مقال صدر في مجلة مكتبة حركة الشبيبة الأرثوذكسية “نبع المحبة” في العدد السادس اذار عام 1999
طلب مني شبان ، تربطني بهم مودة خاصة، وهم من أسرة الجامعيين في الميناء، أن أقدم مساهمة في مشروعهم الرامي إلى جمع عناصر توثيقية عن تاريخ الحركة. لذا ، ونزولاً عند رغبتهم، سأعود إلى ذاكرتي – راجياً سلفاً المعذرة إذا خانتني الذاكرة أحياناً – محاولاً استعادة بعض صور تلك الأيام المضيئة التي شهدت مساهمتي في انطلاقة الحركة في مينائنا. وفي هذا السياق، لا أجد بدّاً من التحدث عن نفسي ، لأن الحدث الحركي متقاطع لا محالة مع سيرة أناس أنعم الله عليهم أن يتحولوا به ويتلوّن هو بهم ، وقد كنتُ واحداً من هؤلاء.
أذكر أنه، في سنة 1943، إذا لم يخطئ ظني، حدثني الشاب جورج خضر (المطران حالياً) لأول مرة عن الحركة ( ولكم تحدثنا في ما بعد متجولين سوية في شوارع الميناء وأزقتها ). وأذكر أن ذلك حصل في حيّ المشتي، على مقربة من البحر الذي طالما أطلت عليه طفولتي، في محلة قريبة من بيتي كنا نسميها ” البرج” ( حيث تقوم حالياً بناية الزيلع التي تحمل نفس الاسم لأنها بنيت في موقع أحد الأبراج التي حصّن بها المماليك ساحل طرابلس، بعد استردادهم لها ، تحسباً لهجوم صليبي معاكس قد يأتيهم من قبرص ). كان جورج خضر حينذاك يبلغ العشرين من العمر، وكان يدرس الحقوق في بيروت، وكان قبل سنة ( أي سنة 1942) قد ساهم بشكل بارز في تأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسية مع شبان مثله ، من لبنان وسوريا، كانوا يدرسون في جامعات بيروت. أما أنا فكان لي من العمر 17 سنة، وكنت أعرف جورج خضر من مدرسة الفرير في طرابلس التي تخرجنا كلانا منها والتي كان يسبقني فيها بصف واحد. كنا في عزّ الحرب العالمية الثانية وكانت الأيام بالغة القسوة والكثيرون في لبنان يعانون من الضيق والعوز، ومنهم أسرتي، التي كنت بكرها، والتي فقدت معيلها سنة 1941، إثر موت مبكر ومفاجئ، مما أضطرني إلى النزول إلى ميدان العمل بعد أشهر من بلوغي السادسة عشرة وفور حصولي ، المبكر لحسن الحظ، على شهادة القسم الثاني من البكالوريا- فرع الفلفسة، فدخلت سلك التعليم في المدرسة التي تخرجت منها واسند إليّ مباشرة تعليم معظم المواد في الصف الثالث المتوسط، وفي السنة التي تلت، في الرابع المتوسط ، فرأيت نفسي مسؤولاً عن طلاب لم يكونوا يصغرونني بالسن إلاً قليلاً، ولا أدري إلى الآن كيف أمكنني، وأنا لا أزال في قلب المراهقة، أن أقوم بهذه الأعباء التي ألقيت فجأة على كاهلي. كنت قد تلقيت تربية مسيحية متينة في مدرسة كاثوليكية هي مدرسة الفرير التي أشرت إليها وبدأت فيها باكتشاف الإنجيل، لا في نصوصه وحسب، بل وخاصة من خلال الأشخاص المكرسين الذي كنت أتلقى منهم التعليم والإرشاد، وأحياناً الصداقة، والذين كانوا يكشفون لي، رغم نواقصهم البشرية، وميض الإنجيل متألقاً في إخلاصهم وعطائهم المحب. وكان قد أتيح لي، في المدرسة نفسها، أن أبدأ باكتشاف المسيح كشخص حيّ الآن يخاطب حياتي مخاطبة حميمة، وذلك خاصة عبر انتمائي إلى منظمتين مسيحيتين للأحداث (COEURS VAILLANTS و JEC ) كانت ترعاهما المدرسة ولكنهما كانتا ،على نقيض نظامها الجاف الرتيب، المتزمت، توفران لي مساحة عيش مشترك بالغ الحيوية والانتعاش. أما الأرثوذكسية، فلم أكن أعرف منها إلاً طقوساً أدخلتني أسرتي إليها، إنما لم يكن أحد ليكشف لي ما تحويه من غنى ومعنى وحياة. ولكن سيدة متقدمة في السن ( السيدة مريانا المرّ) كانت تزور بيتنا، وكانت من القلائل جداً المطلعين آنذاك على أصول الإيمان، كان لها الفضل في أن تكشف لي أن الأرثوذكسية، التي ولدتُ فيها، والتي كانت تبدو لي هزيلة في ظاهرها، إنما هي حارسة التراث الإنجيلي الأصيل.
