المعنى المسيحي للعمل: كلمة ألقيت سنة 1957 لمناسبة عيد العمّال
إخوتي الأحباء،
يسرنا أن نجتمع اليوم ونور القيامة يغمرنا لنحتفل بهذا العيد الذي اعتادت شعبة العمال في مركزنا أن تقيمه في كل سنة والذي هو عزيز على قلب كل مسيحي يعيش مسيحيته ويفهم متطلباتها.
1- المعنى المسيحي للعمل:
قلت أن هذا العيد حبيب لكل مسيحي مؤمن واع وذلك لأن العمل له في نظر مسيحي كهذا معانٍ إلهية تضاف إلى المعاني البشرية التي يتحدث الناس عنها عادة. إن العمل البشري، في المسيحية، إشتراك في عمل الله نفسه. فلا ينبغي أن نتصوّر الله كما يتصوره الكثيرون كائنًا عظيمًا خلق العالم دفعة واحدة وبعد ذلك تركه وشأنه وتربع على عرشه البعيد بين الكواكب متفرجًا عليه. إن هذه النظرة الصبيانية تخالف التعليم الإلهي. فالرب يسوع علّمنا قائلاً في إنجيله: "إن أبي حتى الآن يعمل...". فالله إذًا لا يزال يعمل في هذا الكون "الذي به يحيا ويتحرك ويوجد" والخليقة لا تزال مستمرة إذ إن الله لا ينقطع عن تدبير خلائقه وإدارتها والعناية بها بموجب تصاميمه الإلهية الكلية الحكمة والغامضة الوصف. ولكن الله الذي خلق الإنسان على صورته ومثاله شاء أن يكرّم الإنسان بهذا المقدار حتى إنه جعله مساهمًا معه في عمل الخلق فطلب منه "أن يملأ الأرض ويتسلط عليها"، وكيف يتم ذلك إلا بالعمل اليدوي والعقلي؟ ولذلك تذكرون كيف أن الله عندما خلق آدم طلب منه أن يشتغل في الفردوس (وهذا عمل يدوي) وأن يدعو الحيوانات بأسمائها (وهذا عمل عقلي). فكأن الإنسان بعمله يكمّل عمل الخالق بتلك القدرة عينها التي وهبه الخالق إياها عندما جعله على صورته ومثاله. فإنكم مثلاً يا إخوتي عندما تأخذون الحجر أو الحديد أو الخشب أو غير ذلك وتصنعون من هذه المواد التي أعطاها الله للإنسان أشياء جميلة مفيدة، فعندئذ تساهمون في عمل الله إذ تزيدون على جمال الكون ونظامه وترتيبه، جمالاً ونظامًا وترتيبًا أخرى هي ثمرة هذا العقل النيِّر الذي أنعم الله به علينا وهذه اليد الإنسانية المرنة الذكية التي هي من أروع مواهبه.
ولكن هذا العمل الذي كان في الأصل مصدر فرح قد أصبح بسبب سقوط الإنسان في الخطيئة وابتعاده عن خالقه، مصدر شقاء: "ملعونة الأرض بسببك، حسكًا وشوكًا تنبت لك، بعرق جبينك تأكل خبزك...". من هنا نشأ هذا التعب المضني الذي يرهق الأعصاب وينهك العضلات ويدخل السأم واليأس إلى القلب. ولكن الله المتحنن، ترأف على جبلته وأرسل ابنه الوحيد إلينا فشاركنا في بؤسنا وشقائنا، وعندما تألم هو على الصليب غيّر معنى الألم جاعلاً إياه أداة للتطهير والخلاص. لذلك لم يعد ألم الشغل وتعبه المضني عقابًا ولعنة بل أصبحا اشتراكًا في صليب يسوع وواسطة للفداء. فالذي يحتمل تعب شغله اليدوي أو العقلي بصبر ومحبة إنما يشترك في ذبيحة يسوع على الصليب، تلك الذبيحة التي نقدمها في كل قداس إلهي، ويساهم معه في افتداء العالم. وهكذا نفهم قول ذاك العامل المسيحي الشاب الذي كان يشتغل في صناعة المعادن وكان كل ما أتم قطعة يرفعها إلى الرب بشكر ويقدمها له قائلاً: "هذه هي مساهمتي الحية في القداس الإلهي...".
