ولكنها لا تميّز بين تلك المفاهيم المغلوطة، التي ترفضها بحقّ، والمفاهيم الصحيحة، التي غابت عنها لأن المؤمنين – أو الذين يسمّون أنفسهم كذلك- لم يظهروا غالبًا للناس الوجه الصحيح لإيمانهم، بل خانوه وزيّفوه، سواءً بتعابيرهم عنه أو بسلوكهم المدّعي استلهامه، أو على الصعيدين معًا.
أ- مواجهة الإلحاد العلموي
فالتناقض المزعوم بين الإيمان والعلم مردّه إلى حدّ بعيد إلى كون المؤمنين خلطوا، في كثير من الأحوال، بين الصعيد العلمي والصعيد الإيمانيّ، فناهض بعضهم مثلاً، بضراوة، نظرية كوبرنيك وغاليلي في الفلك ونظرية دارون في التطوّر، مستندين إلى الكتاب المقدس، كما لو كان الكتاب المقدّس كتاب نظريات فلكيّة أو بيولوجيّة (كان غاليلي يردّ عليهم بحقّ، أن الكتاب المقدّس ليس همّه أن يعلّمنا ما هي أحوال السماء، بل أن يرشدنا إلى السبيل الذي يؤهلنا للسماء).
تحدّي الإلحاد العلمويّ يضطرنا إذًا إلى التمييز بين الصعيدين، فنتخلّى عن فكرة إله يغنينا عن البحث العلميّ الشاقّ الرصين معطّلاً بذلك الطاقة العقلية التي وهبنا إياها من لدنه، ونترك بالتالي للعلم مجاله الخاصّ، مجال تقصّي ظواهر الكون وتحليلها وربطها بعضها ببعض واكتشاف نواميسها، فيبقى هكذا للإيمان مجاله الصحيح، مجال كشف أصل الوجود وغايته ومعناه. عند ذاك، إذا أخذنا العلم على مجمل الجدّ في ميدانه واعتبرناه من هبات الله العظيمة للإنسان، وتركنا له مجاله كلّه، لا بل إذا ساهمنا مساهمة فاعلة في تقدّمه، أمكننا أن نشهد، مع الأب تيار دي شاردين Teilhard de Chardin، ذلك المفكر المسيحي الذي كان، بآن واحد، أحد أقطاب علم تطوّر الكائنات الحيّة في زمانه، أن التطور، الذي يفسّر تاريخ الكون، يحتاج بدوره إلى تفسير كما أنه يحتاج إلى ما يعطي معنى لوجوده وفعله ومساره، وأن الخطّ التصاعديّ الذي سلكته المادة، إنطلاقًا من غبار ذرات الهيدورجين الخفيفة التي تكوّنت منها قبل نحو عشرة مليارات من السنين، وسمت به تدريجيًا فوق ذاتها إلى أن حقّقت “قفزة الحياة” وانتقلت بها من أشكالها البدائية إلى أشكالها الأرقى تنظيمًا وتعقيدًا إلى أن برزت” قفزة الفكر” القادر على وعي ذاته واستعادة تاريخ المادة والحياة، قلت إن هذا الخطّ التصاعديّ الخلاّق الذي ينمّ عما يشبه برمجة خفيّة تعمل عبر النواميس والصُدَف، ليس مجرد حصيلة تفاعل قوى غاشمة، إنما هو، في آخر المطاف، ترجمة لحركة الخلق المستمرة (“أبي يعمل إلى الآن…” يوحنا 5: 17) النابعة من إله هو ألف التطور وياؤه، إله يعمل في صميم مادة هو أصل وجودها ومرجعه، فيعطيها أن تتمخّض بآلهة يشاركونه في الخلق ويشتركون في حياته ومجده.
ب- مواجهة الإلحاد الإنسانويّ
هذا من جهة الإلحاد العلموي. أما إنكار الله بحجّة إنقاذ القيم الإنسانية، فهو يحدو بنا إلى إعادة النظر في كثير من التصوّرات التي تكتنف إيماننا بالله وتطبع تعابيرنا وسلوكنا: صورة الإله الطاغية الذي يُسّر بجهلنا وضعفنا ويغضب ويعاقب إذا تفوقنا في المعرفة والقدرة، (معتبرًا ذلك بمثابة تطاول عليه)، صورة الإله الساديّ الذي يرغب في شلّ وتحطيم الطاقات الحية التي وضعها هو فينا، ولا يرضى عنا إلا إذا أرهقنا الشعور بالإثم ؛ صورة الإله الذي يرسل لنا المصائب والويلات؛ صورة الإله الذي يلغي حرّيتنا ويتلاعب بنا كأننا دُمى في يديه؛ صورة الإله الذي يؤيّد ويكرّس كلّ نظام قائم، مهما كان جائرًا، ويطالب المظلومين بأن يرضخوا للأمر الواقع (الذي شاءَته إرادته)، واعدًا إياهم، مقابل ذلك، بتعويض ينالونه في الآخرة؛ صورة الإله السحريّ الذي يُنتظَر منه أن يحلّ مشاكل الإنسان ويدبّر أموره (ويقضي حاجاته)، دون أن يكلّف ذلك الإنسان نفسه مشقّة استخدام عقله وإرادته وخوض مجازفة حرّيته.