قلت أن جورج خضر حدثني عن المشروع الكبير الذي كان يفتن قلبه وقلب رفاقه، مشروع “ربيع النهضة” الذي كان يتراءى حلماً باهر الضياء يلهب ويبهج شبابهم، وقد غناه أحدهم (ادوار لحّام) آنذاك في نشيد نُظِمَ بالفرنسية يقول فيه:
Avec nous reverdit le printemps
Le printemps de la relève
Car nous avons fait à vingt ans
Le plus beau de nos rèves
لست أذكر ما قاله لي جورج خضر بالضبط يومها. لكن لا بدّ أنه حاول أن ينقل إليّ اكتشافه واكتشاف رفاقه ، بأن المسيح حيّ في الكنيسة الأرثوذكسية، رغم ما يبدو عليها من جمود وخمول وتحجر ، ,انه لا يزال قلبها النابض وأن المطلوب وإنما هو وصل هذا القلب بالأعضاء، أي بنا نحن، لكي يستفيق الجسم كله وتدبّ فيه الحياة الظافرة وتبهجه وتجدده. لكنني -لست أذكر السبب- لم أتجاوب في الحال مع دعوته. إنما كان البذار قد ألقيَّ. ويبدو أن النداء أخذ يشق شيئاً فشيئاً طريقة إلى أعماقي، لأنني أذكر أنني في مطلع 1944 – إذا لم أخطئ – تأكدت ذات صباح باكر من أيام الشتاء، بما لا يحتمل الشكّ، وفي فورة من الحماس لا أزال أذكر وهجها، أنه لا بد لي من الانتساب إلى الحركة، فوقّعت فوراً وثيقة بهذا الصدد أرسلتها إلى جورج خضر. هكذا بدأت رحلة العمر، وكنت آنذاك في الثامنة عشرة.