2- يسوع العامل:
هذا هو المعنى المسيحي للعمل ولكن هذا المعنى يزداد سموًا ووضوحًا عندما نفكر في علاقة يسوع المباشرة بالعمل اليدوي. "لقد شاء الرب يسوع أن يطلّ على العالم بوجه عامل" (الأب جورج) وقد أراد أن يشارك العمال في حياتهم الوضيعة المتعبة، فقام مدة عشرين سنة أو أكثر بعمل النجارين في مدينة الناصرة خاضعًا ليوسف متعلمًا منه المهنة بالضبط كما يتعلم إخوتنا العمال الصغار مهن النجارة أو السكافة أو الميكانيك أو غير ذلك... تصوروا يديه الإلهيتين تعملان "بالفأرة" و"المنشار" و"المطرقة" وقد قست جلدة كفيهما من الاحتكاك المستمر بالأدوات، تصوروا العرق يتصبب من جبينه الإلهي وتأملوا كيف رفع يسوع شأن ذاك العمل اليدوي الذي كان الأقدمون يحتقرونه معتبرين أنه عمل يليق بالعبيد وحدهم.
3- يسوع خلاص العمال:
إن الرب يسوع هذا الذي شاء أن يكون عاملاً مثلنا هو خلاص العمال الوحيد كما أنه مخلص العالم الوحيد: "فليس بغير هذا الاسم على الأرض خلاص". إنه يوجد في العالم ولا شك أنظمة اجتماعية ظالمة وشرائع جائرة ينوء تحتها مساكين الأرض الذين شاء يسوع أن يكون أحدهم إذ "لم يكن له موضع يسند إليه رأسه". إن الجرائم التي ترتكب بحق هؤلاء إنما ترتكب بحق المسيح نفسه الذي قال: "كل ما فعلتم بأحد إخوتي هؤلاء الصغار فبي فعلتموه". لذلك فمن كان مسيحيًا بالحقيقة قطر قلبه دمًا عند مشاهدته استثمار الإنسان لأخيه في ظل أنظمة جائرة. ولذلك لا يسعه أن يبقى مكتوف الأيدي بل يتوجب عليه أن يعمل لبناء عالم أفضل. ولكن كيف نبني هذا العالم المنشود؟ إن تغيير الأنظمة الاقتصادية والسياسية ضروري "لأن الخمر الجديدة لا توضع في زقاق عتيقة"، ولكنه لا يكفي. لا يمكن أن يقوم نظام مقام المسيح مخلص العالم الأوحد، فبدون المسيح ينتقل الناس من استثمار إلى استثمار ومن عبودية إلى عبودية ولو تغيرت الأنظمة والشرائع. إن الشر الكامن في الأنظمة ينبثق من قلب الإنسان الخاطئ. الأنظمة الظالمة تقوّي الشر وتثبّته، ولكن مصدر الداء أعمق من الأنظمة والظروف السياسية والاقتصادية وغيرها، مصدر الداء في طبيعة الإنسان التي سقطت، والرب وحده قادر أن يدخل إلى أعماق هذه الطبيعة ليستأصل منها الشر والخطيئة. عبثًا يعمل البشر على بناء عالم أفضل إن لم تسيطر روح المسيح على الأنظمة الاجتماعية وإن لم تهبّ روح المسيح في القلوب كتلك الريح العاصفة يوم العنصرة، لتقتلع منها الأنانية وحب السيطرة والاستغلال المعششة فيها: "إن لم يبنِ الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون".
4- العمال الحركيون والمسيح:
والآن يجدر بنا يا إخوتي أن نتأمل فيما يطلب الرب العامل الإلهي منا، لأننا لا نعرف مخلّصًا سواه وبنوره نسير.
أ- الاتحاد بيسوع:
ينتظر منا يسوع أيها الإخوة العمال أن نتخذه هو نقطة الارتكاز لحياتنا، وأن نقيم بينه وبيننا اتحادًا شخصيًا عميقًا بالصلاة الحارة القلبية، وتناول الأسرار بتواتر وإيمان ومحبة ومطالعة كلامه الإلهي في الإنجيل: "ها أنا واقف على الباب وأقرع..."، فإذا فتحتم أبواب قلوبكم للرب أصبحتم تعيشون فيه ويعيش فيكم، وهكذا عندما تمارسون عملكم لا تعودون وحدكم بل تصبحون بالفعل عاملين مع يسوع وتكتسب أعمالكم هكذا، مهما كانت وضيعة، قيمة إلهية لا تُحدّ...
ب- الضمير المهني:
وعندئذ أيها الإخوة عندما تصلون إلى هذا الاتحاد بالرب وتشعرون بأن يديكم اللتين تشتغلان الخشب والحديد والحجارة إنما هما يداه لأن "أجسادكم هي أعضاء المسيح" كما يقول الرسول بولس، عندئذ لا يسعكم إلا أن تتمّموا العمل بكل دقة كما لو كان الرب نفسه يعمل عوضكم، مفكرين أن في العمل خدمة للناس إخوتكم وأن الرب أتى ليخدم.
