"يقول يوحنا الذهبي الفم : إن يسوع بموته على الصليب قد علّمنا لا أن نقتل الأعداء بل أن نموت من أجلهم. والصليب هو ذاته شهادة الله المحبة والتزام بتجسيد تلك المحبة في حياة الإنسان والمجتمع. والمسيحية هي التي تستطيع مساعدة البشرية على تحقيق ذاتها، وتحقيق المحبة والسلام والعدالة. كيف يمكن أن نساعد نحن المسيحيين على تحقيق العدالة والمحبة في هذا البلد...؟".
أولاً: المعاني الاجتماعية للصليب
1 – معاني الصليب
أ – بالصليب أدركنا أن الله – مع أنه كليّ الاقتدار ومصدر الوجود كلّه – لم يشأ أن يقتحم الإنسان اقتحاماً، بل أن يخاطب حريته محترماً مبادرتها إلى حدّ عجيب، إلى حدّ السماح لها – وهو خالقها – برفضه حتى القتل، دون أن يبدر منه بالمقابل أي رفض حتى للذين رفضوه (وقد تجلى ذلك في صلاة يسوع على الصليب: "يا أبتاه اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون"). تلك هي ذروة المحبة، أن تدعو المحبوب دون أن تغتصبه، وأن تحافظ على رجائها به حتى المنتهى، مصرّة على اعتباره أفضل من ضلالاته وشروره.
ب – لا بل إن الله جعل من هذه الضلالات والشرور عينها فرصة لإطلاق الحياة من عقالاتها في عالم ساده الشرّ والظلم والحقد والموت. فقد دخل الله نفسه، عبر صليب يسوع المسيح، في عالم الظلمات هذا، ففجّر في صميمه محبته المشعّة وحياته الظافرة: "فانه هوذا بالصليب قد أتى الفرح لكل العالم". هكذا بالموت تحققت غلبة الحياة، حياة قُدّمت للجميع، أيًّا كانوا، وحتى للصالبين قتلة الحياة أنفسهم إذا شاؤوا أن يعودوا عن غيّهم وأن يتجاوزوا عمى قلوبهم وتحجّرها. فلنراجع بهذا الصدد خطبة بطرس في الجمهور اليهودي بعد حلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة وما تلا هذه الخطبة من حوار بين بطرس والجمع:
"... إن يسوع الناصريّ، ذاك الرجل الذي أيّده الله لديكم بما أجرى على يده بينكم من المعجزات والأعاجيب والآيات، كما أنتم تعلمون، ذاك الرجل الذي أُسلِمَ بقضاء الله وعلمه السابق فأخذتموه وصلبتموه وقتلتموه بأيدي الكافرين، قد أقامه الله (...) فليعلم يقيناً آل إسرائيل أجمع أن الله قد جعل يسوع هذا الذي صلبتموه سيداً ومسيحاً".
فلما سمعوا ذلك الكلام، أحسّوا أن قلوبهم تتفطّر، فقالوا لبطرس والرسل: "ماذا يجب علينا أن نعمل، أيها الأخوة؟ قال لهم بطرس: "توبوا، وليعتمد كل منكم باسم يسوع المسيح، لتُغفَرَ خطاياكم، ويُنعَمَ عليكم بالروح القدس..." فقبلوا كلامه واعتمدوا، فانضمّ في ذلك اليوم زهاء ثلاثة آلافِ نفس". (أعمال الرسل 2: 22-24 و36-41)
2- انعكاسات هذه المعاني في حياتنا الاجتماعية:
من تلك المعاني التي كشفها الله لنا في صليب ابنه الحبيب، تعلمنا نمطاً من السلوك في حياتنا الاجتماعية يفرض ذاته علينا في كل عصر وظرف إن كنا فعلاً مسيحيين، ويتخذ ملحاحية خاصة في الأوضاع المأساوية التي نعيشها حالياً في لبنان. هذا النمط يستلهم التوجهات التالية:
أ – إن الجماعة المنتمية إلى الله لا يسعها بحال من الأحوال أن تتذرع به لتفرض ذاتها على سواها، لأنها بذلك تكون على نقيض سلوكه وأخلاقه كما تجلت في صليب يسوع.
ب – إن علوّها وعظمتها يتجليان – على شاكلة عظمة الله وعلوّه – لا بالهيمنة والتسلّط وتدمير الخصوم، بل بحياة تغدقها على الجميع دون استثناء، وبنوع خاص على شتى المعذَّبين والمقهورين والمحرومين الذين تبنىّ الله جروحهم في صليب يسوع، وتتجلى بخدمة دؤوب تقدمها الجماعة المسيحية لإشاعة المصالحة والسلام والعدالة والحرية والكرامة ولمكافحة الكراهية والانغلاق والاستئثار والاستغلال والاستعباد والتخلّف والجوع والبؤس والمرض.