صار يترتب عليّ إذاً أن أنقل الدعوة إلى سواي. وكان من أول من نقلتها إليهم عدد من تلاميذي في الصف الرابع المتوسط في مدرسة الفرير- طرابلس، وكان هؤلاء أرثوذكسيين يقطنون الميناء مثلي، وكان أبرزهم أخي قيصر (المطران بولس حالياً). ومما أذكره، أنني كنت وإياهم، في صيف 1944، نذهب مرة في الأسبوع، مشياً على الأقدام، من الميناء إلى منطقة الزاهرية في البلدة، حيث كان بيت جورج خضر. كنا نجلس في غرفة الاستقبال ونصغي إليه وهو يحدثنا عن الحركة وعن مشروعها النهضوي، ولا أزال أذكر كيف أنه، تمثيلاً وتجسيداً لفكرة النهضة، كان يتناول وسادة من على الكنبة ويرفعها في الهواء. وكانت في البيت ساعة جدار ( لا تزال معلقة إلى الآن. على ما أعتقد، في بيت أخي المطران جورج، وحتى الآن لا أتمالك من الضحك في سري كلما خطرت على بالي) وكان قد طرأ عليها عطّل ما، فاختلت دقاتها بحيث أنها مثلاً تدق عشر دقات إذا أشارت العقارب إلى الخامسة. كان هذا الحدث الغريب يرطّب الأجواء إلى حدّ أن أخي ( المطران بولس حالياً) كان مضطراً إلى بذل مجهود جبار ليقمع نوبة الضحك التي كانت توشك أن تنفجر لديه. لم نكن إذاً نحن “المؤسسين”، نوعاً من الملائكة أو ضرباً من الأساطير الحية. لم نكن سوى فتيان في مقتبل العمر يحملون حيوية الشباب ومرحه وخفته. إنما كان ينتابنا، بآن، شعور مهيب ومثير بأن رؤيا بهاء أخاذ تتكشف لناظرنا، وسط ادلهمام عالم لفّه الموت والدمار، وبأننا أدرجنا في ورشة مترامية الأطراف، الله مطلِقُها ومحرِكُها. وكنا نعود إلى الميناء، مشياً على الأقدام كما أتينا، تُرافِقُنا هذه الرؤى وتستخفّ أقدامنا في هدأة المساء.
في أحد هذه الاجتماعات تعرفت للمرة الأولى على ديمتري كوتيا، وكان وقتها شماساً يخدم في كنيسة مارجرجس (إلى جانب المثلث الرحمات الخوري وهبة معاز الذي كان عراّبي وصديق والدي ومعرّفي ومسانداً للحركة في بدايتها المتواضعة)، ومعلماً في مدرسة مار الياس. أذكر أنه طُلب منه يومها، في آخر الاجتماع، أن يختمه بترتيلة، فأنشد طروبارية العنصرة:”مبارك أنت أيها المسيح إلهنا، يا من أظهرت الصيادين غزيري الحكمة…” فدوى صوته مجلجلاً، وكان بأدائه الرائع ولحنه الشجي، كشفاً حقيقياً لي أخذ بمجامع كياني وأطللت عبره بذهول على بهاء تراثنا الليتورجي. الآن، وبعد انقضاء أكثر من خمسين عاماً، لا يزال صدى تلك الترتيلة يرنّ في ذاكرتي، كأنها جسّدت آنذاك كل روعة الرؤيا التي تجلت لي عند اكتشاف الحركة.كان هذا اللقاء بداية صداقة جمعتني بديمتري كوتيا ولم تقوَ عليها السنوات والأحداث. وأذكر أنها تبلورت ذات يوم، وكان مساء أحد الشعانين، حين جلسنا قرب المغيب على مقربة من البحر، قرب موقع الشاطئ الفضي، وتحدثنا طويلاً ناظرين إلى الأفق البعيد قبل أن نذهب معاً إلى صلاة الختن.
كان ديمتري كوتيا قد أسس في الميناء فرقة من الرجال والشبان العاملين (كانت معروفة وقتها باسم “فرقة الموظفين”)، وكان أبرزهم المرحوم نقولا دروبي، ذلك المخلص الصامد الذي رافق الحركة حتى وفاته، والذي كان يسرّنا أن ندعوه “عميدها”. وكان ديمتري محبوباً من هؤلاء وكان يعرف كيف يخاطبهم. فأحبوا عن طريقه المسيح وكنيسته، وشكّلت هذه الفرقة قاعدة شعبية هامة للحركة في الميناء.
