حديث ألقي في اجتماع عام عقده في 4 تموز 1976 فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، ثم أعيد إلقاؤه في إطار ندوة بعنوان "الطائفية في لبنان"، عقدت في ثانوية طرابلس الملعب الرسمية للبنين في 29 نيسان 1978، بدعوة من الرابطة الطلابية في الثانوية المذكورة، وشاركت فيها إلى جانب أحد أساتذتها وأحد طلابها، واستُخرج من حديثي مقال سُلِّم في 3 شباط 1979 إلى رابطة طلاب ثانوية الملعب لينشر في مجلة الرابطة.
تحديد العلمنة
قبل الخوض في هذا الموضوع، ينبغي بادئ ذي بدء تحديد المقصود بعبارة "العلمنة". فالعبارة رائجة كثيراً في هذه الأيام، إلا أن معناها قد يكون مشوّشاً في أذهان الكثيرين. فإذا عدنا إلى الخبرة التاريخية للشعوب التي حاولت أن تطبق العلمنة ابتداء من الثورة الفرنسية، وبشكل أخص ابتداءً من مطلع القرن العشرين، وجدنا أن المقصود بالعلمنة، فصل الدين عن الدولة، بمعنى استقلالية كل منهما عن الآخر. فمن جهة لا تمارس الجماعة الدينية سلطة سياسية ولا تتخذ طابع كيان سياسي يمارس الحكم أو يشارك فيه، مما يجعل الدولة مستقلة لا عن رجال الدين وحسب، بل عن الجماعة الدينية ككل من حيث هي هيئة دينية منظمة لها عقائدها وطقوسها وشرائعها، ومن جهة أخرى، لا تتدخل الدولة في شؤون الدين، فلا تتبنى مذهباً دينياً محدداً (أو أكثر من مذهب)، ولا تسخّر مؤسساتها لدعمه ونشره، ولا تفرض تعاليمه وشرائعه بقوة القانون وبأجهزة السلطة، إنما تعتمد في سنّ شرائعها، العقل وما يقود إليه من قناعة عند أكثرية المواطنين، مما لا يحول دون استلهامها، إذا اقتضى الأمر، بعض ما تنصّ عنه الشرائع الدينية، إذا تلاقت حوله قناعات أكثر المواطنين إلى أي دين أو مذهب انتموا.
إن عدم تدخل الدولة هذا في شؤون الدين يفترض أن العلمنة – خلافاً لوهم شائع ولبعض الممارسات الخاطئة في تاريخها – لا تعني مطلقاً عداء الدولة للدين، ذلك أن اتخاذ الدولة موقفاً معادياً للدين إنما يعني تدخلاً منها في شؤونه، لا يبرره مفهوم العلمنة النقي (هذا ما فهمه الفرنسيون مثلاً أكثر فأكثر بعد أن اقترنت العلمنة عندهم في أول عهدها بعداء للدين كان بالفعل، إلى حد بعيد، ردّ فعل عكسي ضد السلطة السياسية التي كان يمارسها الاكليروس محاولاً أن يعرقل بها حركة التغيير السياسي والاجتماعي). لا بل أن عداء الدولة للدين يعني تبنّيها موقفاً دينياً بمعنى من المعاني، لأن مناهضة الدين إنّما هي تعبير عن موقف من الأمور الأخروية، وإن كان هذا الموقف سلبياً، وبعبارة أخرى فاللادينية هي أيضاً مذهب ديني لا يجوز للدولة العلمانية أن تتبناه كما لا يجوز لها أن تتبنى ديناً من الأديان. العلمنة ليست إذًا أن تعادي الدولة الدين وأن تسعى لملاشاته بكافة الوسائل من إدارية وتربوية وسواها، إنما هي أن تترك الدولة الدين لمجال الضمائر، فلا تتدخل في هذا المجال الحميم لا سلبياً ولا إيجابيًا.
مقتضيات العلمنة على الصعيد اللبناني
إذا كان هذا تحديد العلمنة، فما هي مقتضياتها على الصعيد اللبناني؟ إن الجواب عن هذا السؤال بالغ الأهمية في الفترة الدراماتيكية الحاسمة التي يعيشها بلدنا والتي يُتوقّع أن يتقرر فيها مصيره لعشرات السنين، إن لم يكن لأكثر.