تلك الصور البشعة كلها، (التي تمسخ الله في واقع الأمر)، يعكسها لنا الإلحاد المعاصر (في مرآة رفضه)، فيضطرّنا أن نعي وجودها فينا. بالتالي فهو يدعونا إلى الاهتداء، إلى التوبة بمعناها الإنجيلي، معنى تغيير الذهنية (metanoia) (وتجديد الرؤية وانقلاب المفاهيم)، وذلك بنبذ “أصنام الله” هذه (أي تلك التصوّرات الصنميّة عن الله) التي هي رواسب الوثنية فينا، وبالعودة إلى إله يسوع المسيح، (الإله الذي رأيناه في يسوع: “من رآني فقد رأى الآب”، يوحنا 14: 9)، ذلك الإله الذي هو أبعد ما يكون عن إرادة تحطيم الإنسان والانتقاص من قدره، لأنه، كما يقول الكتاب، يحبّ أن “يجلس في مجمع الآلهة”، أي أن يجالس الناس المتألهين، الذين يُسرّ أن يشركهم في حياته ومجده؛ ذلك الإله الذي قال بلسان يسوع إنه لا يدعونا عبيدًا بل أحباء (يوحنا 15: 15)، وإن همّه أن تكون فينا الحياة وأن تكون فينا بوفرة (يوحنا 10: 10).
(فإذا قبلنا بأن نقوم، فعلاً وبالعمق، بهذه المراجعة الجذرية العسيرة لتصوراتنا عن الله ولآثار تلك التصوّرات في مواقفنا اليومية وسلوكنا وتعاملنا مع الناس)، إذ ذاك يمكننا أن نقول للإخوة الملحدين: من هو الإله الذي ترفضونه؟ فإذا عدّدوا لنا صفاته، أجبناهم: هذا، (خلافًا لما تظنّون)، ليس بإلهنا، إنه صنم نكفر به كما أنتم تكفرون وكما كفر آباؤنا في الإيمان، في فجر المسيحية، بأصنام الوثنيين،
فدعاهم هؤلاء كفرة ونعتوهم بالإلحاد لأنهم كانوا يعبدون الإله الحقّ دون سواه.
2- الإلحاد العمليّ ومواجهته
أ- أسباب الإلحاد العمليّ ومظاهره:
أما إذا انتقلنا إلى الإلحاد العمليّ، أي تسيير أمور الحياة، وكأن الله غير موجود، فإننا نرى له عدة أسباب ومظاهر في عالمنا الحديث. منها مثلاً الشعور بأن التقنيّة (بتطورها الهائل والمتسارع) تكفي لتحلّ مشاكل الإنسان وتغنيه عن التطلّع إلى خالقه. ومنها طغيان السعي إلى وسائل الترفيه والترف، الذي تدعو إليه (بالحاح منقطع النظير) أساليب الإعلان التجاري في مجتمع الاستهلاك الذي دخل فيه عالم اليوم. ومنها الانهماك بجمع الثروة في مجتمعات يسودها رأس المال (وهاجس الكسب اللامحدود) ويقيَّم فيها الإنسان وفقًا لما يملكه. كل ذلك يزيح الله فعليًا عن اهتمامات الناس وينبذه عن حياتهم ويعزله، في أحسن الاحتمالات، في الهياكل وفي الشعائر الدينية (التي تتحوّل، لدى الكثيرين، إلى مناسبات اجتماعية أكثر من أي شيء آخر، في حين أن ألهنا، إله يسوع المسيح، هو “إله أحياء” (لوقا 20: 38) (همّه أن يتعامل مع أحياء في صلب حياتهم وهواجسهم). فما موقف المسيحي حيال هذا التحدّي (الذي يفرغ الدين من فحواه ويحوّله إلى قشور جوفاء)؟
ب- مواجهة الإلحاد العملي
1.تشخيص فداحة الداء:
أعتقد أن عليه أولاً أن يلاحظ الخيبة والسأم (اللذين يتراءَيان وراء الاهتياج الظاهري والصخب وزيف حيوية معلّبة سطحية)، واللذين يفرزهما لا محالة مجتمع اتخذ التقنية والمال والاستهلاك آلهة له. فالإنسان، في مجتمع كهذا، يتحوّل بدوره إلى آلة تنتج وتستهلك ليس إلاّ. إنه فريسة الفراغ والعزلة، بعيد عن الآخرين رغم وجوده في وسط الجمهور، غريب عن أمانيه العميقة وعن متطلباته الأساسية. هذا ما يتجلّى من خلال كتابات العديد من الأدباء والمفكّرين وعلماء النفس وعلماء الاجتماع، (الذين وصفوا تلك الحالة من البؤس الروحيّ التي يتخبّط فيها إنسان المجتمعات الصناعية الحديثة). وهذا ما يبرز بشكل صارخ عبر ظاهرة تمرّد شباب تلك المجتمعات (في الأعوام الأخيرة من الستينات). فسواءً أتخذ هذا التمرد شكل الرفض السلبيّ، بالتنكّر للأعراف السائدة وبالإنسحاب، شأن الهيبّيّين Hippies مثلاً، أو شكل الرفض العنيف (كما في إنتفاضة أيار 1968 في فرنسا)، فإنه، في آخر المطاف، تمرّد على مجتمع ضاع الإنسان فيه لأنه غيَّب الله. (من هنا مثلاً عودة جماعات من الهيبّيّين، في الولايات المتحدة، إليه ومناداتهم به مخلّصًا ومانحًا للحياة معنى، في إطار ما سُمّي بـ “ثورة يسوع” Jesus revolution).
