"كيف السبيل إلى مقاومة الشعور الطائفي نحو شعور مسيحي وإنساني أكثر انفتاحاً؟"
التحّول من انغلاق الطائفية نحو شعور مسيحي وإنساني أكثر انفتاحاً يتطلب، كما أرى، خطوات حاسمة على الأصعدة التالية: الصعيد الإيمانيّ، الصعيد السياسي، الصعيد الاجتماعي، صعيد العلاقات الإنسانية في الحياة اليومية.
أولاً : على الصعيد الإيمانيّ
مقاومة الشعور الطائفيّ تقتضي، على الصعيد الإيمانيّ، اهتداء نعود به إلى أصالة الإيمان عبر انسلاخ، ليس بالأمر اليسير، عن أفكار ومواقف كثيراً ما تمتزج بإيماننا لتفرغه من مضمونه وتنحرف به عن خطه الصحيح.
1 - فعلى المؤمنين بالإله الواحد، أياً كان دينهم ومذهبهم، أن يتخطوا رواسب الوثنية التي، وإن انتفت من معتقداتهم، فإنها بقيت، في كثير من الأحوال، معشّشة في مواقفهم وسلوكهم (فاقتلاع الوثنية من صميم الكيان، لا من الذهن وحسب، عملية لا تتم دفعة واحدة، إنها تتواصل عبر جهاد طويل ومرير ويقظة دائمة. من هنا تحذير الرسول يوحنا للذين سبق أن اهتدوا إلى الإيمان بالإله الحق، إذ يوجَّه إليهم، مع ذلك، التنبيه التالي في خاتمة رسالته الأولى: "يا أبنائي الصغار، إحذروا الأصنام"، (1 يوحنا 21:5). على المؤمنين بالإله الواحد أن يعوا إذاً، لا بالذهن وحسب، بل بمجمل الكيان، أن الله ليس حكراً على فئة من الناس، ولو أعطيت هذه الفئة – وهذا ليس من فضلها بل من فضل الله عليها – أن تكون أقرب من سواها إلى ملء حقيقته. عليهم أن يعوا، لا وعياً كلامياً بل وعياً معاشاً يحرّك القلب ويلهم السلوك، ان الله "إله وأب للجميع"، كما يقول الرسول بولس، و"ربّ العالمين"، كما يعلن الاسلام. وبالتالي، أن مقياس الانتماء الحقيقي إليه والتحرر الفعلي من الوثنية لا يكتمل بمجرد ترداد صيغ التوحيد، إنما بالانفتاح المحبّ على الناس بدون استثناء .
فالوثني يعبد إلهاً يختصه لعشيرته ويقاوم به سائر العشائر الأخرى وآلهتها، وهذا ما ننـزلق إليه، للأسف، عندما نحيي، بإنقيادنا للعصبية الطائفية، روح الوثنية البائدة، فنجزّىء الإله الواحد لنتخذ منه تغطية لأهوائنا الفئوية ومصالحنا الضيقة. أما المؤمن فعلاً بالإله الأحد، فهذا يدرك بملء جوارحه أنه أخ للجميع، على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم، لأن الإله الذي يتعبّد له يشمل الناس كلهم، وحتى الأشرار منهم، بعطفه وحنانه. "فالخَلقُ كلّهم عيال الله" كما يقول حديث شريف. والرب يسوع يخاطب أتباعه في الموعظة على الجبل قائلاً:
" أما أنا فأقول لكم: أحبّوا أعداءكم وادْعوا لمضطهديكم، فتكونوا بني أبيكم الذي في السماوات، لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، ويُنـزل غيثه على الأبرار والفجّار (…) فإن سلّمتم على إخوانكم وحدهم، فأيّ شيء غريب فعلتم؟ أو ليس الوثنيون يفعلون ذلك؟ فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم السماوي كامل".(متى 5: 44-48)
2- هذا التخطّي لذاتي، ولجماعتي التي أرى فيها صورة مضخّمة لذاتي، يتم اذا تيقّنت فعلاً بأنني محبوب من الله، كما كشف لي يسوع المسيح، وبأن هذا الحب هو الذي يقيمني في الوجود ويرعاني بحنانه في كل لحظة:
" أما يُباع عصفوران بفلس؟ ومع ذلك لا يسقط واحد منهما إلى الأرض بغير علم أبيكم. أمّا أنتم، فشعر رؤوسكم نفسه معدود بأجمعه. لا تخافوا، أنتم أكرم من عصافير كثيرة".(متى 10: 29-31)
فإذا عرفت نفسي محبوباً على هذا المنوال، أستطيع أن أحبّ نفسي على نواقصها وخيباتها. إنما لا يسعني فيما بعد أن أنطوي على نفسي وعلى من يشبهني وينتمي إلى فصيلتي، لأنني أختبر أن وجودي، في أساسه، هبة حبّ، بدونها لست بشيء، وإنني بالتالي لا أحقق ذاتي إلا إذا تجاوبت مع الحبّ الذي به أوجد واندمجتُ بتياره وتجاوزت بالتالي حدود ذاتي إلى علاقات بالآخرين أتقبل فيها وأعطي، أحيا فيها بمقدار ما أنقل الحياة لآخرين.