بنظري، وبنظر الكثيرين، إن تطبيق العلمنة على الساحة اللبنانية يفترض أمرين أساسيين:
أولهما إلغاء الطائفية السياسية، التي تعني ممارسة الجماعات الدينية – أو الطوائف – للسلطة السياسية، عن طريق اشتراكها في الحكم من خلال ممثليها في السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، واشتراكها في الإدارة من خلال ممثليها في مختلف الوظائف العامة، مما يقلّص كيان الدولة كدولة ويجعل منها شيئاً أشبه باتحاد فدرالي بين دويلات طائفية تتقاسم الحكم فيما بينها. فإلغاء الطائفية السياسية يعني زوال تلك الدويلات الطائفية وبروز الدولة ككيان متميز، قوي، موحّد، يوزع خدماته للجميع حسب حاجاتهم، دون التمييز بين فئة وأخرى، ويساهم الجميع في مسؤولياته انطلاقاً من قدراتهم وصفاتهم الشخصية، لا بناءً على انتمائهم الطائفي.
أما الترجمة الثانية للعلمنة، فلا بدّ من التأكيد عليها أيضاً رغم النقاشات الحادة التي تثيرها في صفوف الحركة الوطنية نفسها. إنها عبارة عن إصدار تشريع مدني للأحوال الشخصية، قد يستلهم تعاليم الأديان في هذا أو ذاك من بنوده، ولكنه مبني أساساً على الاجتهاد العقلي وموافقة أكثرية المواطنين المعبّر عنها ديمقراطياً من خلال ممثليهم في السلطة التشريعية. إن قانوناً كهذا لا يلغي بالطبع أحكام الشرائع الدينية المختلفة، إذ يبقى للمؤمن ملء الحق بأن يتقيد بها بشكل اختياري وفقاً لقناعته. فمثلاً إذا أجاز القانون المدني الطلاق يمكن للكاثوليكي المؤمن الذي لا تقرُّ كنيسته إمكانية فسخ الزواج، أن لا يستفيد من أحكام القانون المدني. وإذا كان تصميم تشريع مدني كهذا يثير بعض الحساسيات ويطرح بعض المشاكل، خاصة بالنسبة إلى الإخوة المسلمين، الذين قد لا تجيز نصوصهم الدينية فصل الدين عن الدولة بالقدر الذي تجيزه، لا بل تفرضه، النصوص الدينية المسيحية، فهناك على الأقل أمر لا بدّ منه بنظري، ألا وهو إقرار تشريع مدني اختياري يراعي وضع المواطنين، وهم لا شك كُثُر، الذين، وإن وُلدوا وسُجلوا في طائفة من الطوائف، إلا أنهم، مع ذلك، لم يعودوا ينتمون، على الصعيد الإيماني الوجداني، إلى أي من المذاهب الدينية المعترف بها في لبنان (كالملحدين مثلاً). فإصدار تشريع مدني اختياري للأحوال الشخصية يمنع من أن تفرض على هؤلاء، مكرهين، كما هي الحال الآن، أحكام شريعة دين لم يعودوا يؤمنون به، مما يشكل خرقاً فاضحاً لحرية الضمير وكرامة المواطن، وهما أساسان لكل نظام ديمقراطي.
إيجابيات العلمنة من وجهة نظر إيمانية
إذا كانت للعلمنة، كما ألمحنا، إيجابيات على الصعيد السياسي، إذ تفسح المجال أمام بروز دولة قوية يتساوى أمامها المواطنون، فتعطيهم وفقاً لحاجاتهم وتأخذ منهم تبعاً لقدراتهم، دون النظر إلى انتمائهم الفئوي، دولة ينصهر المواطنون فيها في بوتقة واحدة، على تعدّد العائلات الروحية التي ينتمون إليها، دولة تعود فيها إلى المواطن كرامته كشخص إنساني فلا يعود يقيّم على أساس حجم طائفته وعلوّ شأن نفوذها، ولا تفرض عليه أحكام طائفة لمجرد انتمائه إليها بصدفة الولادة، إذا كانت هذه إيجابيات العلمنة على الصعيد السياسي والإنساني، فإنني أود أيضاً أن أؤكّد على إيجابياتها من وجهة نظر إيمانية بحتة، إذ أرى أنها لا تقلّ أهمية عن تلك التي وجدناها على الصعيد الأول. هذا التلاقي بين الأصعدة ليس بالأمر الغريب. فالدين، إذا فهم على وجهه الصحيح، لا يتنكّر للإنسان، إنما يهدف إلى تحقيق ملء إنسانية الإنسان، لأن بذلك وبذلك وحده، يتمجد الله مبدع الإنسان وغايته الأخيرة.