ج- العدالة الاجتماعية:
والمسيح يريدكم أيضًا أيها الإخوة أن تطالبوا بحقوق العمل وتدافعوا عنها. إن استغلال الإنسان واعتبار العمل الإنساني بضاعة تشترى بأبخس الأثمان امتهان فادح لصورة الله الكائنة في كل إنسان. إن شخصية الإنسان، لأنها خلقت على صورة الله ولأنها اشتريت بالدم الإلهي المسفوك على الجلجلة، لها قيمة لا تقدّر ولذلك لا يمكن أن تُستعبد لأحد: "قد اشتريتم بثمن فلا تصيروا عبيدًا للناس"، هذا ما كتبه الرسول بولس.
جاهدوا إذاً بثبات ونشاط في سبيل حقوق العمل التي هي بالنهاية حقوق الله، ولكن لا تنسوا أنه "ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان" كما قال الرب. لا ينتفع المرء شيئًا إذا أكل وشرب وتنعّم وغذّى عقله بالعلوم والفنون، إن لم يدرك المعنى الذي لأجله وُجد، فيعيش ويجاهد ويموت دون أن يكون لحياته أو لموته معنى يرضي متطلبات عقله ورغبات كيانه العميقة. لا تنسوا أن في قلب الإنسان عطشًا لا ترويه خيرات الأرض كلها وجوعًا لا يشبعه إلاّ الاتحاد الحبي بالله والاشتراك في حياته الأبدية غير المتناهية. "فماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه؟". جاهدوا في سبيل بناء عالم أفضل، تألموا لكي تسود عدالة ومحبة أكثر بين البشر، هذا واجب محتوم عليكم لأن المسيحي الذي يلهج دومًا بذكر ملكوت الله المنتظَر، يريد من أعماق قلبه أن تتحول الأرض على شبه الملكوت. ولكن لا تنسوا وسط جهادكم أن ملكوت الله لا يرى ولا يلمس لأنه "ليس من هذا العالم" كما قال الرب. وإنه في أعماق قلوبكم يبتدئ، إذا اتحدتم بالمسيح، ويكتمل عند مجيء الرب المجيد في نهاية الأزمان: "فإنه ليست لنا مدينة ثابتة إنما ننتظر الآتية" كما يقول الرسول.
جاهدوا ضد الظلم والاستغلال، فهذه شهادة للمسيح. ولكن لا تدعوا للحقد سبيلاً إلى نفوسكم. فانتصار الظالمين الأكبر، ومن ورائهم رئيس الظلمة إبليس، هو أن يجعلوكم فريسة للحقد الذي يشوّه صورة الله فيكم ويعطل إنسانيتكم. ساهموا يا إخوتي في تحطيم أصنام الظلم والاستعباد، فإن الرب يسوع رذل ممّون، إله المال، معبود الكثيرين، ورسوله يوحنا أوصى قائلاً: "يا أولادي احفظوا أنفسكم من الأصنام". فالمسيحي لا يعبد إلا ربًا واحدًا، ربًا هو سيد البرايا بأسرها وسيد نفوسها التي خلقها وحرّرها. حطموا الأصنام بجرأة، ولكن احترزوا من أن تقيموا عوضها في قلوبكم وفيما بينكم صنمًا آخر رهيبًا، صنم الحقد الشنيع فتُستعبدوا له وتكونوا أنتم أول ضحاياه. لذلك أبغضوا الظلم وحاربوه ولكن أحبوا جميع الناس وأشفقوا على هؤلاء الذين إذ يظلمون يصبحون عبيدًا أذلاء لقوى الشر العاملة فيهم.
على هذه الطريق سيروا يا عمال الحركة مشتركين مع جميع الذين يشهدون لحقيقة المسيح، من عمال اليد وعمال الفكر، كونوا لجميع العمال بدون استثناء إخوة مخلصين مضحّين واشهدوا بينهم للرب بنقاوتكم ومحبتكم وأمانتكم لكي يشرق الرب بكم في عالمنا المضطرب الذي يتخبط في ظلمة مريعة، غير عالم أن مخلّصه قريب. فأرشدوه أنتم إلى هذا المخلّص الذي شاء أن يدعى على الأرض ابن النجار والذي وهبنا بقيامته النصر على كل عبودية وكل ظلمة وكل شر.
"النور"، العدد6، 1957