هذا وإن معرفتي – لا الذهنية وحسب بل المعاشة – بأنني محبوب من ذاك الذي هو ينبوع وجودي وكلّ وجود، إن معرفتي هذه تخوّلني أن أتخطّى الخوف (فلنتذكر نداء الرب في النص المذكور أعلاه: "لا تخافوا") وأن أقدم بالتالي على مجازفة الخروج إلى الآخر، إلى من هو مختلف عني وعن جماعتي، لألاقيه وأمدّه بالحياة التي أُعطاها وبالفرح الذي يوهب لي وأستمدّ منه، بدوري، ما وُهب له من حياة.
3 – وبنوع أخصّ، فإن التجذّر في الإيمان من شأنه أن يحرّرنا، نحن المسيحيين، من عقدة الخوف التي تهدّد أبداً الأقليات. ذلك أن كلمة السيد تصبح حية وفاعلة فينا، تلك التي خاطب بها أتباعه قائلاً:
"لا تخف أيها القطيع الصغير، فقد شاء أبوكم أن ينعم عليكم بالملكوت"(لوقا 12: 32)
أي، بعبارة أخرى، ليس المهم أن يكون عددكم قليلاً، طالما أن الله إتّخذ منكم منطلقاً لمعيته للبشر وسكناه الحميمي فيما بينهم، طالما أنه شرّفكم بأن تكونوا باكورة العالم الجديد وطليعته. ثم أن التجذّر الإيمانيّ يجعلنا نعي كل أبعاد هذه الكلمة الأخرى للسيد:
"بماذا أشبّه ملكوت الله؟ مَثَله كَمَثَلِ خميرة أخذتها امرأة، وجعلتها في ثلاثة مكاييل من الدقيق حتى اختمرت كلها".(لوقا 13: 20-21)
فإذا تذكّرنا أن كمية الدقيق هذه، كمية هائلة تكفي لإعداد وجبة طعام يشترك فيها أكثر من مائة شخص، وأن حفنة من الخميرة، صغيرة جداً، تكفي لتخمير هذه الكمية كلها، اقتنعنا بأن العبرة في الخميرة المسيحية ليست في ضخامة حجمها بل في فعلها المغيّر – الذي هو بالحقيقة فعل الله من خلالها – بِأَنَّ هذا الفعل المغيّر لا يتحقّق إلا إذا امتزجت الخميرة كليّاً بالعجين إلى حدّ الاندماج به، إنما دون أن تفقد نوعيتها وخصوصيتها.
هذا الموقف الإيماني أساسيّ إذا شئنا تخطّي المواقف الطائفية، إنما هو يحتاج، كي يتجاوز حيّز الذهن والمشاعر والرغبة، ويصبح قوة تغيير تحوّل الوجود كله وتوجّه السلوك والتصرفات، قلت إنه يحتاج، كي يتجسّد على هذا المنوال، إلى أطر يستند إليها، أطر نُقيمها له في مختلف مرافق الحياة، إن على الصعيد السياسي أو الاجتماعي أو على صعيد العلاقات الإنسانية التي تنسجها الحياة اليومية.
ثانياً : على الصعيد السياسيّ
يقول الرب: "لا تُجعل الخمرة الجديدة في زقاق عتيقة" (متى 9/17). كذلك لا يمكن للرؤية الإيمانية التي أشرنا إليها أن تتعايش مع هيكليات تكرّس التقوقع الفئوي. فإن من شأن هذه الهيكليات أن "تطفىء الروح" وأن تجهض مشروع التجدّد والانفتاح. من هنا ضرورة العمل على تغييرها واستبدالها بهيكليات أخرى تتلاءم مع الروح الجديدة وتحرّر انطلاقتها.
