إخوتي،
الالتزام المسيحي: إنّ المسيحية ليست بشكل من الأشكال مجموعة شعائر وفروض خارجية يتممّها الإنسان ليفي دينًا عليه نحو ربه ولكنها تبقى على هامش حياته. كلا! فالمسيحية "كلّية، شموليّة" بأسمى ما لهذه الكلمات من معنى: "تحب الرب إلهك من كل قلبك وكل ذهنك وكل قوتك..." إنها تشمل الإنسان كله والحياة كلها: "إن أكلتم أو شربتم ومهما عملتم، فاعملوا كل شيء لمجد الله".
ويُدخَل إليها بالتوبة التي هي تحديدًا كما وردت في النص اليوناني الأصلي للإنجيل metanoia أي تغيير الذهنية واكتساب عقلية جديدة... ليست المسيحية إلى جانب الحياة إنما هي فيها، في صميمها، إنها روحها ومحورها وإن لم تكن هكذا فهي حلم يُتغنى به وكلمات جميلة نتسلى بها ولكنها لم تعد تمت بصلة إلى ديانة الإله المتجسّد. إن كنّا نؤمن أن ابن الله تجسّد فهذا يعني أن الحياة الإلهية التي فينا تُعاش في الجسد ويعبِّر عنها في كل ظروف وتفاصيل الحياة اليومية التي نعيشها...
ولأن المسيحية ديانة التجسّد فهي أيضًا ديانة التجلّي والتأله: "لقد صار الإله إنسانًا ليصير الإنسان إلهًا". بالمسيح تتأله الحياة كلها ولا يعود مظهر من مظاهرها، مهما كان وضيعًا، غريبًا عن المجد الإلهي. ولكن هذا التجلّي لا يتم إلا عن طريق الاشتراك في الصليب، ذلك لأن نور الله لا يغمرنا إلاً إذا انفتحنا له وهذا الانفتاح أليم لأنه إنسلاخ عن الأنا وإسلام لله: "لأنكم لستم لأنفسكم بل قد اشتريتم بثمن". فتقدمة النفس لله من خلال ظروف الحياة كلها وكافة مظاهرها وحوادثها شرط أساسي من شروط الحياة المسيحية: "فاحرّضكم إذًا، أيها الاخوة، بمراحم الله، أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة، مقدّسة، مرضية لله، تلك هي العبادة التي يقتضيها العقل منكم". (رومية 12: 1).
هكذا يتضح لنا أن المسيحية بما أنها ديانة التجسّد والتجلّي والتقدمة، تقتضي الالتزام كأحد مقوماتها الأساسية... الالتزام المسيحي ضرورة جوهرية مهما كان نوع الحياة التي يسلكها المؤمن...
الإلتزام الحركي: لهذا الموضوع وجهان: الالتزام الحالي في الحركة وإلتزام الحركي في مستقبله.
1- الالتزام الحالي في الحركة:
يجدر بنا أن نتساءل أولا عن معنى انضمامنا إلى الحركة. الكثيرون منا قد يدخلون الحركة لأن مظهرًا من مظاهرها استهواهم أو لأن أحد رفاقهم منتسب إليها أو لأن حماسًا أرثوذكسيًا دفعهم إلى الانخراط وهلم جرّا ... ولكن ثمة سؤال نطرحه على أنفسنا عاجلاً أم آجلاً: "ماذا يعني انضمامي للحركة بالنسبة لحياتي"؟ والجواب على ذلك أجده في مقال قديم جدًا ظهر باللغة الفرنسية في مجلة النور عندما كانت لم تزل مطبوعة على الآلة الكاتبة وكان يبدأ هكذا: "أيها الشبان والشابات، يا من تركتم ريح الحركة العاصفة تحملكم، هل فكرتم بأنكم قد ربطتم بها حياتكم كلّها"؟ معنى انضمامنا إلى الحركة هو إذًا معنى التكريس. ليست الحركة جوًا نقضي فيه بعض أوقات الفراغ ونلتقي فيه برفاق ننسجم واياهم ونتذوق بالاشتراك معهم بعض الأفكار الجميلة والعواطف النبيلة. الحركة أعمق من ذلك بكثير، إنها توجيه للحياة كلها. الحركة انبثقت عن مأساة، مأساة كنيسة وجدت لتكون منارة للضوء الإلهي وينبوعًا للحياة الإلهية فاضحت مهمشة جريحة تئن تحت وطأة التاريخ وعبء الجهل والخطيئة. لا يمكن لأعضاء الحركة أن ينسوا أنهم قد أخذوا على أنفسهم هذه المأساة وأنه لا يمكن أن تكون لهم راحة قبل أن ينبلج الفجر وأن حياتهم كلها شهادة ودعوة وأن وجودهم طليعة واستباق للنهضة التي من أجلها يعملون.
