لقد كان لغزو القمر، كما لكل العمليات الفضائية التي سبقته ومهدت له، أصداء على الصعيد الإيماني. والكثيرون، ولا شك، سمعوا بهذه المناسبة رأيين يبدوان لأول وهلة متناقضين: أولهما رأي عدد من المؤمنين الذين رأوا في غزو الفضاء، والقمر بنوع خاص، عملاً كفريا لا بد له أن يستدعي من قبل الله تدابير "دفاعية" أو "انتقامية". نجد شاهداً لهذا الموقف في نبأ أوردته الصحف مؤخرًا، فقد لوحظ أن الطقس، منذ 19 تموز، تاريخ دخول أبولو 11 في المدار القمري، قد ساء في المنطقة الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة حتى أن مدينة نيويورك لم تشاهد الشمس سوى خمس ساعات في فترة عشرة أيام.
بناء عليه إعتقد الكثيرون من الأميركيين أن هناك علاقة سببية بين الرحلة القمرية من جهة وهذا التحول في الطقس من جهة ثانية. "فمنذ أسبوع، تنهال على مكتب الرصد الجوي وعلى محطات الراديو التي تذيع بيانات عن حالة الجو المنتظرة، مكالمات هاتفية قلقة. فقد صرّح مئات من الناس، مستشهدين بالتوراة والأناجيل، ذاكرين معركة هرمجدون ونهاية العالم، أن الرب، وقد أغضبته جسارة الناس، حرمهم من الشمس إلى الأبد" . وأما الثاني فهو رأي الذين رأَوْا في انتصار الإنسان هذا برهاناً جديداً وقطعيًا على عدم وجود الله، رأيًا نجد نموذجاً له في تحقيق أَجْرَته إحدى الصحف في الشارع البيروتي إثر رحلة أبولو 8. فإنه بالرغم من مظاهر التدين التي رافقت تلك الرحلة كقراءة رواد الفضاء لفصول من سفر التكوين وقيام قائد العربة الفضائية، بورمان، أثناء دورانه حول القمر، بتلاوة الصلاة التي كان مفروضًا أن يقرأها ليلة الميلاد في الكنيسة الأسقفية التي يشغل فيها رتبة قارئ، رغم ذلك كله نرى أحدهم يعبّر عن انطباعاته بقوله: "هذا يثبت أن لا سماء ولا جحيم. لم يصادف رواد الفضاء الله في الفضاء. هذا انتصار للعلم على الاعتقادات البشرية" .
قلت إن هذين الموقفين يبدوان لأول وهلة متناقضين، ولكنهما بالحقيقة متشابهان في الصميم. ذلك لأنهما ينطلقان من تصور واحد لله، تصور لا يسعنا إلا أن ندعوه صنمياً.
فمن جهة يُعتبر الله، في هذا المنظار، طاغية متجبراً، همّه أن يحدّ من انطلاقة الإنسان، وكأن ألوهته لا تقوم إلا على إذلال هذا المخلوق وحصره ضمن إمكانات ضيقة وأعمال وضيعة. ينتج عن هذا التصور، بصورة منطقية، أن تأكيد الإنسان لنفسه وبلوغه مرحلة الرشد لا يتمان إلا بإزاحة شبح هذا الإله الكابوس، وأن كل قفزة للإنسان إنما هي تحدٍّ، وبالنهاية نفي، لذلك الإله الذي يحول بين الإنسانية وتحقيق ملء طاقاتها.
ومن جهة أخرى يُعتبر الله، في المنظار نفسه، كائناً قائمًا في الفضاء أو بالأحرى يُعتبر ضمنًا كائناً لا يتميّز عن الفضاء الشاسع وعن أجرامه البعيدة الغامضة. ولذا يصبح، والحالة هذه، غزو الفضاء بمثابة غزو الله والتسلط عليه، أو بعبارة أخرى- وهنا يكتفي الملحدون باستخلاص كل نتائج هذا الموقف الإيماني الزائف- يصبح غزو الفضاء وأجرامه نفيًا لله، إذ أن الهاً يُستولى عليه لم يعد ممكناً اعتباره إلهاً.