***
ثانياً: محاسبة للذات : هل كنّا، نحن المسيحيين، على مستوى هذا الدور في بلدنا؟
في ضوء معاني الصليب تلك التي أسلفنا ذكرها، وفي الوهج المنبعث من اللهيب الذي يحترق به لبنان منذ اثني عشرة عاماً، ذلك الوهج الذي يكشف الخفايا بنوره القاسي ويفضح المستورات، يجدر بنا أن نراجع النفس، نحن المسيحيين اللبنانيين، متسائلين بصدق وإخلاص هل كنا بالفعل على مستوى الدور الذي تقتضيه هويتنا.
فهل، يا تُرى، حقّقنا المحبة والعدالة – تلك العدالة التي هي تعبير لا بدّ منه عن المحبة وإلا كانت هذه زوراً وزيفاً وخداعاً – في هذا البلد؟ لقد كنا قيّمين عليه منذ الاستقلال (وحتى ما قبل الاستقلال، إذ كانت لنا، منذ تأسيسه سنة 1920، الكلمة الأولى في شؤونه بعد سلطة الانتداب)، فماذا فعلنا لكي نشيع فيه المحبة والعدالة؟
1- الدور الذي كان منتظراً منا:
منذ الاستقلال ارتضى الآخرون، الذين لا يشاركوننا في الانتماء الديني والمعتقد، أن يتخذوا لبنان وطناً لهم. كانت هذه خطوة أقدموا عليها على سبيل التجربة وتخلّوا، في سبيلها، عن رغبتهم الطبيعية بأن يتمتعوا بوضع الأكثرية وهيمنتها كما تتوفران لأمثالهم في سائر دول المنطقة. فكان مفروضاً فينا، بالمقابل، أن نبرهن لهم أن هذه التجربة إنما هي لخيرهم وصالحهم كما لخيرنا وصالحنا، وإنها تنعكس عليهم خيراً وبركة على كل الأصعدة من سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي وعمراني (راجع بهذا الصدد مقالاً افتتاحياً نشره الكاتب اللبناني المسيحي الكبير توفيق يوسف عواد في جريدة "النهار"، بتاريخ 16 تشرين الأول 1975، وقد أثبت نصه في كتابه "حصاد العمر"، ص 332-339، مكتبة لبنان، بيروت، 1984، والمقال بعنوان : سيولد لنا في الآلام لبنان جديد). كان مفروضاً فينا أن نكشف لهم أنه بالإمكان أن نبني وإياهم بلداً يكون تجربة فريدة من نوعها – حقاً لا شكلاً – في المنطقة، بلداً يتساوى فيه الجميع في الحرية والكرامة والحقوق والواجبات، فيتحرر فيه المقهورون من عبودية القهر الذي يُذلّ إنسانيتهم ويحفر هوة بينهم وبين القاهرين، ويتحرّر فيه هؤلاء أيضاً من عبودية تسلطهم الذي يشوّه إنسانيتهم ويعزلهم عن المقهورين، ويعيش فيه الجميع معاً إخوة أحراراً يذوقون طعم المشاركة ويختبرون ما تفجّره فيهم تلك المشاركة من طاقات تنعش الحياة وتدفع بالبلد في معارج التطور نحو الأكمل والأفضل وتحوله إلى قلعة حصينة قادرة على الصمود أمام جميع العواصف والتحديات، لا بل منارة تهتدي بها المنطقة بأسرها وتسترشد بها الإنسانية قاطبة.
وكان هذا الدور، بالنسبة إلينا نحن المسيحيين، لا ضرورة حيوية وحسب، بدونها لا يمكن أن يستمرّ هذا البلد الذي رأينا فيه ضمانة لحريتنا وكرامتنا، بل انه كان أيضاً من مقتضيات إيماننا، لو نحن أخذنا هذا الإيمان على محمل الجدّ ووعينا ما يتضمنه من رسالة اجتماعية من شأنها أن تجدد الأوطان بإطلاقها نمطاً جديداً وفريداً من العلاقات بين البشر.