سوف أنطلق، في تحديدي لإيجابيات العلمنة على الصعيد الإيماني، من منطلقات مسيحية، ولكنني أعتقد أن الكثيرين من الإخوة الذين لا ينتمون إلى مذهبي سوف يتجاوبون مع زبدة ما سوف أقوله، لأن الله واحد وإن اختلفت نظرتنا إليه، ولأن الحواجز التي تفصل بيننا لا تبلغ إلى علوّ سمائه، كما أنها لا تصل إلى تلك الأعماق التي يتجذّر فيها إيمان الذين يجتهدون بأن يخلصوا لله ويُسلموا أنفسهم إليه، على اختلاف مذاهبهم.
مجمل ما سوف أحاول أن أبينه هو أن العلمنة ليس فقط لا تعارض الإيمان، إنما هي عنصر أساسي في تنقيته وإعادته إلى أصالته. هذا ما سوف يتضّح من الأمور التالية:
إعادة الدين إلى أصالته كعلاقة شخصية حرة بين الإنسان وربّه
فمن جهة تساهم العلمنة في إعادة الدين إلى أصالته كعلاقة شخصية حرة بين الإنسان وربه.هكذا يكون الدين وإلا تحوّل إلى قشور وتمثيل. ذلك أن كل علاقة إنسانية لا تعمق إلا على قدر الالتزام الشخصي الحر بها. فالصديق هو الذي اختارته نفسي بين كل الذين جمعتني بهم ظروف الحياة، والحبيب هو الذي أفرده المحبّ وتعلّق به دون سواه، والوطن لا يصبح وطني لمجرد ولادتي في ربوعه بل إذا ارتضيت أن التصق به في قرارة نفسي. فعلى هذا القياس يمكن القول بأن الدين، وهو يتناول الإنسان في أعماق أعماقه، لأنه يربطه بينبوع وجوده وبغاية هذا الوجود، لا يستقيم إلا إذا كان انتماءً شخصياً صميمياً. فلا يكفي أن أعرف الله رباً للعالمين ومبدعاً للأكوان إن لم أتخذه إلهاً لي وأسلم له نفسي مختاراً. في الطفولة تختار العائلة عني ويكون موقفي الديني امتداداً لموقفها ولموقف الجماعة التي تنتمي إليها. ولكن المراهقة مع ما تحمله من اكتمال للشخصية وولوج في مرحلة الرشد، تفرض عليّ بإلحاح أن أقف من الله موقفاً شخصياً لا يستطيع آخر، أياً كان، أن يتخذه عني، عندئذ أدخل فعلاً في معاناة الإيمان، وهذه تستمر طيلة العمر لأن ظروف الحياة ومراحلها المختلفة وشؤونها وشجونها، كلها تضع إيماني أو عدم إيماني على المحك، كلّها تتطلب مني اتخاذ مواقف وإعادة نظر في مواقفي السابقة.
ذلك هو الإيمان، إذا شئنا أن نأخذه على محمل الجدّ ونحفظ له طاقته الحيّة، الخلاّقة. ولكن النظام الطائفي يطمس معالم الإيمان ويمسخه، محوّلاً إياه إلى مجرد إفراز اجتماعي. فالإنسان، عندنا، لا يُسأل رأيه في موضوع الإيمان، بل تُحدِّد انتماءَه الديني، بصورة آلية، ظروف ولادته وعملية تسجيله في دائرة النفوس، إنه، شاء أو أبى، محسوب من طائفة معينة طيلة حياته وفي كافة ظروفها، يُسجَّل مذهبه هذا على بطاقة هويته، وعلى أساسه يتوظف ويتزوج وتُحلّ خلافاته الزوجية في حال حصولها، ويَنتخب ويُنتخب ويرث ويورث، لا بل ويدفن بعد موته ، دون أن يُطلب رأيه في تلك الهوية الدينية التي تُلصَق به إلصاقاً وبموجبها تُحسم أمور تتعلق أحياناً بشؤونه الأكثر صميمية وخطورة . هكذا يُحكم في كثير من الأحوال على الإنسان اللبناني، المصنَّف حكماً في إحدى الطوائف بغضّ النظر عن موقفه الوجداني، أن يبقى تديّنه واجهة اجتماعية لا تعنيه في قرارة نفسه ولا تلزمه في الأعماق، مما ينشئ عنده ازدواجية مؤسفة بين مواقفه الباطنية وتصرفاته الخارجية، ازدواجية تنتقص من أصالته الدينية والإنسانية بآن. فلا عجب، والحالة هذه، إذا كان هذا التدين الخارجي ضئيل الفعالية في حياتنا الخاصة والعامة، شبه عاجز عن توجيه أخلاقنا وتهذيبها. ولا غرابة إذا حصلت، أثناء الحوادث المفجعة الأخيرة، في بلد يدّعي التديّن، كل تلك الفظائع والجرائم التي تشجبها أبسط مبادئ الدين.