تلك هي الملابسات التي تبدو لنا محيطة بالموقفين اللذين نحن بصددهما، إذا شئنا أن ندّقق فيهما وننفذ إلى أعماقهما. وهكذا يتضح لنا أنهما، على تناقضهما الظاهري، وجهان، إيجابي وسلبي، لموقف واحد من الألوهة، مفجع.
الكون مخلوق وليس الهاً .
ولكن ما قيمة هذا الموقف إذا قسناه بالصورة التي يعطينا إياها، عن الله، الوحي الإلهي؟
ما نراه بادئ ذي بدء هو أن الكتاب العزير، بإعلانه التوحيد، أي بتأكيده على تعالي الله، اقتلع من الجذور كل تصور يؤلّه الكون وما فيه. ما لم يستطعه الفكر اليوناني الذي بقي، رغم جبرؤته، أسير فكرة ألوهة العالم، حققه الكتاب الإلهي عندما أعلن الكون مخلوقًا، لا جسماً للألوهة أو امتدادًا لها، مميزاً إياه عن الله بشكل قطعي ونازعًا عنه صبغة الألوهة التي ألصقت به باطلاً. كثيراً ما يتحدثون اليوم عن التحرر من الخرافة démythologisation. ولكن التحرر الجذري، الأساسي، من الخرافة، حققه الإعلان الإلهي عندما أعلن الكون مخلوقًا، لا إلهاً. هذا كان منطلق العلم الحديث كما بيّن مثلاً فيلسوف العلوم دوهيم Duhem ، ذلك لأن الإنسان ما كان ليجرؤ على سبر أسرار الكون بصورة مركّزة شاملة لو لم يتحقق من الكتاب العزيز أن الأجرام السماوية نفسها، تلك التي ألّهها أرسطو، ليست كائنات إلهية شأنه أن يتعبد لها برهبة.
ولكن ما هو صحيح بالنسبة للعلم صحيح أيضاً بالنسبة للتقنية. فما كان للإنسان أن يجرؤ على غزو الكون لو لم يتضح له من الإعلان الإلهي أن الكون ليس متعاليًا عليه إنما هو مجرد مخلوق مثله. لذا فالاعتقاد بأن غزو الفضاء والقمر إنما هو خرق للألوهة، تقهقر إلى ذلك الفكر الوثني السابق ليس فقط لانطلاق العلم الحديث بل للإعلان الإلهي الذي جعل هذا الانطلاق ممكناً.
الإنسان يفوق الكون
ولكن الكتاب لم يعلن أن الكون مخلوق كالإنسان وحسب، إنما أوضح أن الإنسان يفوق الكون لأن الخالق ميّزه عن سائر الكائنات إذ جعل فيه صورته دون الخلائق كلها وهكذا جعله مشاركاً في السلطة الإلهية على الكون وكأنه، على حدّ تعبير الأب جورج خضر مستشهدًا بالقرآن، "خليفة الله" في العالمين. ففي سفر التكوين تُظهر رواية الخليقة هذا الإرتباط الصميمي بين صورة الله في الإنسان والسلطة الممنوحة له على الكائنات، بشكل أن الثانية تبدو نتيجة منطقية للأولى: "وقال الله لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا وليتسلط على سمك البحر وطير السماء والبهائم وجميع الأرض وكل الدبابات الدابة على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم، وباركهم الله وقال لهم أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها..." (تكوين 1: 26-28).