2- إخفاقنا في تأدية هذا الدور:
ولكننا، للأسف، لم نكن على مستوى هذا الدور الطليعي، لأن الإنسان العتيق، بأهوائه القاتلة والانتحارية بآن، لم يتحول فينا، على الأقل على صعيد حياتنا الوطنية، كما كان يفترض أن يتحول عبر مشاركتنا للسرّ الفصحيّ، سرّ الصليب والقيامة. بل انقدنا إلى عقدة الأقليات وتصرفنا بوحي منها. وكما أن "مركب النقص" يؤدي، كما هو معلوم، وعلى سبيل التعويض، إلى "مركّب التفوق"، كذلك رضخنا نحن لدافع الخوف (متناسين أن "لا خوف في المحبة" كما يقول الرسول يوحنا)، وبوحي منه شئنا لا أن نبني وطناً فريداً في بنيانه، من حيث إحلال المساواة التامة بين أبنائه على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، بل أن نقيم رقعة أرض نكتفي فيها بقلب الموازنة السائدة في المنطقة مع الاحتفاظ بروحها الفئوية الاستعلائية ومقاييسها اللاّمنصفة، بحيث نكون في هذه الرقعة سادة عوض أن نكون مسودين وحكاماً عوض أن نكون محكومين. وقد غاب عن بالنا أن الخيار لم يكن محصوراً بين أن نكون سادة أو أن نكون مسودين، لأن هناك خياراً ثالثاً هو الأكثر لياقة بنا وبالآخرين على حد سواء، والأكثر ضمانة لنا ولهم، ألا وهو أن نكون وإياهم مواطنين متساوين في بلد ينعم فيه البشر، على قدم المساواة، بالحرية والكرامة والمشاركة في تسيير الشؤون العامة.
على نقيض ذلك، فإن خوفنا جعلنا نتشبث بالاستئثار بالسلطة على حساب سوانا، ونسخّر طاقات البلد لمصالحنا ومصالح مناطقنا على حساب حاجات الآخرين ومناطقهم التي تركنا البؤس والتخلّف يلفّانها ويتحكمان بها. ولم ندرك أننا، بسلوكنا على هذا المنوال، لم نكن فقط نتنكّر لهويتنا الإيمانية وما تقتضيه منا من شهادة وسلوك، بل كنا نعمل على تقويض هذا البلد الذي اتخذنا منه لنا ملاذاً. وقد غاب عن بالنا أن الزمن لم يكن يعمل لصالحنا – أو بالأحرى لصالح حلمنا بالهيمنة والتفوق – لأن التطور السكّاني كان يقلب تدريجياً النسب العددية ويعيدنا إلى وضع الأقلية الذي نرهبه. والصحيح أن هذا التطور لم يغب عن أذهاننا، ولكننا فضّلنا التعامي عنه بإعراضنا عن كل إحصاء للسكان بعد سنة 1932، وكأن سياسة النعامة هذه تحلّ المشكلة.
فإذا بشعور الغبن يتصاعد عند سوانا كلما زاد وعيهم لازدياد عددهم، وإذا بنقمتهم تتعالى على الإجحاف الذي يعانون منه في بلد يطالبهم بكامل واجباتهم الوطنية حياله، ولكنه، بالمقابل، يعتبرهم مواطنين من درجة ثانية ويعاملهم معاملة الأقلية المغلوبة على أمرها خلافاً للمعطيات السكانية الواقعية. هذا الشعور، من لا يفهمه ويتعاطف معه، إذا كان على شيء من الاستقامة؟ ومن الذي لا يتساءل، إذا كان على شيء من الوعي والإخلاص، عن مسؤوليتنا عنه؟
3- علاقة المأساة الحاضرة بهذا الإخفاق:
ولكننا لازمنا، للأسف، طريق الغيّ والتجاهل وقصر النظر فكان أن أتت القضية الفلسطينية، بكل ما تحمله في خلفياتها من المظالم والمآسي، فقدمت الفرصة لتفجير النقمة المتراكمة لدى الذين تجاهلنا طويلاً حقوقهم. فنشأت أزمة بالغة الحدّة فتحت المجال أمام كل القوى المتربصة بهذا البلد التاعس، من مؤامرة تفتيته وتفتيت المنطقة عبره إلى كيانات طائفية خدمة لإسرائيل وللهيمنة الاستعمارية المتحالفة مع إسرائيل، إلى الصراعات الإقليمية والعربية والدولية. فانفجرت الحرب اللبنانية بكل قذارتها وشراستها ومأساويتها ودخل البلد في نفق من الاقتتال والموت والدمار وانهيار القيم والفرز السكّاني والبؤس المعيشيّ، لا يدري أحد متى ينتهي.