2. سبل العلاج
هذا ما يجب على المسيحيين أن يعوه وأن يقولوه، على أن لا يكتفوا بتشخيص المرض بل أن يجتهدوا في تقديم العلاج. والعلاج إنما هو أن يكشفوا للناس، لا بأقوالهم فحسب، بل بوجودهم خاصة، إمكانية عالم يجد فيه المرء ما عبثًا يسعى إليه في مجتمع التقنية والمال والاستهلاك، عالم يجد الإنسان فيه الفرح لا مجرد اللذة، والشركة لا مجرّد التجمّع، والكينونة لا مجرد الإمتلاك. هذا يفترض أنهم، من جهتهم، قد وجدوا هم، في الربّ، المحبة والفرح ومعنى الوجود، ليشعّ ذلك منهم ويكونوا، في هذا الدهر، علامةً حيّة تشير إلى ربّهم وتدعو إليه. وإلا، فكما قال السيد: “إن فَسُدَ الملح فبماذا يُملَّح؟” (متى 5: 13)، “وإن كان النور الذي فيكم ظلامًا، فالظلام كم يكون!” (متى 6: 23)، تلك العبارات التي رجّع صداها الكاتب المسيحي الكبير فرنسوا مورياك إذ قال، مخاطبًا الشباب المسيحيين: “في اليوم الذي تخمد فيه شعلة الحبّ التي تلهبكم فكثيرون حولكم سيهلكون بردًا”.
علاج الإلحاد العملي هو ايضًا أن يُظهر المسيحييون للناس ما أصبح اليوم غائبًا عن أنظار الكثيرين، ألا وهو أن الإيمان ليس فقط زادًا للآخرة، إنما هو شرط تحقيق ملء الوجود الإنسانيّ منذ الحياة الحاضرة، وأن له بالتالي ارتباطًا بكل شؤون الإنسان وقضاياه وهواجسه. هذا ما يقودنا إلى بحث مجالَين آخرَين يتحدّى فيهما عالم اليوم إيمان المسيحي، ألا وهما: مجال العدالة ومجال الجنس.
ثانيًا: مجال العدالة
1- التوق إلى التحرّر والعدالة في عالم اليوم
عالم اليوم عالم متعطّش إلى العدالة، عالم يطالب بالتحرّر من كلّ ما يسحق كرامة الإنسان من أوضاع سياسيّة واقتصادية واجتماعية، لكي تقوم عوضها نظم جديدة تفسح أمام كل إنسان فرصة تحقيق ملء إنسانيّته دون عائق أو قيد.
2- هذا التوق إنجيليّ في منطلقه
هذا التوق مسيحي في جوهره. من وجهة نظر تاريخية بحتة، يمكن القول (بأنه صدى لجدّة الانجيل) وبأن المسيح قد أطلقه في التاريخ البشريّ. فقد أعلنت البشارة المسيحية (التي كانت “بُشرى” بكل ما في الكلمة من معنى) أن التاريخ ليس تكرارًا (كما يعلن كاتب سفر الجامعة بقوله “لا جديد تحت الشمس”)، ليس إعادة دورية رتيبة لما سبق، كما كان يتصوره الإغريق، بل أنه حركة خلق وخلاص، منطلقة إلى الأمام نحو تحقيق الملكوت المنتظر، حركة تساهم فيها النعمة الإلهية مع حرية الإنسان. هكذا وعت الإنسانية أن بوسعها أن تتحرّر من أوزار الماضي وأن تنطلق بحرية نحو الأكمل والأفضل، لا تكبّلها حتمية القَدَر ولا تشلّها نواميس الكون والمجتمع. بهذا المعنى شهد المفكّر الشيوعيّ الشهير روجيه غارودي بأن المسيح قد “حرّر التاريخ من حتميته” il a défatalisé l’histoire.