أما العلمنة، فإنها تعيد إلى الإيمان حظّه في الأصالة، إذ أنها تجعل كل إمرىء على المحك، فيشعر أن انتماءَه الديني لم يَعُد يُفرض عليه كما في السابق، لأن لا بطاقة الهوية عادت تحدده ولا النظام السياسي ولا القانون، وأنه بالتالي مدعوّ إلى أن يختاره بملء حريته وأن يكون مسؤولاً عن هذا الاختيار وملتزماً به. قد يتخوّف البعض من أن يتقلّص الدين عند الكثيرين إذا لم تعد تدعمه الضغوط الاجتماعية، ولكن قد تديّنًا مبنياً على تلك الضغوط، لا يستحق البقاء بنظري، ناهيك عن كونه ينشئ النفور لدى الكثيرين، خاصة الشباب منهم، ويساهم، بالتالي، في إبعادهم عن الإيمان. فالأفضل أن تتقلّص رقعة التديّن عددياً وأن تزداد نوعيته صفاءً ورسوخاً . إن العلمنة تضطر المؤسسات الدينية إلى إصلاح ما فَسُد فيها لتكسب ثقة أتباعها واستمرارهم في الولاء لها، كما أنها تضطرها إلى مجابهة قضايا الحياة والعصر مجابهة رصينة، خلاّقة، عوض الاكتفاء باجترار رتيب خانق لعادات وتقاليد وتعابير الماضي.
العلمنة تساهم في إعادة الجماعة الدينية إلى أصالتها كخادمة لله، لا كمتاجرة به. إذا كانت العلمنة تساهم، كما بيّنا، في تنقية الهوية الدينية عند الأفراد، فإن لها أيضاً دوراً هاماً في إعادة الجماعة الدينية ككلّ إلى هويتها الأصيلة.
ذلك أن المبرر الأساسيّ لوجود أية جماعة دينية، إنما هو الشهادة لله، والتعاون على خدمته والتقرب إليه. غايتها إذًا ليست في ذاتها، إنما في الله الذي يلهمها ويستقطبها بآن. لا عزة لها سوى عزته ولا مجد لها سوى مجده. فممتلكاتها ومؤسساتها ومعابدها ليست هدفاً بحدّ ذاتها وموضوعاً للزهو والافتخار، إنما هي مجرد وسائل لإشاعة نور الله وتتميم وصاياه. وأفرادها، مهما سما شأنهم، لا يعتبرون انتماؤهم إليها ذريعة لتحصيل الثروات والأمجاد، بل دافعاً لتخطي ذواتهم في سعي متجرّد إلى وجهه الكريم. أما الطائفية، فإنها، بتأكيدها على الوجه الاجتماعي للطائفة على حساب وجهها الروحي، وبدفعها الطوائف في حلبة التسابق على الكراسي والمغانم والنفوذ، تحوّلها عن اتجاهها الأصيل بحيث يلهيها الانهماك بذاتها عن السعي إلى تتميم إرادة الله، وهاجس عزّتها عن واجب تمجيده بالأعمال الصالحة، وينسيها زهوها بشموخ وازدهار مؤسساتها، الغاية الحقيقية لتلك المؤسسات. أما أفراد الطوائف فإنهم يعتادون أن ينظروا إلى انتمائهم الديني، لا من حيث المسؤوليات التي يلقيها على عاتقهم بقدر ما هو من حيث الوظائف والمقامات التي يسمح لهم هذا الانتماء بولوجها، أي من زاوية التهافت على مصالحهم ومكاسبهم الخاصة .