أما الفرقة الطلابية التي التأمت حولي والتي تحدثت عن نشؤئها آنفاً، فكانت تجتمع معي بانتظام وتسجل محاضر لاجتماعاتها. وذات يوم استدعيتُ باسمها عن طريق جورج خضر صديقه الأستاذ جبرائيل سعادة، وهو لاذقيّ وأحد مؤسسي الحركة وملحن العديد من أناشيدها الأولى، ليعلّم الفرقة بعض الأناشيد. فتلطّف بتلبية دعوتنا. والتقينا معه في بيت أحد طلابي وحركيي فرقتي آنذاك وهو جان أميوني (حالياً المهندس جان أميوني، المعروف بالمساعدات المدرسية التي يمنحها )، إذ كان يوجد بيانو في ذلك المنزل، فجلس إليه جبرائيل سعادة وعزف الأناشيد على التوالي ولقّنها للشباب. وقد ارتأت الفرقة نفسها أن تقوم بنشاط مسرحيّ يعود بريع لصندوق الحركة ويكون بالوقت نفسه عملاً تبشيرياً. فتدرب عدد من أعضائها بمساعدة صديق لنا له إلمام بالمسرح، على تمثيل مسرحية بعنوان “الشهيد أغابيت” تمثل سيرة شهيد بهذا الاسم قدّم حياته في القرون المسيحية الأولى محبة بالمسيح. وأذكر أن دور الشهيد كان يلعبه شاب يدعى ايلي نبوت هاجر فيما بعد إلى خارج لبنان، وكان موهوباً للتمثيل، ومثل دور انطيوخوس الحاكم الروماني، شاب من أنسبائي يدعى اسكندر حبيب (الذي أصبح فيما بعد طبيباً نفسياً اشتهر بإنسانيته وتوفي قبل الأوان مأسوفاً على شبابه). أما ميتال الكاهن الوثني، فمثل دوره … قيصر بندلي (المطران بولس حالياً!) وقد استأذنا مدير مدرسة مار الياس، المرحوم الأستاذ مكاريوس موسى، بتمثيل المسرحية في مدرسة مار الياس القديمة، الواقعة على شاطئ البحر والتي هدّمت لاحقاً لإفساح مجال للشارع المدعوّ شارع مار الياس، وأذكر أن تلك المدرسة، التي يعود افتتاحها إلى العام 1900، كانت تحمل على جدرانها عبارة “ولن تمتلئ المدارس إلاً إذا صار التعليم إلزامياً” ، وهو شعار من شعارات عهد النهضة العربية قيل لي أن الأديب الكبير فرح أنطون ، وهو طرابلسيّ الأصل كما هو معروف ، أمر بنقشه عندما كان مديراً لمدرسة مار الياس قبل هجرته إلى مصر. وقد مُثلت مسرحية “الشهيد أغابيت” فعلاً يوم الأحد 11 شباط 1945 (كما يتضح من إحدى بطاقات الدخول التي لا أزال محتفظاً بها)، وحضرها شعب الميناء وتحمّس لها بالعفوية التي كانت معروفة لديه آنذاك، حتى أنه كان يكيل الشتائم واللعنات بصوت عالٍ للكاهن الوثني ميتال المسؤول الأول عن قتل الشهيد!
وكانت قد تألفت أيضاً في الميناء فرقة للشابات، ولعبت ماري دروبي دوراً بارزاً في انتشار الحركة بينهنّ، وصارت أختي اسبرانس مسؤولة عن إحدى هذه الفرق (وهي حالياً الدكتورة اسبرانس خلاط). وكانت تجري مراسلات خطية بين حركيّي وحركيّات الميناء وبين المنتسبين والمنتسبات إلى مراكز حركية أخرى، وبنوع خاص إلى مركز اللاذقية، الذي انتشرت فيه الحركة بكثافة آنذاك واندمجت فيه بالشعب الأرثوذكسي اندماجاً منقطع النظير حتى أنه دُعيَ “موطن الحركة” واختير مكاناً لانعقاد مؤتمرها الأول. عن هذه المراسلات نشأت صداقات بين حركيين من مدن مختلفة واكتشفوا بالخبرة المعاشة أن المسيح وكنيسته يوحدانهم عبر المسافات.