والأرض، في المفهوم الحضاري الذي نُقل الوحي الإلهي من خلاله في سفر التكوين، إنما هي مركز الكون، ولذلك فإخضاعها مرادف لإخضاع الكون كله. ذلك لأن الإنسان، مع كونه بتكوينه البيولوجي وليد تاريخ الكون وجزءاً وضيعًا منه من ناحية المكان والزمان، إلا أنه، بالصورة الإلهية التي فيه، يعلو على سائر الكائنات ويفوق كرامة الأجرام السماوية، قريبة كانت أو بعيدة، أصغر من أرضه أو أكبر منها ملايين الأضعاف، إنه أعظم من الفضاء مهما امتدت أبعاده لأنه صورة حية لسيد الفضاء ومبدع الأكوان. لذا هتف صاحب المزامير مسبحًا الله على عطيته الفائقة التي شرّف بها جنسنا: "من هو الإنسان حتى تذكره أو ابن الإنسان حتى تفتقده؟... بالمجد والكرامة كللته وعلى أعمال يديك أقمته، كلاً أخضعت تحت قدميه... أيها الرب ربنا ما أعظم اسمك في كل الأرض" (مزمور 8: 5-10). فهل يسعنا، بعد ذلك، أن نستغرب، نحن المؤمنين، أن لا تسع الأرض ذاك الذي صُنع على صورة من لا تسعه الأكوان. فإذا غاب عن بالنا جوهر إيماننا الأصيل، يجدر بنا أن نستمع إلى ما يقوله أحد الآباء العظام، غريغوريوس النيصصي، في القرن الرابع مقرّظاً الإنسان: "أيها الإنسان تأمل في كرامتك الملوكية. ان السماء لم تُصنع صورة لله مثلك ولا القمر ولا الشمس ولا شيء مما يرى في الخليقة... أنظر! لا شيء في الموجودات يستطيع أن يسع عظمتك!" (العظة الثانية على نشيد الأنشاد). حري بنا أيضاً أن نصغي إلى ما قاله مفكر ملحد، وهو الشيوعي روجيه غارودي، إذ اعترف أن المسيحية، بإعلانها دعوة الإنسان الإلهية التي تجددت في المسيح يسوع، حطمت المفاهيم القديمة التي كان الإنسان بموجبها مجرد جزء من الكون، خاضعًا لحتمية نواميسه، وبذلك أبزرت الإنسان من الكون الذي أغرقته فيه حكمة الإغريق وفتحت له ثغرة أصبح بعدها كل شيء ممكناً. إن المسيحية، في نظر المفكر الملحد، أطلقت حرية الإنسان .
معنى "برج بابل"
ولكن الحرية محفوفة بالمخاطر. فقد يسكر الإنسان بانتصاراته التقنية إلى حد أنه ينسى أن وجوده كله عطية، فيحلم بأن يؤلّه نفسه بنفسه. لقد بلغني أن إحدى المؤمنات اللواتي ينظرن إلى غزو الفضاء على أنه اجتراء على الله نفسه، شبهت الرحلة إلى القمر بحادثة برج بابل. ولكن معنى هذه الحادثة الكتابية قائم كله في النية الكامنة وراء بناء هذا البرج. تلك النية، التي كفّرها الكتاب، إنما هي إرادة اقتحام السماء، لا بمعنى الإرتقاء في الفضاء وحسب، بل بمعنى الإستيلاء على الألوهة. هذا الحلم البشري القديم بالإمتلاك السحري لقوى الألوهة، عبّرت عنه الديانات الوثنية قاطبة بشتى الطرق ومنها، كما بيّن عالم الأديان الكبير المعاصر ميرسيا الياد، الإرتقاء في الفضاء بواسطة شجرة أو عمود أو سلّم أو جبل . رغبة الإنسان في أن يتأله بقوة من ذاته هي المقصودة في حادثة ذلك البرج الذي ارتفع "رأسه إلى السماء" (تكوين 11: 4). ولكن ذلك الحلم السحري القديم لا يزال يراود الإنسان، وقد يتخذ التقدم التقني ذريعة ومبرراً له، فيستسلم الإنسان لنشوة ظفره على الطبيعة ويتصور أنه أصبح بإمكانه أن يقتحم الألوهة كما يغزو الفضاء.