3- لكن المسيحية التاريخية تنكّرت لهذا التوق
ولكن المفارقة الرهيبة كامنة في أن هذا التوق إلى تحرير الإنسان من كلّ ما يستعبده ويذلّه، هذا التوق إلذي رأيناه مسيحيًا في جوهره ونشأته، لم يجد في المسيحية التاريخية المناخ الذي يسمح له بأن ينمو ويترعرع وينتشر ويعمّ الكون، ويتجسد على الأرض في منجزات راهنة تغيّر وجه المجتمعات. فقد كانت المؤسسة الكنسية، للأسف، في كثير من الأحوال، تتحالف مع عتاقة وجور النظم القائمة، إن لم يكن إلا بسكوتها عن المظالم الملازمة لتلك النظم. صحيح أنه، في كل عصر، ارتفعت أصوات قديسين وأبرار كباسيليوس والذهبي الفم (وفيليبس مطران موسكو الذي وقف في وجه طغيان القيصر الروسي إيفان الهائل فسُجِن ثم قُتل بأمر منه، والراهب برثولومي دي لاس كازاس Bartholomé de las Casas الذي تصدّى بشجاعة فائقة، باسم الإنجيل، لاستعباد الهنود الأميركيين وإبادتهم من قِبَل المستعمرين الأسبان)، الذين كانوا، على مثال أنبياء العهد القديم، يفضحون تلك المظالم ويندّدون بها، إلا أن أصواتهم كانت غالبًا ترتفع منفردة، وكأنها تصرخ في الصحراء. هذا ما جعل الدعوة إلى العدالة، التي كان من المفروض أن تحتضنها الكنيسة، تنمو وتنتشر خارج الكنيسة لا بل ضدّها، فأصبحت تلك الدعوة، الإنجيلية في الأساس، قوة مناهضة للإنجيل (كما تحلّت مثلاً في الثورة الفرنسية ثم في الثورة البولشفيّة في روسيا).
4- من هنا ضرورة مراجعة جذرية للمواقف
تلك المفارقة المريعة هي من أكبر تحديات العصر للمسيحيين. إنها تدعوهم لإعادة النظر في الكثير من مواقفهم ومفاهيمهم التي قد تكون إنحرفت، من حيث يدرون أو لا يدرون، عن الروح الإنجيلية الأصيلة.
أ- تصحيح إنحراف الموقف الاخروي
هناك مثلاً تُهمة تُلصَق بالمسيحيين، وفيها، على ما أعتقد، كثير من الحقّ، وهي بأن موقفهم الأخروي يقلّل من اهتمامهم بتحويل العالم الحاضر. هذا صحيح إلى حدّ بعيد، ولكنه ناتج، بنظري، عن إنحراف في الموقف الأخروي. صحيح أن المسيحي يعيش في انتظار الملكوت الذي سوف يأتي عند نهاية الأزمنة، ولكنه يعلم أن هذا الملكوت حاضر منذ الآن في صميم الكون والتاريخ (“ستأتي ساعة، وهي الآن حاضرة، حيث يسمع الاموات صوت ابن الله والذين يسمعون يحيون”، يوحنا 5: 25). فالملكوت حاضر حيثما يوجد الملك، والملك، الرب يسوع المسيح، “معنا كل الأيام وإلى إنقضاء الدهر” (متى 28: 20).
لذا “فإن ملكوت الله هو في ما بينكم” (لوقا 17: 21) يقول الربّ. لذا أيضًا يعلن الرسول بولس: “قد مضى القديم وها إن كلّ شيء قد صار جديدًا” (2 كورنثوس 5: 17). فإذا كان الملكوت حاضرًا منذ الآن في قلب التاريخ، “مثل خميرة أخذتها امرأة، وجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرت كلّها” (متى 13: 33)، فينبغي إذًا أن يحوّل التاريخ منذ الآن كما تحوّل الخميرة العجين. إذا كانت جدّة الحياة قد زُرعت في وسط الكون، فينبغي أن تجدّد منذ الآن كافة مظاهر الكون، كافة مجالات الوجود.
إن هذا التحويل، هذا التجديد، أو بعبارة أخرى، هذا التجلّي (الذي كان نموذجه وباكورته تجلي يسوع على جبل ثابور) لا يسعه أن يبقى دفينًا في أعماق النفس أو محصورًا في السلوك الفردي، إنما عليه أن يعمّ المجتمع ويشمل كلّ ميادينه. فإنهم “لا يضيئون سراجًا ويضعونه تحت المكيال بل على منارة ليضيء لجميع الذين في البيت” (متى 5: 15). الملكوت حاضر معنا وسط معاناة الكون ومآسيه وشروره، ولكنه يحتاج إلى التزامنا ليُتَرجَم تحوّلاً في نمط الحياة وأسلوب العلاقات الإنسانية. فالله يعمل بنا ومن خلالنا، إنه جعل نفسه بحاجة إلينا لإتمام عمله الخلاصي، “فنحن عاملون مع الله” (1 كورنثوس 3: 9)، كما يقول الرسول. إن كل جهاد نخوضه في سبيل العدل والحق، في سبيل تحرير الإنسان من الظلم والخوف والجهل والفقر والألم والموت، كل ذلك هو شهادة للملكوت الحاضر فينا وبيننا و”استعجال” (2 بطرس 3: 12) لمجيئه النهائي، على حد تعبير الرسول بطرس.