من هنا ضرورة التعرض للبنية الطائفية القائمة في لبنان، وتناولها بتحليل لا بدّ وأن يكون تحليلاً سياسياً. وانني سأبسط فيما يلي تحليلاً أقدمه على مسؤوليتي الشخصية ولا يُلزم أحداً سواي. إنما هو نابع من تفكير طويل وخبرة ومعاناة، ومتّسم بقناعة صميمة، لذا أتمنى لو يحظى ببعض الانتباه والاهتمام رغم تصدّيه لمواقف مألوفة ومشاعر متأصلة وتصورات شائعة.
بموجب هذا التحليل أقول إن البنية الطائفية القائمة في لبنان تغذي التقوقع والتناحر الطائفيين، خاصة وإنها بنيت على امتيازات للمسيحيين من حيث وجودهم في الحكم، بحجة حمايتهم من الخوف، مما أدى إلى شعور بأن البلد إنما وجد لصالح فئة من المواطنين دون سواهم، بِأَنه "فُصِّل على قياسهم" إذا صحّ التعبير. وقد آلت هذه الحال إلى نوع من التوحيد بين هذه الفئة وبين البلد ككلّ، في حين أن الفئة الأخرى كان لا بدّ لها أن تشعر بأنها هامشية فيه وبالتالي غريبة عنه بمعنى من المعاني. وقد استمرت الحال معها على هذا المنوال إلى أن أدركت قوتها، فصارت تسعى إلى قلب الموازين لصالحها وإلى فرض هيمنتها على البلد بدلاً من الهيمنة التي اضطرت أن تخضع لها. هكذا دخل لبنان في دوّامة مخيفة، يغذي فيها الخوف لدى فريق سعياً منه إلى الهيمنة، ويثير هذا السعي من جهته خوفاً لدى الفريق الآخر فيبرّر سعيه بدوره إلى الهيمنة، وهكذا دواليك، مما أدى، في آخر المطاف، إلى انفجار الحرب اللبنانية بكلّ بشاعتها، ولا يزال حتى الآن يحول دون إنتهائها، رغم كلّ الدمار المتراكم والدماء المهدورة والمستقبل المسدود والأزمة الاقتصادية المتسارعة الخانقة. وعندما أقول هذا، فإنني لا أقصد أن أقلل من شأن العوامل الخارجية على اختلافها، من مصالح دولية وإقليمية، و"مؤامرات"، و"حروب الآخرين"، ومظالم ومآسٍ... ولكن هذه العوامل كلها، على أهميتها البالغة، لم تكن لتؤدي إلى ما وصلنا إليه، لولا الأرضية الطائفية التي أشرنا إليها أعلاه، والتي جعلت من هذا البلد التاعس مطية لكل المآرب وأرضاً خصبة لكل الصراعات.
من هنا إنه يترتب على المسيحيين، برأيي، إذا شاؤوا أن يخرجوا ويُخرجوا البلد من الدوّامة الرهيبة التي أصبحت تهدّد وجوده بالزوال، أن يقبلوا الآن بما كان أسهل عليهم بكثير أن يقبلوه عند الاستقلال، لما كانوا في موقع أقوى من موقعهم الحاضر، ولكنهم فوّتوا الفرصة عليهم آنذاك، أي أن يقبلوا الدخول في مجازفة بناء وطن علمانيّ (مع حدود العلمنة التي تفرضها طبيعة مجتمعنا). لهم أن يصرّوا ما شاؤوا على أهمية الخطوات الانتقالية نحو هذه الصيغة الجديدة، إنما دون أن يعرقلوا، كما فعلوا ولا يزالون للأسف، هذا الانتقال الذي لا بدّ منه لإنهاء المأساة وتجنّب تكرارها وتفويت الفرصة على الذين يحلمون بفرض هيمنة طائفية من لون آخر.
كذلك أرى أن على المسيحيين أن يقتنعوا بأن قضيتهم الكبرى ليست، كما يُظنّ، قضية المحافظة على كيانهم الذاتي، إنما هي تصفية التخلّف والقهر اللذين تنوء تحتهما المنطقة العربية بأسرها، بِأنّ رسالتهم إنما هي رسالة تحرير للجميع (على مثال المسيح "مخلص العالم") وليس تحرير أنفسهم وحسب، بِأنّ التخلف والقهر هما المغذيان الرئيسيان للتعصب الذي يشكون منه، بأَنّ تحريرهم بالتالي من كابوسه يمر حكماً بالمساهمة في تحرير المنطقة كلها من الظلم والبؤس (راجع مقالاً للمطران جورج خضر منشوراً في جريدة "النهار"، عدد 15 كانون الأول 1985).