حقيقة الألوهة
ولكن الألوهة لا تُقتحم، لأنها ليست مجرد شيء أضخم من سائر الأشياء أو قوة تفوق سائر القوى، إنما هي شخص. والشخص لا يُقتحم اقتحاماً، إنما يعطي نفسه حراً في علاقة حب. هذا صحيح بالنسبة للشخص الإنساني الذي، إن شئنا أن نستولي عليه استيلاء، لم نجد بين أيدينا سوى شيء، سوى جسد أو أداة، وليس ذلك الشخص الذي كنا نطمع بامتلاكه. الشخص الإنساني الآخر لا يُبلغ إلا في علاقة محبة تجعلنا معه في حوار ومكاشفة. وإذا صحّ هذا في علاقة البشر بعضهم ببعض، فإنه يصح بالأحرى في علاقتهم بذلك الشخص المتعالي، شخص الله. فالله لا يُقتحم، لا يُمتلك، إنما يعطي ذاته للقلب المنفتح بالحب لاقتباله.
هذا الحب، كم نفتقده في عالم يميل فيه الكثيرون إلى الاِعتقاد بأن التقدم التقني وما يتبعه من تنظيم للمجتمعات يكفيان لحل مشاكل الإنسان كلها. وإذا بنا نرى أقطاب العلم يحذّرون من التفاوت الرهيب القائم بين إمكانات الإنسان التقنية المتزايدة بسرعة فائقة وبين هزالته الخلقية، مرددين ما شخصه الفيلسوف الكبير برغسون، منذ عشرات السنين، عندما أعلن أن نمو الإنسان الروحي لا يتناسب مع امتداد جسمه التقني. في هذه الأيام التي قدّم فيها الخبراء تقريراً إلى الأمم المتحدة عن وجود مستودعات من الأسلحة الكيمائية والبكتيريولوجية تكفي لإبادة البشرية قاطبة في فترة دقائق، وطلعت علينا الصحف بعناوين رهيبة على شاكلة: "خمسمائة غراماً من البوتولين تكفي لإبادة سكان الأرض" ، نتذكر تصريحاً أدلى به منذ فترة وجيزة العالم البيولوجي الكبير، غير المؤمن، جان روستان، في مقابلة أجراها معه الأب جان تولا، قال روستان: "بأي شكل سيستخدم الإنسان جبرؤته؟ إن كتبي كلها تعكس هذه الإزداوجية: حماسًا ممزوجاً بالجزع أمام هذه القدرة التي ربما كان الإنسان غير جدير بها، والتي هو على الأقل غير جدير بها اليوم. كثيراً ما أردد: لقد جعل العلم منا آلهة قبل أن نستحق أن نكون بشراً" . لا يمكن مثلاً أن يغيب عن البال أن كل تلك المحاولات الرائعة لغزو الفضاء التي أدت إلى النزول على سطح القمر، أن تلك الإنتصارات العلمية الرائعة إنما تمت في معرض التسابق على التفوق السياسي والعسكري بين أكبر دولتين في العالم، وأن نقطة استفهام لا تزال معلقة حول إمكان استخدام هذه التحقيقات العلمية لأغراض فتاكة. هذا السؤال طرحه المؤرخ الكبير أرنولد توينبي على نفسه بمناسبة غزو القمر وقال إنه لا يزال دون جواب، وأضاف: "إن العلم والتقنية اللذين جعلا السفر إلى القمر ممكناً، لم يدهشاني كثيراً. فإن هذا عمل عظيم ولا شك، إلا أن قدرة الإنسان العقلية كانت دائمًا لامعة. ولكن هذا اللمعان تقابله عيوب الإنسان الخلقية والروحية. إن سلوك الإنسان الخلقي لا يؤهله إطلاقاً لاِستخدام القدرة المادية الرهيبة التي وضعها ذكاؤه بين يديه" .