ب- تصحيح المفهوم الفرديّ للمحبة…
تهمة أخرى تُلصق بالمسيحيين، ألا وهي أنهم يفهمون المحبة اهتمامًا فرديًا بالبائسين والمتألمين، دون أكتراث بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تفرز بطبيعتها البؤس والحرمان والألم، ما يحدّ كثيرًا من فاعليتهم إذ أنهم يكتفون بمعالجة أعراض الداء دون أن يتعرضوا لأسبابها.
هذه التهمة تتحدّانا هي أيضًا وتدعونا إلى إعادة النظر في مفهومنا للمحبة، فنعي إذ ذاك أن محبتنا لا تكتمل إذا انحصرت في الأعمال والمؤسسات الخيرية (على أنواعها وأهميتها)، ولم تتعدّاها إلى نضال (دؤوب) في سبيل تغيير البنى الاجتماعية الجائرة التي تسحق الإنسان (فقد قال أوغسطينوس إنه حسن أن يساعَد الفقير ولكن الأحسن أن يزول الفقر)، وبعبارة أخرى أن المحبة لا بدّ أن يكون لها بعد سياسي، إذا فهمنا السياسة بمعناها الأساسي وهو تنظيم العلاقات العامة بين الناس. على ضوء ذلك يعمق فهمنا لكلمة السيّد: “ما فعلتموه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فبي فعلتموه (…) ما لم تفعلوه بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي لم تفعلوه” (متى 25: 40 و45). ما نفعله أو لا نفعله (نهمله، نتغاضى عنه، نحجم عنه)، بالرب المتألّم في معذَّبي الأرض ليس محصورًا في ما نقوم به أو نتقاعس عنه من أعمال خيريّة فردية، على أهمية هذه الأخيرة (لتلبية الحاجات الراهنة التي لا تحتمل التأجيل)، إنما هو يتعداها إلى التزامنا أو عدم التزامنا في النضال من أجل مجتمع أكثر إنسانية.
… على غرار ما أدركه العديد من مسيحييّ اليوم
هذا ما فهمه، لحسن الحظ، ملايين المسيحيين في أيامنا، من أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، فالتزموا بوحي، لا من قناعتهم الإنسانية وحسب، بل من إيمانهم أيضًا، في نضال، مرير أحيانًا، في كل أنحاء المعمور، ضد كلّ الأوضاع التي تشوّه كرامة الإنسان، من تفريق عنصريّ واستغلال اقتصادي وظلم اجتماعي وخنق للحريّة واستعمار للشعوب واغتصاب لحقوقها. إنهم، بهذا النضال، الذي يقودهم، في كثير من الأحوال، إلى السجن والتعذيب، وأحيانًا إلى الموت، يؤدّون شهادة صارخة للمحبة المسيحية ولرسالة الإنجيل المحرّرة. إنهم يترجمون المحبة نضالاً في سبيل مجتمع أكثر إنسانية، ولكنهم، بآن، يشهدون بأن تغيير الأنظمة لا يكفي – وإن كان لا بدّ منه – لإحلال العدالة والآخاء بين البشر، وأن الاهتداء الشخصيّ والتحوّل الروحيّ ضروريّان إذا شاءَت الإنسانية أن تتبدّل علاقات البشر فعلاً لا شكلاً.
ثالثًا: مجال الجنس
أخيرًا، يشكّل مجال الجنس أحد أهمّ التحديات التي يواجه بها عالمنا الحاضر المسيحيين.
1- مكانة الجنس لدى إنسان اليوم
(يواجه إنسان اليوم ميدان الجنس بأقل رياء وأكثر صراحة مما قبل، وانتزع عنه كثيرًا من الأقنعة المصطنعة التي كان يفرزها الضغط الاجتماعي والخوف،) واكتشف أهمية الجنس في إسعاده وإشقائه، في اتزانه أو اختلاله، في انشراحه أو اضطرابه، في انفتاحه أو انكماشه. وقد لعبت العلوم الإنسانية، وخاصة التحليل النفسي، دورًا كبيرًا في كشف أهمية الجنس هذه. ومن جهة أخرى يجد إنسان عصرنا في الخبرة الجنسية واسطة لتأكيد كيانه الشخصي في مجتمع تكنولوجيّ كثيرًا ما يغيب فيه الشخص في تنظيم اجتماعي آليّ ويضيع في تجمعات ضخمة مُغْفَلَة. هذان العاملان وغيرهما جعلا الإنسان المعاصر يعيد للجنس اعتباره ويسعى إلى تحريره من هذا التجاهل المرائي والتنكّر الأعمى اللذين أحاطا به حقبة طويلة من الزمن. الإنسان المعاصر يريد أن يتعهّد ما فيه من طاقة جنسية بوعي وحرية، ولا يقبل أن تسيّره، خاصة في هذا المجال الحيويّ من وجوده، مجرد تقاليد موروثة خانقة. تلك هي المعاني الإيجابية الكامنة وراء السعي الحديث إلى ما يسمّى “الحرية الجنسية”.
