أود أن أبدي لكم في كلمتي هذه بعض الخواطر التي أوحاها إلي وقوع عيد الحركة في بدء الربيع. لقد علّمنا الرب نفسه أن الكون كله، من شجرة التين التي إن أورقت تنذر بقدوم الصيف إلى حبة الحنطة التي إن لم تمت تبقَ وحدها، قلت علّمنا أن الكون كله نسيج رموز تُحدّث عن الملكوت كلّ من كان قلبه مستعداً لاقتباله، ولذا شئت أن أتأمل، في نوره، بتلك الرسالة الصامتة التي ينقلها إلينا أجمل الفصول.
سر الربيع
إخوتي، في ذلك الاخضرار الذي كسا كورتنا الجميلة تتمايل بينه الأزهار ذات الألوان الزاهية، في أريج أزاهير الليمون الذي بدأ يعطّر الأجواء في فيحائنا، في تغريد الطيور، في النسيم الدافئ اللطيف، في كل ذلك الجمال الذي يطرب القلب ويسحر العيون، في كل ذلك وعود ووعود... سر الربيع ليس في جماله وحسب، بل فيما يَعِدُ به الإنسان. ومن منا لم يصغِ، في أعماق قلبه، بنشوة الأمل، إلى مواعيد الربيع؟ إنها مواعيد حياة متدفقة لا ينضب معينها، أو شباب دائم لا تذوي نضارته، وفرح لا يزول وملء في الوجود، وشركة تامة مع الكون. وكأن الطبيعة تسر في آذاننا، في كل ربيع، بهذه الوعود الخلابة فيرقص لها القلب وتضيء بها العيون لأنها في النهاية وعد بالأبدية والخلود الذي وجد الإنسان من أجله والذي لا يزال يصبو إليه بملء جوارحه. ولذا ألَّه الناس فيما مضى الربيع في بلادنا وتعبّدوا له لأنه يجدد الكون ويبعث في النفوس آمالاً لا حد لها.
مواعيد الربيع
ولكن هل تتحقق مواعيد الربيع؟ أين الفرح الذي لا يزول وهموم الحياة وآلامها وخيباتها تحيط بنا من كل جهة؟ أين ملء الوجود والفراغ معشش فينا؟ أين التجدد ورتابة الزمن والعادات تقيدنا والسأم يتأكلنا كالصدأ؟ أين الشركة ونحن في عزلة وصراع؟ أين الشباب الدائم والفناء يتسرب إلينا شيئاً فشيئاً؟ أين الخلود والموت يحصد حولنا من نحبهم وظلّه يخيّم علينا؟ كلّا لن يبرَّ الربيع بوعده، إن أزهاره تذبل وأغاريد طيوره تصمت ونوره يخبو والآمال التي أيقظها تتحطم كطيور مقصوصة الجناحين.
مصدر المواعيد
ومع ذلك ليس وعد الربيع بكاذب. ليست مواعيده مجرد وهم وسراب. كل ما في الأمر أن ليس بمقدور الربيع أن يبر بوعده، ليس في طاقة الحياة أن تحقق الآمال التي توقظها. ذلك أن هذه الوعود وهذه الآمال ليس مصدرها الطبيعة والحياة إنما مصدرها أعلى من كل ذلك بما لا يقاس، لأنها تنبع من خالق الطبيعة والحياة. جمال الكون وكل ما يوحي به من أماني إنما هي تهجئة لله ومواعيده، وإذا كانت التهجئة تسحر القلب فكيف إذاً يكون المعنى؟ شيمة البالغ أن يتجاوز التهجئة لينفذ إلى المعنى، ولكن مأساتنا أننا متغربون عن الله، ضائعون في الموجودات تلهينا التهجئة عن المعنى، نحاول أن نمتلك الكون فلا نجد إلا الفراغ بين أيدينا كمن أراد أن يمسك الماء والماء يسيل بين أصابعه. وهكذا نعيش في خيبة وألم وحنين لأن الكون يوقظ فينا عطشاً لا يمكنه أن يرويه وشوقاً لا يمكنه أن يطفئه، لأنه عطش وشوق إلى ذاك الذي يخاطب من خلال الكون قلوبنا ونحن عنه لاهون. ألم ينشد الشاعر كلوديل "لو لم يكن الكون يحدثني عنك، لما اشتد هكذا ألمي"؟
تحقيق المواعيد
ولكن الله لم يشأ أن يبقى غريباً عنا. لقد انحدر إلى شقائنا ليحقق لنا الوعد القديم الذي لا يزال الكون يحدثنا عنه. ذلك الذي تدعوه العذراء مريم في ترانيم الجمعة العظيمة "يا ربيعي العذب"، مات لتتحقق لنا مواعيد الربيع. لم يمت قسراً كإله الربيع الوهمي الذي تعبّد له الأقدمون إنما قدم حياته طوعاً لكي، بتخليه الاختياري عن ذاته، يصبح لنا ربيعاً أبدياً. افتقر حتى الموت، وهو الغني بلاهوته، ليحطم في صميمنا حب التملك فيحررنا هكذا من فراغنا ويجعلنا قابلين لدفق الحياة الدائمة التجدد النابعة منه. جعلنا مشاركين لسر صليبه وما سر الصليب إلا أننا، إذا تخلينا عن الوقوف من الحياة موقف المتملك، فعندئذ تتحقق فينا مواعيد الحياة حسب قول الرب: "من فقد نفسه وجدها". من أغلق يديه على الحياة ليستولي عليها بنهم، سالت بين يديه كما يسيل الماء، أما من فتح يديه في موقف العطاء فهذا، حسب وعد الرب، "تتفجر في قلبه ينابيع الحياة الأبدية".