ينبغي أن لا يغيب ذلك عن الأذهان إذا شئنا أن نفهم البهجة العارمة التي خيّمت على الميناء يوم الأول من نيسان 1945. فقد كان ذلك اليوم محطة هامة في تاريخ اكتشاف الميناء لعمق الوحدة في المسيح وبهائها الأخاذ. ففي التاريخ المذكور احتفل مركز طرابلس (الذي كان يرأسه جورج خضر آنذاك) بالذكرى الثالثة لتأسيس الحركة. وشاركته في هذا الاحتفال مراكز أخرى جاءت وفودها إلى طرابلس لتقاسمه فرحة العيد. سبقت الاحتفال – وقد أقيم يوم أحد – خلوة روحية في دير البلمند دامت ثلاثة أيام وجمعت أعضاء من كافة المراكز حجّوا إلى ينابيع الماء الحيّ ليستقوا منها ويجدّدوا عهد الإخلاص. وقد تمكنت من الاختلاط بهم بهذه المناسبة، ولا أزال أذكر منهم الشماس (حالياً البطريرك) اغناطيوس هزيم، الذي أتى من بيروت، والأستاذ جبرائيل سعادة، الذي أتى من اللاذقية. كما أن مشهداً انطبع في ذهني، وهو مشهد شاب قيل لي أنه غسان تويني (وقد صار فيما بعد ذلك الصحفي والسياسي المعروف)، وقد شارك جزئياً في الخلوة بصفته صديقاً للحركة، ورأيته راكعاً معنا في كنيسة الدير الخشوعية، على ضوء الشموع الخافت ، يتلو بصوت عالٍ “قانون يسوع الحلو”، الذي كان آنذاك من تلاواتنا المفضلة. وبعد انقضاء الخلوة، توجه المشاركون بها إلى طرابلس لينضموا إلى احتفالات العيد مع شعب المدينة الأرثوذكسي وحركييها والوفود الآتية من المراكز الشقيقة. وبما أن ابرشية طرابلس كانت لا تزال شاغرة آنذاك، أقبل المثلث الرحمات البطريرك الكسندروس الثالث (طحان) لترؤس الاحتفالات، ورافقه المثلث الرحمات المطران أبيفانيوس (زائد) مطران عكار. أُقيم قداس العيد في كنيسة مار جرجس في الميناء التي اكتظّت بالمصلين. وبعده انتقل الاكليروس والحركيون إلى مائدة محبة أقامها المركز في البيت الذي كانت تسكنه أسرتي (وهو في الطابق الأول من البناية التي تشغلها حالياً راهبات القلبين الأقدسين). وقد فتحت المرحومة والدتي بيتها وقلبها لمئات المدعويّن الذين استضافهم مركز طرابلس والذين انتشروا في قاعات البيت وعلى سطحه وملأوها ببهجة اللقاء الأخوي. ثم أُقيم بعد الظهر حفل خطابي مشهود في مدرسة البنات الأرثوذكسية في البلدة، أذكر أننا ذهبنا إليه تحت مطر ربيعي خفيف كان يهطل آنذاك …
وفي هذه السنة أي 1945، وُضعت في الميناء أُسس ما أصبح في ما بعد يُعرف ب ” أسرة الطفولة “. وهي مساهمة فريدة قدّمها حركيو الميناء للحركة جمعاء وعبرها لكنيسة انطاكية. فقد أجتمع إذ ذاك حولي عدد من الفتيات الحركيات أذكر منهنّ: ماري دروبي، ملكة مشحم، جوزفين بندلي، جورجيت توما، أليس بندلي (اليس كوتيا الآن)، غلوريا بندلي (الدكتورة غلوريا نحاس الآن)، واتفقنا معاً على تأليف فرق للأولاد يقترن في اجتماعاتها التعليم الديني باللعب الذي هو من حاجات الولد الأساسية، وهكذا كان. فصرنا نجتمع مرة في