2- الوجه القاتم لـ”الحرية الجنسيّة”
ولكن هذه “الحرية الجنسيّة” المعلَنَة مكتنفة بالالتباس. ذلك أنها كثيرًا ما تؤول إلى إنفلات لا ينقذ المرء من عبودية التقاليد إلا ليجعله مستعبَدًا لنـزوات الغريزة. ومن جهة أخرى نرى أن إنسان المجتمع التكنولوجي كثيرًا ما يسقط على الجنس نفسه النظرة الآليّة التي ألفها، فيعتبره مجرّد تقنية لذّة، ويحوّله إلى سلعة تُستَهلَك كغيرها من السِلَع، سلعة توظّف الرساميل الضخمة للاتّجار بها والترويج لها في “حضارة الاستهلاك” التي بدأت تنتشر في عالمنا.
هكذا يُجرَّد الجنس من معناه الإنسانيّ العميق. يُشَيَّء، يحوّل إلى عمليّة آلية، سطحيّة، سهلة وتافهة بآن، لأن لا طائل لها سوى لذّة عابرة، (يفرزها مجرد انتفاض أبدان فقدت عمقها الوجداني)، وتخلّف وراءَها طعم السأم والفراغ، لذّة تخدّر المرء برهة ولكنها لا تنشئ فيه ارتياحًا عميقًا ولا تعطي حياته نكهةً ومعنى، بل تتركه فريسة القلق والعزلة. هذا ما تثبته وثائق عديدة، من علمية وأدبية. أكتفي منها، على سبيل المثال، بذكر ما رواه لي مؤخرًا أحد أصدقائي، وهو طبيب لبناني الأصل، اختصاصيّ في جراحة الجهاز العصبيّ ومقيم في الولايات المتحدة الأميركية منذ أعوام. ذكر لي هذا الصديق أن كتابَين ظهرا مؤخرًا هناك، عنوانهما معبّر بحدّ ذاته وهو “الرجل الشَبِق” و”المرأة الشَبِقَة”، كلاهما يعالج القضية الجنسية من زاوية فيزيولوجية، آليّة، بحتة. صادف الكتابان رواجًا واسعًا جدًا، إذ أن الناس إندفعوا لشرائهما معتقدين أنهم، بمجرد استعمالهم التقنية التي يصفانها، سوف ينالون حكمًا السعادة الجنسيّة المرجوّة، ولكن استفتاء أجري بعد ذلك بين قرّاء الكتابين أظهر الخيبة التي أصابتهم لعدم بلوغهم الأمنية التي وُعدوا بها. وقد سمع صديقي بنفسه، خلال أحاديث جرت في العيادة التي يعمل فيها، شهادات شفهية عن هذه الخيبة.
3- ما الموقف المطلوب من المسيحيين؟
أمام هذه الظواهر العصرية، ما عسى أن يكون موقف المسيحيين؟
أ- إعادة النظر في موقفهم من الجنس
عليهم، بنظري، وقبل أن يتسرّعوا بإبداء الحكم على تصرفات معاصريهم، أن يراجعوا موقفهم من الجنس وأن يتساءَلوا إذا لم تكن هناك انحرافات قد شوّهت هذا الموقف وكانت، بالتالي، مسؤولة إلى حدّ بعيد عن الانحرافات العكسية التي تقابلها في عالمنا الحديث. لقد اتُهمت المسيحية، ولا تزال، بأنها عدوة الجسد والجنس، وبالتالي عدوّة الحياة. هذا ما قاله نيتشه وفرويد وبرتراند راسل وجاك مونو وهربرت مركوز. هذا ما يقوله الكثيرون من معاصرينا. تُرى كيف أعطينا للناس صورة كهذه عن إيماننا؟
ب- النظرة المسيحية الأصيلة إلى الجنس والجسد
المسيحية، في ينابيعها الأصيلة، لا احتقار فيها للجسد ولا خوف فيها من الجنس. “الجسد” الذي يُعتبر فيها عدوًا لـ”الروح” (في تعليم الرسول بولس، على الأخصّ) ليس البدن، ليس الجسد البيولوجي. أنه الكيان الإنساني برمّته بقدر ما ينغلق هذا الكيان على ذاته، يكتفي بذاته، يتمحور حول الاستيلاء والتملك، وبالتالي يرفض المحبة، يرفض الآخر، يرفض الله. و”الروح”، في هذا المنظار، ليس “النفس” بالمعنى الاغريقي للكلمة، أي ذلك العنصر اللامادّي في الإنسان، المتمايز عن البدن، بل إنه الكيان الإنساني كلّه من حيث ينفتح بالمحبة إلى الآخرين وإلى الله ويدخل بالتالي في الشركة المحيية ويتقبّل النعمة المؤَلِّهة، هذا الكيان كلّه، بوحدته النفسدية (نفسية – جسدية)، الذي يسميه الكتاب أيضًا بكلّيته “جسدًا” (مثلاً: “سيعاين كل جَسَدٍ (أي كل بشريّ) خلاص الله”: (إشعيا 40: 5 ولوقا 3: 6)، كما يسميّه كلّه في مواضع أخرى “نفسًا” (مثلاً: “فصار الإنسان نفسًا حيّة” (تكوين 2: 7 و 1كورنثوس 15: 45)، هذا الكائن كلّه، ببعديه النفسي والبدني، هذا الكائن الموحَّد، مُعدٌّ ليكون هيكلاً لله، مدعوّ للقيامة والتجلّي. تلك هي المسيحية في أصالتها.