غزو القمر شهادة لله
غزو القمر أمر جليل. إنه شهادة ليس لعظمة العقل الإنساني وحسب، بل لذاك الذي وضع في الإنسان ذلك العقل، قدرة على سبر أسرار الكون وعلى إخضاع الكائنات. إذا كانت "السموات تذيع مجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه"، فكم بالأحرى يشهد لعظمة الخالق ذاك الذي، وهو مرمي في نقطة من هذا الكون المترامي الأطراف، الهائل الحجم، ولم يظهر إلا في حقبة متأخرة من تاريخه السحيق، أُهِّل مع ذلك لإدراك أسراره ولغزو عوالمه. عظيم غزو القمر ولكن المحبة أعظم بكثير من القدرة كلها ومن العلم كله. هذا ما أوضحه باسكال مردداً صدى أقوال الرسول بولس: "لو كانت لي النبوة وكنت أعلم جميع الأسرار والعلم كله ولو كان لي الإيمان كله حتى أنقل الجبال ولم تكن فيّ المحبة فلست بشيء" (1 كورنثوس 13: 2). تلك المحبة، التي تفوق كل شيء، هل نستغرب أن تكون أصعب ما في الوجود؟ أسهل على الإنسان أن يخترق الفضاء الشاسع ويبلغ الكواكب البعيدة من أن يتجاوز نفسه للقاء الآخر. هذا ما يفسر مثلاً كونه غزا القمر فيما لا تزال أرضه فريسة الحروب والمجاعات، هذا ما يفسر كون دول غنية أنفقت الأموال الباهظة في سباق إلى الكواكب تحدوه رغبة في السيطرة على الأرض، فيما يموت أطفال العالم الثالث، وهو ثلثا البشرية، بنسبة مفجعة بسبب قلة التغذية. لذا نفهم تعليق فلاديمير أينياسييف، وهو أحد مدراء منظمة الأمم المتحدة للتغذية والزراعة، على الرحلة القمرية الأخيرة، إذ قال: "أخشى أن تعتري الإنسانية موجة من الكبرياء، لا نجد لها مبرراً إذا فكرنا أننا لا نزال عاجزين عن احتمال بعضنا بعضًا على الأرض وعن منع المجاعات" .
الأهمّ من الغزو
ما هو إذاً أهمّ من غزو القمر اهتداء الإنسان إلى المحبة. بهذا الإهتداء، وبه وحده، يمكن للبشر أن يلتحموا بعضهم ببعض وأن يتصلوا بالألوهة التي هي في صميمها محبة، كما كشفت ذاتها لنا: "الله محبة، من يثبت في المحبة، ثبت في الله والله فيه" (1 يوحنا 4: 16). إذا قبل الإنسان أن يضيع بالمحبة وجد نفسه في الله ونفذ إلى ما هو أبعد من النجوم وأعمق من أعماق الكون. هذا الإتصال الحبي بين الله والإنسان، هذا الوصال كما وصفه الكتاب، إنما يتم إذا أجاب الإنسان على حب الله لنا. الله هو دوماً البادئ بالحب: "نحن نحبه لأنه أحبنا أولاًُ" (1 يوحنا 4: 19). كل ما هو مطلوب منا، أن نفتح أبواب قلبنا أمام حبه، أن لا نصدّ الله الآتي إلينا. إننا لا نرقى اليه بقدرة من ذاتنا وحتى لا بذلك الشوق الذي سرعان ما ينقلب إلى أنانية وعبادة للذات، إنما هو ينحدر إلينا ليملأنا من حياته ويصعدنا إليه. لا يتسلق الإنسان السماء، إنما السماء تنحني إليه لتملأ قلبه من نورها: "لم يصعد أحد إلى السماء إلا الذي نزل من السماء ابن البشر الذي هو في السماء" (يوحنا 3: 13). فإذا اقتبل الإنسان السماء في ذاته، تحول قلبه إلى سماء، وعند