مجمل الكلام أن الطائفة، والحالة هذه، تتعبّد لذاتها عوض أن تعبد الله، وتستخدمه تعالى عوض أن تخدمه، تتخذه تغطية لعنفوانها، فتقع في الكفر من حيث لا تدري، علماً أن أخبث أنواع الكفر إنما هو ذاك الذي ينتحل زي التقوى والتدين. ثم أن ذلك العنفوان الطائفي ذات الطابع الصنميّ تسقطه الطائفة على أفراد منها تتخذهم زعماء – وقد لا يكونون من الالتزام الإيماني بشيء – فترى في سؤددهم ونفوذهم تجسيداً لعزّتها ونفوذها، وبالمقابل تَدَعَهم يتصرفون بمقدّراتها كما يحلو لهم ويستغلون حماس أبنائها وفقاً لمآربهم، وفيما يتعارض مع المصلحة الحقيقية للسواد الأعظم من أفراد هذه الطائفة . فالإقطاعية السياسية في بلدنا مرتبطة، كما نعلم، ارتباطاً وثيقاً بالعصبية الطائفية، وما الخضوع الصنميّ الأعمى لزعماء الإقطاع سوى تعبير عن انحراف الطوائف عن غاية وجودها وضياعها في متاهة التعبّد للذات. أما الرؤساء الروحيون، وقد جعلهم النظام الطائفي زعماء زمنيّين ووجهاء في المجتمع، فإنهم مدفوعون، من جراء وضعهم هذا، إلى التضامن مع الزعامات القائمة والتواطؤ مع الاستغلال الراهن، حينما تفرض عليهم رسالتهم الروحية أن يعلنوا كلمة الله مدوّية في وجه المفاسد والمظالم مهما علا شأن مرتكبيها، ولو كان المسؤولون عنها من أبناء طائفتهم. والقليلون منهم الذين يشذّون عن خط التواطؤ هذا، يُضطهدون في طائفتهم أو يعانون فيها من مرارة الغربة .
أما العلمنة، فمن شأنها أن تساعد الطوائف على العودة إلى صفاء هويتها، فتكتشف ذاتها لا أحزاباً مأخوذة بهوى التسلط وشهوة الحكم، بل جماعات عابدة همّها الأساسي تتميم الرسالة التي من أجلها وُجدت، وتسخير كل مقدّراتها في خدمة تلك الرسالة، جماعات لا يتميز فيها أحد عن الآخر إلا بمقدار تجرده وإخلاصه، فقيرة إلى ربها، لا يحوّلها طمع في مكاسب الدنيا عن التماس وجهه والشهادة النبوية الجريئة لنوره وحقّه. أما أفراد تلك الطوائف، فالعلمنة تساهم في تنقية إيمانهم من كل نفعيّة تشوبه، وفي جعله أكثر صفاءً وتجرداً وأصالة.
العلمنة تساعد على إعادة الجماعة الدينية إلى أصالتها كخادمة للإنسان
بهذا الاهتداء إلى ربها، الذي تفسح العلمنة المجال أمامه، تهتدي الجماعات الدينية، بحركة واحدة، إلى الإنسان. ذلك أن النظام الطائفي، بتغذيته الأنانية الجماعية في كل طائفة، لا يفصلها عن ربّها وحسب، بل وعن الإنسان الآخر أيضاً، إذ يدفعها إلى الانهماك في التهافت على مصالحها ونفوذها، جماعة وأفراداً، فلا يسعها، والحالة هذه، أن تنظر إلى الجماعات الأخرى إلا كمنافسات لها وعقبات في سبيل ما تطمح إليه. هذه تتشبث بامتيازات سبق أن حصلت عليها في ظروف مؤاتية، وتنظر نظرة العداء والبغضاء إلى من يحاول انتزاع هذه الامتيازات منها؛ وتلك تسعى إلى مشاركة أوفر في السلطة والمكاسب، ولكنها تبقى إلى حدّ ما أسيرة هذا الطرح الفئوي للموضوع، فلا تتجاوزه كفاية إلى رؤية وحدويّة لوطن يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات بغضّ النظر عن انتمائهم الطائفي، وينال فيه كل مواطن حقه من الخدمات العامة وقسطه من المسؤولية بصفته مواطناً وإنساناً، لا بموجب انتمائه إلى هذه الطائفة أو تلك.