ج- الانحراف عن المسيحية الأصيلة
ولكنها لم تظهر دائمًا في الواقع التاريخي بهذا الوجه الناصع. فقد تسرّبت إليها عدوى التيارات الافلاطونية والمانويّة والغنوسطيّة، تغذّيها تلك العقَد النفسيّة المعَشِّشَة في العقل الباطن والتي لا يخلو منها إنسان ولو كان عالمًا وقديسًا، فطعَّمتها بما هو غريب عن جوهرها، ألا وهو احتقار الجسد وشجب الغرائز. لقد قاومت الكنيسة تلك الانحرافات على الصعيد المبدئي وعقدت المجامع لإدانتها، ولكن ذلك لم يمنعها، للأسف، من التفشّي، بصورة قد تكون لا شعوريّة إلى حد بعيد، في أذهان ونفسيات المؤمنين. فتكوّن عند الكثير منهم (وحتى من ائمّتهم) تصوّر للجنس على أنه دَنِسٌ بحدّ ذاته بحيث أن الزواج إن هو إلا تغاضٍ عن هذا الدنس وإضفاء صورة الشرعيّة عليه، تساهلاً مع ضعف الطبيعة البشرية الساقطة وبغية إطفاء الشهوة وإنجاب الأولاد لتخليد النسل.
د- ضرورة التحرّر من التصوّرات الدخيلة…
ينبغي إذًا، بادئ ذي بدء، أمام تحدي تيار “الحرية الجنسية” في عصرنا، (ومن أجل مجابهة التشوّه الإنساني الفادح الذي اوجده والذي انقلب على “الحرية” التي ينادي بها شرّ إنقلاب)، أن نتحرّر، من جهتنا، من تلك التصوّرات الزائفة، الغريبة عن جوهر إيماننا، (والتي، بتشويهها هذا الأخير، ساهمت في إبعاد الكثيرين عنه وحرمانهم من ينابيعه الحيّة).
هذا التحرّر قد تمّ، ولله الحمد، بالنسبة للعديد من إخواننا المسيحيين في الغرب (الذين كانوا أول من تعرض لصدمة ردّة الفعل الإباحية، التي بدأت في مجتمعهم، فصارت لهم بمثابة الموقظ). وقد يكون تحقيقه أصعب في مجتمعاتنا الشرقية التي لا تزال إلى حد بعيد على تقليديّتها، ولكنه أمر لا بدّ منه، إن لم يكن إلا لمجابهة التيارات التي تأتينا من الغرب (عبر وسائل الإعلام والأزياء وغير ذلك) وتنتشر خاصة بين شبيبتنا. فإذا تحررنا من عبودية التزمّت الخانق المقيت واستعدنا “حريّة أبناء الله”، تمكننا من الدخول في حوار بنّاء مع معاصرينا، حوار يتاح لنا خلاله تقييم الجنس بعيدًا عن الجوّ الانفعالي (متحمسًا كان أو مستنكرًا) الذي كثيرًا ما يعكّر الصفاء الضروري لمعالجة هذا الموضوع الحسّاس والدقيق بآن.
هـ- … ما يكسب خطابنا عن الجنس مصداقية…
إذ ذاك يمكننا أن نقول لمعاصرينا، لا بالكلام فقط بل بمواقفنا المعيوشة وسلوكنا الراهن، إنهم محقّون في اعتبارهم الجنس طاقة بالغة الأهمية في حياة الإنسان، لأنه بالضبط يجسّد ويترجم ويغذي تلك النزعة الأساسية في كيانه، ألا وهي النزعة إلى لقاء صميم بالآخر، وبعبارة أخرى، لأن فيه تتبلور (وتحتدم) ومنه تغتذي طاقة الحبّ التي من الله تأتي، وإليه، في آخر المطاف، تتّجه. إذ ذاك يمكننا أن نقول لهم إنهم، في سعيهم الجنسي، إنما يسعون بالحقيقة، (في قرارة نفوسهم، اللهمّ إذا كانوا لصيقي هذه القرارة)، إلى أكثر من لذة عابرة، أعني إلى اكتمال إنسانيّ عبر لقاء الآخر والشركة الحميمة معه، اكتمال يعطي للمرء أن يذوق فيه شيئًا من طعم الملكوت الآتي، وإن هذا الاكتمال يقتضي خروجًا من الذات، موتًا عن الذات. لأن بهذا، وبهذا فقط، يتخطى المرء قوقعة لذته المنغلقة، المنعزلة، والجوفاء بالتالي، ليلاقي الآخر (في قلب وجوده)، فيغتني وجوده هو بهذا اللقاء المحيي. وبعبارة أخرى، إن الجنس، ككلّ واقع إنسانيّ، يحمل في ذاته طابع السرّ الفصحيّ، سرّ القيامة مرورًا بقبول الموت.