ثالثاً : على الصعيد الاجتماعي
السعي إلى تغيير البنى السياسية يجب أن يرافقه منذ الآن، لدى جميع المخلصين، من أشخاص ومؤسسات، إلتزام إجتماعي يعتمد أسلوب الانفتاح والتعايش والتفاعل بين الطوائف. وهذا يقتضي منا نحن الأرثوذكسيين:
1- أن نفتح مؤسّساتنا الأرثوذكسية على الجميع:
وهذا ما يمكن تحقيقه مثلاً على صعيد مؤسّساتنا الخيرية ومؤسّساتنا التربوية:
أ – المؤسّسات الخيرية: فالمركز الصحي الاجتماعي الذي تديره حركة الشبيبة الأرثوذكسية في الميناء (طرابلس) رائد من هذا القبيل، لأنه يستقبل الجميع دون تمييز بين طوائفهم. كذلك فإن لجنة الخدمة الإجتماعية التي تشرف على هذا المركز تمنح المساعدات المدرسية للمحتاجين إليها دون أن تسألهم عن انتمائهم الديني. هذا ما حصل مثلاً عندما طلب المدير المسلم لإحدى الثانويات الرسمية ذات الأكثرية الاسلامية الساحقة في طرابلس، من اللجنة المذكورة، أن تضع تحت تصرفه عدداً من نسخ كتاب مدرسيّ تستفيد من ريعه، ليجري توزيعها مجاناً على عدد من طلاب صفوف البكالوريا المحتاجين في هذه الثانوية. فكان له ما أراد دون أية صعوبة، وقد عبّر عن فرحته بما لقيه من تعاون أخويّ.
ب – المؤسّسات التربوية: نفس الانفتاح نتمناه أن يسود أجواء مؤسّساتنا التربوية. ومن دواعي الابتهاج أن نرى مثلاً الثانوية الوطنية الأرثوذكسية في طرابلس – الميناء تستقبل تلامذة من كل الطوائف يلاقون فيها نفس الترحيب وينعمون فيها بنفس الجوّ العائليّ. هذا بدون أية نية احتواء ومع احترام الآخر في اختلافه. من هذا القبيل إن إدارة الثانوية المذكورة كانت راغبة منذ زمن بأن توفر ضمن جدرانها تربية دينية إسلامية للطلاب المسلمين (والجدير بالذكر أن مدرسة كاثوليكية للراهبات في بيروت كانت رائدة في هذا المضمار). وقد دعا مدير الثانوية في حينه إلى تحقيق هذه الفكرة في إطار يشمل سائر المدارس الأرثوذكسية في مدينة طرابلس. فلو لبيت دعوته هذه، لتحقق هذه المشروع بمبادرة مسيحية حرة ولفتح صفحة جديدة مشرقة في العلاقات بين الطوائف، ولما كان احتاج الأمر إلى فرض تحقيقه قسراً في ظروف سياسية معينة وبشكل أدى إلى مزيد من التشنج بدلاً من الانفتاح والتلاقي.
2- أن نشارك كمؤسّسات أرثوذكسية وأفراد أرثوذكسيّين ملتزمين، في أعمال ومشاريع تعود للخير العام:
هذا ما حصل قبل الأحداث عبر عدة ظواهر. منها التعاون الذي قام في طرابلس – الميناء بين حركة الشبيبة الأرثوذكسية وكافة النوادي الشبابية، بغية خدمة المدينة وشبابها، والذي كانت الحركة لولبه نظراً لما أبداه ممثلوها من خبرة واندفاع وإخلاص. ومنها اللقاءات التي كانت تجري بانتظام بين شباب حركيين وسواهم من طوائف وانتماءات مختلفة، بقصد تدارس المشاكل الاجتماعية الراهنة والتعاون على مواجهتها. ومنها المحاضرات التي كان يدعو إليها فريق من المثقفين من مختلف المعتقدات، ومن بينهم حركيون، وكانت تقام في بيت الحركة في طرابلس – البلدة وتعالج القضايا التي تهمّ الناس وتشغلهم.
أما بعد نشوب الأحداث، فقد شاركت الحركة مشاركة ملحوظة في "التجمع الوطني للعمل الإجتماعي" منذ تأسيسه، إلى جانب العديد من الجمعيات والنقابات، وخدمت معها الحاجات المعيشية والثقافية لمدينة طرابلس وسهرت معها على الحفاظ على الوحدة الوطنية بين مختلف فئات المدينة. أمّا في الميناء بالذات، فقد شاركت الحركة والحركيون، إبان حرب السنتين، إلى جانب مؤسّسات وأشخاص آخرين، في خدمات التموين والأمن والتوعية ومكافحة الطائفية.