حتى الموقف من عروبة لبنان يتأثر بتلك الفئوية البغيضة. فإن الخلاف حول هذه القضية، وإن كان ذا أبعاد سياسية واقتصادية بالغة الأهمية، وإن كانت العوامل الدولية والمؤامرات الامبريالية تلعب فيه دوراً أساسياً، إلا أن العامل الطائفي وما يمثّله من انحراف روحي، يساهم فيه مساهمة صميمية لا يمكن لمن شاء أن يكون واقعياً أن يستهين بها. (فهناك رفض للعروبة، كما أن هناك إقبالاً عليها، ينطلقان، الواحد والآخر، من نظرة طائفية ضيقة واحدة تخلط دون مبرر بين العروبة وبين اللون الديني لأكثريتها، متناسية كل الحقائق التاريخية التي تثبت عكس ذلك، وتتخذ من ذلك الخلط المزعوم ذريعة لتبرير إما نزعة إلى التقوقع حيال المحيط العربي، إما، على العكس، نزعة إلى الذوبان فيه، فيغذي تطرّف كل منهما تطرّف الأخرى).
كل ذلك قاد إلى تفسّخ رهيب في كيان الوطن يهدّد بتنفيذ مآرب الطامعين في تقسيمه، كما أنه أدى إلى عنصرية مقيتة اعتُبر بموجبها الإنسان الآخر وكأنه كائن خالٍ من الكرامة الإنسانية، مما يجيز خطفه على الهوية وتعذيبه وذبحه وقتله في اغتيالات فردية أو مجازر جماعية والتمثيل بجثته على أشنع وجه بغية إزالة المعالم الإنسانية منها، وذلك لمجرد انتمائه إلى طائفة أخرى. والعنصرية أمر رهيب لأنها تنحر الإنسانية في من يمارسها وفي من يتعرض لها على حدّ سواء، إذ أنني بتجريدي الآخر عن الصفة الإنسانية وارتكابي أعمالاً لا إنسانية بحقه، أكون أنا قد استقلتُ من إنسانيتي وتحوّلت إلى وحش كاسر، لا بل، إذا تذكرنا أن الغريزة تردع الحيوان، أيًا كان توحّشه، عن قتل أبناء جنسه إلا في حالات نادرة للغاية، أكون قد تحوّلت إلى ما هو أدنى من الحيوان، إلى آلة تحرّكها الأهواء المجنونة بشكل عشوائي مدمّر.
فأين الله من كل ذلك التفسخ الفئوي والتناحر الطائفي والعنصرية البغيضة، التي تتخذه ذريعة لها. أين الجماعات الدينية من الرسالة الأصيلة الملقاة على عاتقها؟ من كان موحِّداً بالفعل، لا بمجرد الكلام – وكلّنا ندّعي بأننا موحِّدون – من كان موحِّداً فإنه يؤمن من صميم الكيان أن الله ربّ الناس أجمعين ومبدعهم، أياً كان انتماؤهم الديني، وأن الجماعة الدينية، بالتالي، اذا كانت مخلصة حقًا لربها، فهي في خدمة لا أعضائها فحسب، بل في خدمة الناس أجمعين، هؤلاء الذين يعتبرهم الانجيل كلهم أولادًا لله يوليهم تعالى جميعًا عنايته، حتى اذا ابتعدوا عن الصراط المستقيم، إذ "يشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين" كما قال السيد المسيح، هؤلاء الذين يقول عنهم الحديث النبوي الشريف "الخلق كلهم عيال الله وأحبّهم إليه أنفعهم لعياله ". فالجماعة الدينية وجدت بالتالي، لا للانهماك بذاتها والاستخفاف بمن سواها، مما يجعلها تنحرف إلى صنمية التعبّد للذات، بل لافتقاد الوجه الكريم الذي تعبده خارج حدودها أيضًا، فتجد انعكاسات له في كل الذين منحهم الباري نعمة الوجود وجعلهم شركاء لها في الإنسانية.