موقف من هذا النوع، يمكن لمعاصرينا أن يفهموه، لأنه يخاطب خبرتهم ويتجاوب مع ما يصبون إليه في أعماقهم. فالشباب المعاصر، حتى إذا رفض التقاليد، لا يزال يتحسّس الحب ويوليه قيمة كبيرة، كما تثبت التحقيقات الميدانية. هذا ما يجعله، بنظري، قابلاً لتفهّم الموقف المسيحي من الجنس، الذي إن هو – إذا جُرّد من المفاهيم الناموسية التي أحاطت به زورًا – إلاّ الموقف الإنساني الأصيل.
و- … شرط أن نردّ إلى الحب محوريّته…
ولكن هذا يفترض أن نعيد إلى الحبّ مكانته في أعيننا، وأن نحدّد مواقفنا من الجنس بالاضافة إليه وإلى مطاليبه التي هي أكثر جذرية وعمقًا من مطاليب أية فريضة ناموسيّة.
ز – … وأن نعيد الزواج إلى أصوله …
هذا يفترض أيضًا أن نحرّر الزواج من الطابع الشكليّ الذي كثيرًا ما يتخذه، طابع العقد الاجتماعي الصرف، لنعتبره من جديد “سرّ الحبّ” كما سمّاه الذهبيّ الفم، أي المكان الذي يعاش الحب فيه (وتُختبر أصالته يومًا بعد يوم، فينمو رغم العقبات وبفضلها، ويعمق عبر المشاركة في الأفراح ومواجهة المتاعب والمشاكل معًا)، ويخصب (لا بإنجاب أولاد وحسب، يكونون ثمرته، بل بولادة متواصلة لكلّ من الشريكين أحدهما من الآخر بالحبّ الذي يتبادلانه). هذا يقتضي أن نساعد ( – لا بالرعاية المألوفة وحسب بل بكل الوسائل التي ابتكرتها العلوم الإنسانية الحديثة، كالارشاد الزوجي مثلاً – ) الذين التزموا درب الزواج لا على الابقاء على العقد وحسب، بل على الحفاظ (على ما هو مضمون العقد ولبّه) وهو عهد الحب بينهما، وعلى تغذيته وجبر عثراته.
ح- … وأن نرفع الالتباس عن فحوى العفة المكرَّسة
العودة إلى رؤية مسيحية أكثر أصالة للجنس تفترض، أخيرًا لا آخرًا، أن نزيل عن العفة المكرّسة الملابسات التي تحيط بها في ذهن الكثيرين، فنظهرها، على حقيقتها، لا احتقارًا للجنس أو تهرّبًا منه، بل تجاوزًا لما فيه من محدوديّة بغية تحقيق ما يصبو إليه هو نفسه في آخر المطاف، ألا وهو تحقيق ملء الحبّ، الحبّ الذي لا حدّ له ولا حصر، لا تملّك فيه ولا استيلاء.
الخلاصة
والآن، وبعض تجوّلنا السريع في بعض الميادين التي يتحدى فيها عصرنا المسيحيين، لابدّ لنا أن نصغي إلى المعنى الكامن في هذه التحديات. إذ ذاك لا بدّ أن نسمع من خلالها صوت الله الذي يهزّ بها استكانتنا وخمولنا ويفضح انحرافاتنا ويضعضع صنميّتنا ويدعونا إلى توبة الاهتداء إليه حقيقة. ولا بدّ أن نسمع أيضًا، عبرها، صوت عالم يئنّ ويتمخّض، ساعيًا، من خلال عثراته وضلالاته، إلى الحق والحرية والكرامة والعدالة والحياة والسعادة والحبّ، ومنتظرًا منا، من حيث لا يدري، على شاكلة الاثينائيين الذين خاطبهم بولس، كشف ذلك “الإله المجهول” (أعمال الرسل 17: 23) الذي يعطي وحده للوجود البشريّ غاية ومعنى.
فإذا ما قبلنا التحدّي بتواضع وإخلاص (وقلب منفتح)، وارتضينا أن ندخل، تجاوبًا معه، في عملية التجدد، المؤلمة والمحيية بآن، عندئذ نتيح للربّ أن يطلّ بنا على العالم وأن يدعوه بنا إلى تحطيم الأصنام التي تستعبده ليجد الحرية والفرح. عندئذ سيتحدّى الرب بنا العصر، ولكن تحدّيه لن يكون تحدّي الشماتة والتسلّط بل تحدّي المحبة التي لا تطالب المحبوب بتجاوز ذاته إلا بغية أن يجد حقيقة ذاته ويميت الموت فيه ويحيا. لأن “مجد إلهنا، كما قال ايريناوس، إنما هو أن يحيا الإنسان”.
ألقي هذا الحديث في قاعة المحاضرات
التابعة لكاتدرائية القديس مرقس للأقباط
في القاهرة، مساء 4/9/1972
وقد أعيد تسجيله مع تعديلات وضعت
بين قوسين، في 25/3/2006
ك. ب.