سر الصليب
سر الصليب هذا نحاول أن نحياه بصورة خاصة في هذا الصوم الأربعيني الذي يصادف دائماً وقوعه في الربيع. في هذا الفصل الذي يندفع فيه الناس وراء ملذاتهم بنهم خاص وكأن السعادة المطلقة هنا أمامهم تنتظر أن يطبقوا عليها الأيدي فينقضّون في إثرها وإذا بها سراب يتلاشى ليتركهم أمام فراغهم، في هذا الفصل بالذات يتحول المسيحي عن مبهجات الدنيا لا لأنه يحتقرها بل لأنه يود أن يسعى إلى الينبوع الخفي الذي إليه يشير جمال الربيع وسحره. يود أن يقتل في ذاته شهوة التملك التي تفرغ الموجودات من معناها فتحولها من كلمات يخاطبنا الله بها إلى أصنام جوفاء تستعبد القلب دون أن تشفي غليله. ولذا يحارب هذه الشهوة في أقدم وأعمق جذورها، في "شهوة الفم" التي هي عند الطفل، في ينابيع الحياة الانفعالية، أول مظهر من مظاهر الاستيلاء. وإذا بصحراء الجهاد تثمر وإذا بالصليب يبدو في أحد الزهور محاطاً برياحين الربيع وإذا بالموت عن الشهوات يداس الموت بقوة المصلوب الناهض من بين الأموات، وإذا بالصيام يصبح "ربيع الروح" كما تقول الطقوس، وإذا في جفافه تتحقق مواعيد الربيع.
الحركة والربيع
وربما تساءلتم أين مكان ذكرى تأسيس الحركة في هذه التأملات. الجواب هو أن تأسيس الحركة يبدو لي كالصيام امتداداً للربيع الفصحي. هؤلاء الشباب الذين أسسوا الحركة، هؤلاء الشباب الذين جاهدوا ويجاهدون في صفوفها كانوا أو هم الآن في ربيع العمر وكانت فورة الفتوة تزين لهم مباهج الدنيا وصوت العالم حولهم ينادي "يجب أن يقضي الشباب جهله".ولكنهم لم يفرّطوا بشبابهم لينالوا منه الخيبة المريرة والفراغ بل وضعوه عند أقدام الرب عالمين أن بالرب وبالرب وحده تتحقق مواعيد ربيعهم، وكأنهم سمعوا صوت السيد يقول لهم على حد تعبير مورياك: "كلا، يجب أن لا ينقضي الشباب بل ينبغي أن يكون أبدياً". الحركة في الأساس هي – ولا تزال إلى حد بعيد وإن تقدم الكثيرون فيها بالسن – تكريس الشباب للرب الذي يحفظه من الذبول مجدداً إياه باستمرار ومجدداً به الكنسية. هذا ما فهمه مؤسسو الحركة عندما كانوا ينشدون:
" بنا يخضرّ الربيع، ربيع النهضة، لأننا أبصرنا، ونحن في العشرين، أجمل أحلامنا".
ولكن رؤية التجدد هذه لم تكن مجرد حلم، لقد كانت واقعاً لا نزال إلى الآن نجني ثماره. ذلك لأن أحلام الربيع لا بد لها، إذا مرت بسر الصليب، أن تتحقق بشكل يفوق كل تصور لأن "ما لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر ما أعدّه الله للذين يحبونه".
"النور"، العدد 3، 1965
ك.ب.