الأسبوع في بيتي (وهو الذي تشغله حالياً راهبات القلبين القدسين كما سبق فأشرت) حول مائدة غرفة الطعام ونعدّ معاً مواد الاجتماعات التي كانت تتناول مختلف فروع التعليم الديني (من عقيدة وطقوس وتاريخ مقدس وأخلاق)، التي كانت تتعاقب المعلمات على القائها على كل فرقة أثناء دوام مقسّم إلى حصص، كل منهنّ وفقاً لما اختارت أن تتخصص له. واذكر أن جورجيت توما اشتهرت ببراعتها في سرد قصص من العهد القديم بصورة فائقة التشويق. وكان اللعب يعقب الدروس بحيث يقترن التعليم بالفرح. وأذكر أننا أفسحنا المجال لألعاب شعبية كان يتوارثها أولاد بلدتنا جيلاً بعد جيل. وقد انضم لاحقاً إلى الفتيات المؤسسات شبّان كان أولهم قيصر بندلي (المطران بولس حالياً) وجبران رملاوي (الأسقف جبران المعتمد البطريركي في أوستراليا رحمه الله) وقد عُرف التنظيم الجديد أولاً ب “مدارس الأحد” ثم ابتعد تدريجياً عن الطابع المدرسي، لذا أُطلقت عليه في ما بعد تسمية “منظمات الطفولة”. وقد تطور كثيراً مع الأيام ، في ضوء الخبرة المتراكمة وباستلهام ما كنت قد اختبرته شخصياً في حداثتي من نهج تربوي ناشط وحيّ عشت آثاره المنعشة في فترة انتمائي (بدءاً من الثانية عشرة من عمري) إلى حركة مسيحية للأطفال ، فرنسية النشأة، تستوحي الأساليب الكشفية وتُدعى “Coeurs Vaillants “. وقد راسلنا قيادة هذه الحركة فأمدّتنا بعناوين مراجع استقينا منها العديد من الأفكار كيّفناها، بشكل خلاّق على ما أعتقد، مع حاجات بيئتنا. هكذا وُضعت، في بضعة أعوام، الأصول والهيكليات التي يزال يرتكز إليها العمل الحركيّ بين الأطفال إلى يومنا هذا ، ليس في الميناء وحسب، بل انطلاقاً من الميناء (تلك هبة من الله نعتز بها)، في مختلف المراكز والفروع الحركية، التي سرعان ما استهواها النهج الرائد الذي كنا نختبره والذي كانت تتضافر فيه التنشئة الدينية مع الانتعاش الانساني. فصار الأخوة يزوروننا من مختلف المناطق ليروا عن كثب ما كنا نفعله. وكان من زوارنا هؤلاء ذات يوم، راعينا الحالي، سيادة المطران الياس قربان الذي كان لا يزال آنذاك اكليريكياً مبتدئاً في دمشق، والذي ظهر يومها في صورة فوتوغرافية – أرجو أن تكون محفوظة في الأرشيف – تمثله مع عدد من الأخوة على درج شعرية مار الياس.
وفي تشرين الأول 1945، حصل تحول على شيء من المصيرية، في حياتي، إذ قررت الانتقال من مدرسة الفرير، التي نشأت فيها ودرّستُ فيها مدة ثلاثة أعوام بعد تخرجي، إلى التدريس في مدرسة مار الياس الأرثوذكسية في الميناء، معتقداً أنه يمكن أن يكون لي فيها دور أكثر انسجاماً مع التزامي الحركي الجديد. بهذا الانتقال، الذي لم يخلُ من الانسلاخ، بدأت مرحلة امتدت تسعة عشر عاماً، حاولت فيها مع سواي من مدرّسين وطلاب، أن نجعل من هذه المدرسة مكاناً للرسالة الأرثوذكسية ومنطلقاً للعمل بين الشباب.