ذاك تحققت فيه المعجزة التي تفوق بما لا يقاس غزو الفضاء، ألا وهي معجزة المحبة. إذ أن الحب الإلهي، هذا الحب الذي يجمع منذ الأزل الأقانيم الثلاثة في "حركة حب أبدية"، على حد تعبير مكسيموس المعترف، هذا الحب عينه يسكن في الإنسان ويحوّل قلبه "من قلب حجري إلى قلب لحمي"، كما قال الكتاب (حزقيال 11: 19) ، أي إنه يجعله إنساناً بالحقيقة ويشدّه إلى الله وإلى البشر في حركة واحدة وإخلاص واحد وشركة واحدة. هذا لا يبطل التقدم التقني ولا يقلل من أهمية انتصارات العلم. ولكنه يعطي للعلم والتقنية معناهما العميق، إذ يدخلهما في حركة الحب تلك، التي بها يتقبل الإنسان من الله عطاياه، بما فيها مواهبه العقلية الخارقة، ويعيدها إليه بعد استثمارها، في تقدمة شكرية هي امتداد لتقدمة الإبن المتجسد ذاته لأبيه واشتراك فيها، حسب قول الرسول بولس: "كل شيء هو لكم، بولس كان أَم أبلس، أَم صفا، أَم العالم، أَم الحياة، أَم الموت، أَم الحاضر، أَم المستقبل. كل شيء لكم، أما أنتم فللمسيح، والمسيح لله" (1 كورنثوس 3: 21-23).
"كل شيء لكم"، يقول الرسول، ولكن لا على سبيل الإستئثار بل على سبيل الشركة، في حركة الحب الإلهية التي دعي الإنسان إلى الإشتراك بها، والتي فيها يقول كل من الأقانيم للآخر: "كل ما هو لي فهو لك وكل ما هو لك فهو لي" (يوحنا 17: 10)، وقد قيل عن بشر اشتركوا بها أن كان لهم "قلب واحد ونفس واحدة ولم يكن أحد يقول عن شيء يملكه أنه خاص به بل كان لهم كل شيء مشتركاً" (أعمال الرسل 4: 32).
التأله في التواضع
من وراء غزو القمر، قد يحلم الإنسان ببلوغ الألوهة، ولكنه كثيراً ما يخطئ في تصوره هذه الأخيرة ، إذ يراها استئثاراً وسؤدداً، فيتخيل عند ذاك أنه لا محالة مقترب منها بقدر ما يزداد سلطانه. لذا يقع في الغطرسة على شاكلة تلك الألوهة الزائفة التي يصبو إليها. ولكن الإله الحقيقي الحي قد ظهرت لنا صورته جلياً في يسوع المسيح: "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9)، وإذا به عكس ما يتصوره الإنسان إذا استسلم لخيالات أهوائه. إذا بالألوهة تبدو لنا لا حركة تشامخ وامتلاك وتسلط، بل حركة تنازل وانسكاب وعطاء. وإذا بنا نرى أن الله لا يُبلغ بامتداد الإنسان نحو العلى، كما كان يحلم الوثنيون وكما لا يزال يحلم الإنسان الوثني فينا، إنما يلاقى فقط إذا تواضع الإنسان فالتقى بتواضع الله، هذا التواضع المتجلي لنا في يسوع المسيح. فلا علوّ إلا في هذا التواضع الذي هو التعبير الأسمى عن الحب، وبالتالي مكان حضور الله، حسبما قال المتصوف الألماني الكبير، المعلم إيكار، في عظة له: "أعلى ما في ألوهة الله التي لا يسبر غورها يناسب أدنى ما في أعماق التواضع. فليس على الإنسان المتواضع أن يسأل الله، بل يمكنه أن يأمر الله، لأن علو الألوهة ليس في ذاته شيئًا آخراً سوى عمق التواضع" .
صيف 1969
ك.ب.
"النور"، العدد 6، 1969