المهم أن ندرك أن هذا كله لم يكن له أن يكون ولم يكن له أن يستمر لولا الخلل الأساسيّ في نمط سلوكنا وتصرفنا على الصعيد الوطني منذ أن كنا قيّمين على مصير هذا البلد البائس، ذلك النمط الذي لا يبدو، حتى الآن، أننا مستعدون للتخلي عنه، وكأننا ما زلنا نتشبث بأحلامنا حتى بعد أن تحولت إلى كابوس مرعب. وترانا نستميت في حصر التبعة بسوانا – وهم يتحملون، ولا شك، على اختلافهم، قسطاً كبيراً منها- تهرباً من مراجعة أنفسنا وما تستتبعه تلك المراجعة من محاسبة موجعة للذات وتقويم للمسيرة أليم. لا بل أن الحرب البشعة، وما رافقها من فرز سكّاني على أساس طائفيّ، عمّقت الهوة بين الفئات الطائفية وأذكت المخاوف وأججت المشاعر العدائية، وأفرزت مشاريع لهيمنة من لون آخر، كانت بالحقيقة، من بعض جوانبها على الأقل، ردة فعل عكسية على ما مارسناه نحن، ولا نزال نحلم بممارسته، من هيمنة. ولكننا اتخذنا من هذه المشاريع ذريعة لتأكيد مواقفنا الفئوية وتبريرها (من هنا هذا التعاطف الغريب – ويقال انه يتعدى مجرد صعيد المشاعر – الذي يتجلى أحياناً بيننا وبينها!).
المأساة الحاضرة كانت إذا، في لبّها وجوهرها، وليدة تنكّرنا لمعاني الصليب على صعيد حياتنا الجماعية (مما لا ينفي أن يكون الكثيرون قد اجتهدوا في عيشها على صعيد حياتهم الشخصية). أما بعد انفجار المأساة، فقد اتخذ هذا التنكّر وجهاً آخر شديد الارتباط بما سبقه. ذلك أن منطق العنف الذي ساد هذه الحرب بأبشع مظاهره، انقاد إليه، للأسف، العديد من المسيحيين، إلى حدّ أنهم، أحياناً، تنكروا باسمه علناً لصليب ذهبوا إلى حدّ اعتباره رمزاً للضعف والهوان، وأحياناً – وهنا أبشع صور التنكّر لأنها أخبثها – اتخذوا من هذا الصليب شعاراً للعنفوان الطائفي بأشرس تعابيره.
***
ثالثاً: ما العمل لإنقاذ البلد من جحيمه؟
فما دام هناك فرصة للإنقاذ – وقد تضيع هذه الفرصة نهائياً، مما يعيد إلى أذهاننا تحذير الرسول: "إفتدوا الوقت لأن الأيام شريرة" – فعلى المسيحيين أن يتحركوا جديًّا في سبيله. ولكن هذا التحرك يتطلب منهم اهتداء حقيقياً، "توبة" بالمعنى الإنجيلي، أي تغييراً جذرياً في الرؤية يستتبعه تغيير جذري في المواقف والسلوك. هذا لا يعني أن علينا أن ننتظر اهتداء الزعماء وأعوانهم، فهؤلاء، مهما أخلصت نواياهم، مستفيدون من الحرب سلطة ومغانم، ومن الصعب بالتالي أن يهتدوا. ولكن الزعماء هؤلاء يستمدون منا، ومن تعاطفنا المعلن أو الضمني مع طروحاتهم الطائفية، الكثير من قوتهم ونفوذهم. من هنا انه يترتب علينا، نحن القاعدة المسيحية، أن نعي مسؤوليتنا في تغيير الأوضاع وأن نحاسب النفس على الانحرافات التي انسقنا إليها فحالت دون ترجمة إيماننا على الصعيد الاجتماعي، فنقلع عنها وندعو سوانا إلى العودة معنا إلى الأصالة والى تصحيح المسيرة. انطلاقاً من هذا الاهتداء ومن هذه الدعوة، علينا أن نتحرك معاً للضغط على الذين يمسكون بزمام الأمور كي يوقفوا الحرب ويضعوا مع الأطراف الأخرى صيغة وطن متجدد يتمتع الجميع فيه بمساواة لا شكلية بل فعلية، على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم.