ان التصدّي الكلاميّ للطائفيّة، أية كانت ضرورته، لا يفيد كثيراً إن لم يقترن بأعمال من هذا النوع، بشهادات حية تكسر طوق الطائفية وتدشّن نمطاً جديداً من العلاقات. إن سيرة غاندي تقدم لنا مثالاً بليغاً لما نحن بصدده. فلطالما دعا إلى الإخاء والتعاون بين الهندوس والمسلمين. ولكنه لما رأى، في صيف 1924، أن الأمور تردّت من سيء إلى أسوأ بين الطائفتين، وأن حوادث العنف الطائفيّ أخذت تنشب في المدن، شعر بأن الناس، على إجلالهم الكبير له، لم يتأثروا كثيراً بما قاله وكتبه في التصدي للخلاف الطائفي. من هنا لجأ إلى عمل ذي طابع رمزيّ كان له الوقع الكبير على جماهير الهند. فقد أعلن، في 18 أيلول 1924، الصيام لمدة 21 يوماً مكرّسة للصلاة من أجل الهندوس والمسلمين. وقد شاء، وهو الهندوسيّ، أن يخوض هذه التجربة القاسية في بيت صديقه المسلم محمد علي في مدينة دلهي، متعمّداً أن يؤويه المسلمون وأن يعنى به أطباء مسلمون وأن يقدّم له المسلمون آخر طعام تناوله قبل صومه وأول طعام تلقّاه بعد انقضاء الصيام. وقد كان لعمل غاندي هذا، بكل ما حمله من معانٍ رمزية تتحدّى المشاعر الطائفية المستحوذة على مواطنيه، وقع هائل، بحيث إنه، قبل أن ينتهي الصيام بوقت طويل، قطع الهندوس والمسلمون على أنفسهم عهداً بالملايين، وسط الصلوات والدموع، بأن يحافظوا على السلام. (راجع فنسنت شيان: المهاتما غاندي. صورة من حياة عظيم (1954)، ترجمة محمد عبد الهادي، المؤسّسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، 1964، ص 246 – 252).
رابعاً : على صعيد العلاقات الإنسانية في الحياة اليومية
ولكن لا بدّ لهذا المسعى السياسي والاجتماعي الذي تحدّثنا عنه أن يمتدّ إلى العلاقات الإنسانية المعاشة في سياق الحياة اليومية، فيترجَم إنفتاحاً على علاقات الجوار والرفقة والزمالة والصداقة التي توفّر الحياة فرصاً لها في مختلف حقبات الوجود وظروفه. فالحياة اليومية والعلاقات التي تنسجها هي اللحمة التي لا يستغنى عنها لكل تغيير ينتقل من الانغلاق الطائفيّ إلى رحابة الانفتاح الروحيّ والإنساني.
(في الندوة التي بُحِثَ فيها هذا الموضوع، قدّم العديد من الشباب الحاضرين شهادات، بعضها مؤثّر وبليغ، عن الروابط التي أنشأتها الحياة بينهم وبين رفاق لهم وزملاء وأصدقاء من غير طائفتهم، وعن التفاعل الذي أدّت إليه هذه الروابط، وعن الإثراء المتبادل الذي أتاحته. وقد شارك مرشد الندوة في إبداء هذه الخبرات فروى ما حصل له منها في طفولته وفي مراحل حياته الدراسية والمهنية).
ذلك هو تعايش الحياة اليومية الذي من شأنه أن يبدّد الأوهام (فإن "الإنسان عدّو ما يجهله")، ويؤالف بين الناس، ويساعدهم على اكتشاف إنسانيتهم المشتركة، بغناها وهشاشتها، بطاقاتها وكبواتها، ويوجد المناخ الملائم لبروز مفهوم إيمانيّ أصيل بعيد عن العصبية والتشنّج، ولظهور مواقف إجتماعية وسياسية تترجم هذا التعايش اليومي على صعيد المؤسّسات وفي هيكليات الدولة. هذا التعايش أصبح الآن – وهذا مدعاة للقلق الشديد – مهدداً ومشككاً به بفعل الحرب اللبنانية التي أشاعت الكراهية والخوف، وأقفلت المناطق، وباعدت بين الناس وفرزتهم على أساس طائفيّ. لذا ينبغي أن ندأب على إعادة بناء هذا التعايش، منذ الآن، لنا ولأولادنا، حيثما وجدنا، وعلى قدر ما نستطيع، لنبقي على رجاء استعادة الوحدة الوطنية المصدّعة، تلك الوحدة التي هي صورة ومقدمة لوحدة أبناء الله.
26/2/1987
ك.ب.
مجلة "النور"، العدد 3، 1987