وحصلت المعجزة. ما كان يبدو مستحيلاً من بضع سنوات غدا حقيقة راهنة وبهية. إنهارت أسوار نظام التمييز العنصري التي كانت تنتصب شامخة منيعة، متحدية العالم بأسره. وطويت صفحة 350 سنة من القهر والذل، واستعاد السود، وهم 75 بالمئة من السكان، كرامتهم السليبة وحقهم بالتمتع بخيرات بلادهم وبتسلم مقدراتها. والأجمل من ذلك أن هذه التحولات المذهلة تمت، رغم محاولات تخريب الحاقدين التي تسببت في سقوط 135000 قتيل منذ 1990، في مناخ وفاقيّ علا فوق مظالم الماضي ومآسيه وبشّر بعهد من التعايش في كنف العدالة والمساواة.
هذا ما عبّر عنه في قداس الشكر والمصالحة المقام في أكبر ملاعب سوويتو أمس (الأحد 8/5/1994)، برئاسة المطران ديزموند توتو وحضور نلسون منديلا وممثلين عن 36 كنيسة مسيحية، هذا ما عبّر عنه المحتشدون لهذا القداس من كل الأعراق، سود وبيض وخلاسيون، عندما رددوا بصوت واحد (وخلافًا لاعتقاد فئة من البيض أنهم شعب الله الخاص) هذا الهتاف: "نحن كلنا شعب الله، نحن كلنا أحرار".
قائد نضال الكرامة والتحرير يُنتظر أن يُنتخب اليوم (الاثنين 9/5/1994) إلى مسؤولية الرئاسة الأولى للبلاد بعد أن أمضى 27 عامًا في سجون الظلم والقمع، لخّص ومثّل بها جلجلة شعبه. في مقابلة أجريت معه تحدث عن شؤون الإيمان (وهو ينتمي شخصيًا إلى كنيسة الميتوديست) وشهد لمناضلين مسيحيين كانوا، على حد قوله، في طليعة الكفاح من أجل التحرير، الذي يجني اليوم المسحوقون في أفريقيا الجنوبية ثماره. قال:
"... ليست لديّ مشكلة مع الإيمان الدينيّ، مشكلتي هي أن الناس، في حالات كثيرة جدًا، لا ينقلون إلى حيّز التطبيق ما يقولون إنهم يؤمنون به. إن الدين على صلة بالمحبة المتبادلة واحترام الآخر واحترام الحياة نفسها. إنه ذو صلة بكرامة ومساواة الناس المخلوقين على صورة الله. إن الله نفسه هو الذي يسألنا، إذا صحّ فهمي للكتاب المقدس، أن نلتزم في الصراع ضد الجحيم والفقر والمرض والأميّة والنقص في المساكن وسائر نكبات مجتمعنا. إنني أشعر باحترام عظيم حيال رجال الدين الذين كانوا، في بلدنا، في طليعة الكفاح. إنهم يحيون إيمانهم وإن لي احترامًا عميقًا للإيمان الذي يعلنون. أفكّر بأناس مثل ميكايل سكوت وتريفور هدّلستون والمطران توتو وفرانك شيكان وكثيرين غيرهم".
وإليكم في ما يلي، نبذة عن الشخصيات التي أشار إليها نلسون منديلا، سواء التي سمّاها أو التي لم يسمّها:
1- Michael Scott: كاهن انكليكاني من أصل بريطانيّ. سنة 1946، ساند حملة المقاومة للحكم التي نظّمتها الحركة الهندية في مدينة دوربان، عارض مطرانه التزامه السياسي هذا وحرمه من ممارسة الكهنوت.
2- Trevor Huddleston: وُلد في انكلترا وانضم سنة 1939 إلى جماعة القيامة، وهي رهبنة أنكليكانية. بين 1943 و1956 أقام في "غيتو" للسود يُدعى سوفياتوون، قرب مدينة جوهنسبورغ، وكان أحد الكهنة البيض القلائل الذين ناضلوا علنًا في ذلك العهد في الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية. بسبب ذلك طُرد من أفريقيا الجنوبية، فأصبح رئيس الحركة المناهضة للتفرقة العنصرية في لندن.
3- Desmond Tutu: مطران مدينة الكاب الأنكليكاني، وهو من السود. وُلد في مقاطعة الترانسفال وشغل عدة مسؤوليات في كنيسته قبل أن يُنتخب سكريتيرًا لمجلس كنائس جنوب أفريقيا، ولما كان القادة السياسيون السود إما في السجن إما في المنفى، وقعت عليه، في أعوام القمع تلك، مسؤولية إسماع صوت الشعب. لذا مُنح سنة 1984 جائزة نوبل للسلام.
4- Frank Chikane: قسيس في كنيسة العنصرة البروتستنتية وقد طُرد من كنيسته سنة 1981 بسبب إلتزامه السياسي. صار نائب رئيس الجبهة الديمقراطية المتحدة منذ تأسيسها سنة 1983، وهي جبهة عريضة ضد التفرقة العنصرية. أصبح سكرتير مجلس كنائس جنوب أفريقيا سنة 1987، وهو من الذين يحظون بأوفر قسط من الاحترام والإصغاء بين شخصيات هذه الكنائس. وقد عُيّن في كانون الأول 1993 عضوًا في "اللجنة الإنتخابية المستقلة" المكلفة بتنظيم أوّل انتخابات ديمقراطية في البلاد.
5- John Dube: في بداية هذا القرن، كان قسيسًا في الإرسالية الأميركية بين الزولو، قرب مدينة دوربان، ولكنه اضطر إلى الاستقالة سنة 1908 بسبب جذرية موقفه السياسي. سنة 1912 انتخب رئيسًا لما أصبح في ما بعد "المؤتمر الوطني الأفريقي".
6- Albert Luthuli: رئيس قبليّ أصله من مقاطعة ناتال. كان مسيحيًا راسخًا في إيمانه ينتمي إلى إحدى الكنائس البروتستنتية. ناضل في عدة حركات مقاومة ثم انتخب رئيسًا للمؤتمر الوطني الأفريقي سنة 1952. نظم المؤتمر بقيادته أولى حملات المعارضة التي شنها ضد قوانين التفرقة العنصرية. إعتُقل سنة 1956 وأمضى سنة في السجن. مُنح جائزة نوبل للسلام سنة 1961.
7- James Calata: كاهن أنكليكاني في أبرشية تقع شرقي مقاطعة الكاب، شارك بنشاط في حملات مقاومة التفرقة العنصرية التي نظمها المؤتمر الوطني الأفريقي في الخمسينات. وقد لقي التزامه هذا معارضة في كنيسته وسبّب له متاعب كثيرة مع الحكم.
8- Z. K. Matthews: مدرّس وكاتب أسود. كان صديقًا لألبيرلوتولي وتأثر به كثيرًا الجيل الأول من المناضلين السود. رئس فترة فرع المؤتمر الوطني الأفريقي في مقاطعة الكاب. كان عضوًا في الكنيسة الانكليكانية ولعب دورًا ناشطًا في الحركة المسكونية.
9/5/1994
أعدّه ك. ب.
عن مصادر إذاعية وصحفية أهمها مجلة A. R. M. ،
العدد 121، نيسان 1994، ص 11و 13
نُشر في مجلة "وجهة نظر"، العدد 17