لذا نرجو أن تساهم العلمنة في إعادة الطوائف إلى أصالة رسالتها كخادمة للإنسان، كل إنسان، سواء أشاركها في المعتقد أو لم يشاركها به. ففي ظل نظام يتقاسم فيه المواطنون الحقوق والواجبات على قدم المساواة، دون اعتبار لانتمائهم الطائفي، في ظل نظام يتساوى فيه الناس في ولاء سياسي واحد للوطن، لا ينتقص منه ولاء لكيان سياسي آخر فئوي، هو الطائفة، في ظل نظام كهذا يزول عن الطوائف طابع الدويلات المتصارعة على الحكم والمغانم، على حساب الوحدة الوطنية، فتصبح أقرب إلى رسالتها الحقيقية، وتتاح لها فرصة أكبر لأن تكون، لا عناصر شقاق وتفسّخ في المجتمع الذي تتعايش فيه، بل داعية إلى التضامن والتآخي، وخميرة للوحدة بين الناس. عند ذاك يمكن للعائلات الروحية المختلفة أن تساهم مساهمة فعالة في بناء وطن لبنانيّ موحّد، لا في الظاهر بل في الصميم، اذ تتنافس كلها، لا على تأكيد كيانها الفئوي بشكل جشع، عدائي، بل في خدمة لا تعرف الحدود لكل المواطنين الذين شاء الله أن يجمعهم وإياها في وحدة المصير. عند ذاك لن تعود الطوائف تسمح للمستفيدين من المظالم أن يستغلوا تناحرها فيما بينها، لتثبيت الأوضاع الجائرة، بل إنما ستتبارى كلها في خدمة مميزة تقدمها للمحرومين والمعذبين، هؤلاء الذي يخصهم الله بمكانة مرموقة لديه، كما يعلّم القرآن والانجيل، والذين ينبغي بالتالي للجماعات الدينية، اذا أخلصت لربها وتحوّلت عن عبادة ذواتها، أن تتجند لخدمتهم على أكمل وجه، لا بمشاريع الخير والاحسان وحسب، التي ان اكتفينا بها نكون قد عالجنا الأعراض لا الجذور، بل بالمطالبة الشجاعة برفع كل أشكال الحيف والظلم والقهر والاستغلال عن كواهلهم لإفساح فرص الاكتمال الإنساني أمام كل واحد منهم، فيتمجّد بذلك اسم الله. وبفضل ذلك التحوّل العلماني الذي يتيح للطوائف أن تموت ككتلٍ سياسيةٍ متسابقة إلى السلطة والمكاسب، لتُبعَث جماعات متدينة بالفعل، أمينة لرسالتها الروحية والإنسانية، بفضل ذلك التحوّل يمكن لقضية عروبة لبنان أن تتخذ وجهها النير الصافي. فالمسيحيون عند ذاك يرحّبون بها (لأنهم تحرّروا من الانطواء وعادوا إلى صلب رسالتهم، رسالة الانفتاح إلى الأبعد والأشمل، رسالة سيدهم الذي "مات ليجمع أبناء الله المتفرقين إلى واحد")، والمسلمون يتخلون نهائيًا عن كل محاولة لاحتواء العروبة في نظرة طائفية، ضيقة، مبتورة.
***
تلك هي الآمال التي أعقدها على العلمنة كما حدّدتُها في مطلع هذا الحديث. لقد حاولتُ أن أبيّن أنها ليست من مقتضيات وحدة الوطن وديمقراطيته وعصرنته واندماجه في محيطه العربي وحسب، بل أنها، بالإضافة إلى ذلك، شرط لإعادة الايمان إلى أصالته ونقائه، والجماعات الدينية إلى رسالتها الروحية والإنسانية الحقيقية. وقد إنطلقتُ، في هذا التحليل، من قناعتي بأن "النصوص" لا بدّ وأن تنعكس على "النفوس"، ذلك لأن تلك النصوص تحدد العلاقات الاجتماعية التي لها أثر فعال في تكوين مواقف النفس، حتى على أعمق الأصعدة، كالصعيد الروحي والايماني مثلاً. بقي أن أوضح أني لا أعتقد أن للـ "نصوص" فعلاً آلياً، شبه سحريّ. بل أنه ينبغي للـ "نفوس" أن تتفاعل وإياها في العمق اذا شئنا أن يكون التغيير جذرياً لا صورياً. هذا يفرض، فيما يفرض، أن تعود الطوائف إلى ينابيعها الإيمانية الأصيلة، فتتجدد بها وتتوب وتهتدي، مما يهذب نفوس أتباعها ويجعلهم مستعدّين. وقد اكتشفوا جِدّة الله الأبدية وتغيّروا على شاكلتها، بجعلهم مستعدين لتبني انقلاب المفاهيم الموروثة، الذي تفترضه العلمنة، وبالتالي لإفساح المجال أمام هذه الأخيرة لتتمّ فعلاً لا شكلاً، فتأتي بالثمار المرجوة، فلا يكون هذا المخاض المفجع الذي يعيشه البلد قد ذهب سدى.
5/5/1976
كوستي بندلي