إن كنّا نحبّ فعلاً هذا البلد ونرى فيه ملاذاً لنا لا غنى عنه، فهذا هو السبيل الوحيد لإنقاذه. محبتنا له موضوعة الآن على المحكّ. فـ "من الحب ما قتل"، ونحن قد ساهمنا، ولا نزال، في قتل هذا البلد من جراء حبنا الاستيلائي، الاستئثاريّ، له. والحبّ الاستئثاريّ مدمّر للمُحبّ وللمحبوب على حدّ سواء، كما انه نقيض المحبة المسيحية الحقة، تلك المحبة التي كان الصليب نموذجاً وينبوعاً لها. محبتنا لهذا البلد، إذا استقامت، ينبغي أن تدفعنا – ومن خلالنا أن تدفع زعماءنا – إلى موقف من الفقر والتخلّي. "أتركوا شعبي يعيش"، هذا عنوان كتاب من وحي أعوام الظلام التي نعيشها، ويمكن تحويره إلى "أتركوا بلدي يعيش". وبوسعنا أن نفهمه، إذا حولناه إلى هذه الصيغة، على أنه موجّه إلينا نحن المسيحيين أولاً. وكأنه ينادينا: "أتركوا بلدكم يعيش". هذا البلد الذي أحببتموه، تعلموا كيف تحبونه بشكل أفضل. إرفعوا عنه يد التملّك إذا شئتم أن يُكتَب له البقاء.
يٌروى عن سليمان الحكيم أن امرأتين احتكمتا ذات يوم إليه. كان لكلّ منهما طفل رضيع، فتوفي أحد الطفلين وادّعت والدته أن الطفل الذي بقي على قيد الحياة إنما هو طفلها. أمام هذه المعضلة، صمم سليمان أن يختبر مشاعر المرأتين، فأمر أحد الجنود بأن يقطع الطفل إلى نصفين وأن يعطي كلاً من المرأتين أحدهما. فقبلت إحدى المرأتين بهذا الحلّ، أما الأخرى فصرخت من أعماق القلب: أعطوها إياه، المهمّ أن يبقى حيًّا! فعرف سليمان من صيحة القلب هذه إنها الأم الحقيقية، فأعاد لها ابنها. هذا شأننا نحن اليوم، مع هذا الفارق أن المطلوب ليس أن نترك البلد لسوانا، بل أن نتخلّى عن هيمنتنا ووصايتنا عليه. هذا شرط إنقاذ البلد من جهة، والعودة إلى أصالتنا المسيحية، إلى روح الصليب ومعناه، من جهة أخرى. والهدفان يلتقيان اليوم بأوضح ما يكون الالتقاء، كما يلتقي الصليب والقيامة.
إن ما يتردد من حين إلى آخر عبر وسائل الإعلام يوحي بأن محنة لبنان تؤهله بحد ذاتها، وبسبب من شدتها وضراوتها، للخلاص، كما يؤول الصليب إلى القيامة. ولكن حذار من الوهم! فالألم ليس بحد ذاته طريقاً للحياة، ليس له بحد ذاته أية قيمة خلاصية. قد يكون كله من جهة الموت، يحمل مذاقه ويمهّد له. أما الألم المحيي، الألم الخلاصيّ، الألم الذي يعانق صليب الرب ويستوعب قدرته الفدائية، فهو ذلك الألم الذي يرافق المخاض، مخاض ولادة الإنسان الجديد في الشخص والجماعة، مخاض الانسلاخ عن كل عتاقة تعيق انطلاق الحياة إن كان في الكيان الشخصي أو في الكيان الاجتماعيّ. من هنا أن معاناة لبنان، على ضراوتها، لن تنتهي بإنتصار الحياة إلا إذا انعكست هذه المعاناة فينا مراجعة عسيرة للنفس، فردية وجماعية، تقودنا إلى الإقلاع عن المواقف المدمرة التي ألفناها وتأصلت فينا، وترشدنا إلى "توبة" حقيقية، بالمعنى الإنجيليّ لهذه العبارة، أي، كما سبق وقلنا، إلى تجدد في الذهنية يستتبعه إنقلاب في نمط التصرف والتعامل. عند ذاك نكون قد اهتدينا فعلاً إلى الرب في حياتنا الوطنية، فـ"نعرفه (فيها) وقوة قيامته". عند ذاك تتوفر شروط مصالحة حقيقية بين اللبنانيين، مصالحة نكون نحن المسيحيين روادها على قدر اهتدائنا الفعلي، على مستوى حياتنا الجماعية، إلى السلام الذي حققه المسيح بصليبه: "فإنه سلامنا فقد جعل من الجماعتين جماعة واحدة وهدم بجسده الحاجز الذي يفصل بينهما، أي العداوة (...) وقد قضى على العداوة بصليبه" (أفسس 2: 14 و16).
فيا رب، ألا اهدنا، بنور صليبك، إلى استقامة الرؤيا والمواقف والسلوك.
5/4/1987
ك. ب.
مجلة "النور"، العدد 4، 1987