أ- هذا يعني أولاً الالتزام في الحياة الحركية: الحركي لا يمكن أن يكون في الحركة مستمعًا ومتقبلاً فقط. يجب ان يكون منتجًا، أن يشعر بأنه مسؤول. إذا رأى في الحركة ما لا يروق له لا يتخذ موقفًا سلبيًا من اعتزال عن العمل أو مشاغبة أو تمرّد لأن هذا موقف تغلب عليه "مركزية الأنا" égocentrisme وليس موقف إلتزام ومسؤولية، ولكنه يساهم مساهمة إيجابية في الإصلاح مبديًا رأيه بالأساليب القانونية ومندفعًا أكثر من ذي قبل في العمل الحركي. الحركي الحق هو الملتزم في النشاطات الحركية المختلفة من تلقاء نفسه دون أن يلاحَق ويُستجدى، وإذا قام بها لا يعتبر أن له فضلاً على الحركة لأن ذلك يعني أنه اعتبر الحركة جسمًا غريبًا عنه وأنه بالتالي لم يلتزم بها حقًا. النشاطات الحركية تخصّه شخصيًا بقدر ما هو حركي، إنه مسؤول عن سيرها كرئيس المركز ومسؤول عن فشلها وتأخرها. لذا فهو يعمل أكثر مما ينتقد لأن العمل لا يدع له وقتًا كافيًا للإنتقاد، وإذا أنتقد فانتقاداته بنّاءة، يقبلها الجميع لأن تفانيه في الحركة يدعمها ويعطيها وزنًا وقيمة. وإذا التزم في نشاط حركي اعتبر ذلك لا مركزًا أو مقامًا بل مسؤولية وتهيأ لهذه المسؤولية بدرسه وباصلاح نفسه. الحركي الملتزم يبدع في أي حقل نشاط يُعهد به إليه لأنه مسؤول ولأن الشعور بالمسؤولية مصدر للإنتاج الأصيل الخلاق. نشاطات الحركة محكوم عليها بالركود والجمود بقدر ما يكتفي المكلفون بها بتلقي التوجيهات سلبيًا لئلا يحمّلوا أنفسهم مشقة التفكير الشخصي، كونهم لم يلتزموا بعد.
ب- الحركيّ الحق يلتزم أيضًا في تفكيره: إنه يعمل – خاصة إذا كان من أهل الفكر كالطلاب مثلاً – على تكوين فكر مسيحي وحكم مسيحي في كل أمور الحياة. إنه من المخجل حقًا أن نرى شبانًا لم تتجاوز ثقافتهم المدرسية مستوى شهادة الدروس الإبتدائية يجهدون الفكر ويسهرون بعد نهار من العمل المضني ليدرسوا مبادئ المذهب السياسي الذي ينتمون إليه بينما نحن ساهون غافلون ننتظر ساعة الإجتماع الأسبوعي لنتلقى سلبيًا تعاليم مات من أجلها عشرات الألوف من الشهداء وكرّس الكثيرون من أقطاب القداسة والفكر حياتهم لدرسها وشرحها، أما نحن فنترك للغير أمر اكتسابها عنّا وتلقيمنا إياها بالملعقة الصغيرة كالأطفال. إنّ لنا رغبة في الاطلاع على أشياء كثيرة، فغريب إهمالنا لكلمات الحياة الأبدية إذا كنا نودّ أن نكون حركيين ملتزمين. بماذا نجابه التيارات العقائدية المتنوعة التي تجتاح عالمنا وتحاول أن تتسرب إلينا بشتى الوسائل إذا لم تكن لدينا ثقافة ارثوذكسية تمكننا من أن نلقي نظرة صحيحة إلى الكون والإنسان ومعنى الوجود وغايته فنمحّص هكذا بالفكر المسيحي كل المذاهب الفكرية التي نحتك بها ونتخذ منها موقفًا واعيًا رجوليًا عوض أن نكون "أطفالاً مضطربين محمولين بكل ريح تعليم بمكر إلى مكيدة الضلال" كما يقول الرسول بولس. هل نقبل ونحن قد بلغنا من الثقافة العالمية درجة متوسطة أو عالية أن تبقى ثقافتنا الدينية بدائية صبيانية؟ ألا تعتقدون أن هذا التفاوت يشكّل عاجلاً أو آجلاً خطرًا على إيماننا ويجعله فريسة هيّنة لكل الذين يحاولون بشتى الوسائل أن يقتلعوه منّا؟ أو تعتقدون أنه يمكننا بهذه المفاهيم الدينية السطحية المبعثرة أن نحمل الرسالة المسيحية إلى البيئة المثقفة التي نعيش في وسطها؟ يجب، أيها الاخوة، أن نعي نقصنا هذا وأن نتألم له. لقد لمست بنفسي أن حركيين يتخذون أحيانًا بسذاجة مواقف فكريةً تناقض صريحًا أبسط المبادئ المسيحية دون أن يعوا هذا التناقض ودون أن يعيه رفاقهم الحركيون الحاضرون. إنه لمن السهل حقًا أن نلقي تبعة ذلك الجهل الصارخ على المسؤولين. كأن في الحركة أناسًا لا عمل لهم سوى قيادة الحركة وكأننا لسنا كلنا مسؤولين، علينا أن نستفيد من أوقات الفراغ التي يتركها لنا عملنا المهني لنعبَّ من المعلومات الدينية لكي نثقف بها أنفسنا ونبني بها الآخرين. ارجو المعذرة إن تكلمت بشيء من الشدة عن هذه الناحية ولكنني أعتقد أن لا مبرر لوجود الطلاب كهيئة قائمة بذاتها في الحركة تحظى منها بعناية خاصة إن لم تؤلف هذه الهيئة نخبة مفكرة تكوّن لنفسها بصبر وجهد وعناء فكرًا مسيحيًا نيرًا يشع منها لينير الأذهان "ويسبيها إلى معرفة المسيح".
ج- الحركي الحق يلتزم أيضًا في أخلاقه: في الحياة العائلية، في الحياة المدرسية ، في كل العلاقات البشرية، يفرض الحركي على نفسه تصرفًا مسيحيًا نقيًا. إنه يجاهد ليعيش كما يحق لإنجيل المسيح، أي ليعيش حياة صدق واستقامة، حياة محبة تتجلى بتفهم الآخرين ومشاركتهم والاستعداد الدائم لخدمتهم. الحركي الملتزم يختار مطالعاته ويحرص على أن يكون مستواها رفيعًا. إنه لا يذهب إلى أي مشهد كان ولا إلى أي حفلة عالمية دون تمييز. ما رأيكم بطلاب حركيين يلجأون إلى الغش في الامتحانات المدرسية كأن ذلك عمل طبيعي؟ ما رأيكم بطلاب حركيين يتلفظون بكلمات تجديفية ثم يدعون الأخرين إلى اجتماعات الحركة؟ ما رأيكم بحركيات لا يراعين قواعد الحشمة حتى في الكنسية؟ كل ذلك يجري ويا للأسف. فأين نحن من الالتزام الحركي؟ هل لنا أن نعي أن تصرفنا هذا يشكّل عثرة للكثيرين ويولد خيبة مريرة في قلوب الذين كانوا ينتظرون منا- من حيث لا يدرون – نورًا وإعلانًا وهديًا؟ هل لنا أن نذكر الكلمة الهائلة التي صفع بها "نيتشه" معاصريه المسيحيين "برهنوا لي أنكم ظافرون لأؤمن بقيامة سيدكم".
د- الحركي الحق ملتزم في الشهادة المسيحية: إنه يعلم أنه شاهد للرب الناهض من بين الأموات القائل: "ثقوا فإني قد غلبت العالم". إنه يتحدى العالم بقوة لا تنفي الوداعة. له شجاعة التمسك بموقف مسيحي والجهر به ولو قاده ذلك إلى مخالفة بيئته العائلية أو المدرسية وإلى التخلي عن بعض صداقاته وعلاقاته. الحركي الحق لا يخاف أن يتميز عن بيئته ولو قاده ذلك إلى شيء من العزلة، لا يخاف أن يبدو في نظر أقرانه مطبوعًا بطابع خاص. كم كان سروري عظيمًا عندما قرأت عن أحد الطلاب الحركيين، في نشرة أصدرها رفاقه الجامعيون، هذه العبارة التي كانوا بها يعرّفون عنه: "الدين في جيبه اليمنى والعلم في جيبه اليسرى..." الحركي الملتزم يشهد بحياته ويشهد بكلامه أيضًا. إنه يقيم الحوار مع غير المؤمنين، حوارًا يتحاشى فيه التزمت لأنه بعيد كل البعد عن المسيحية الحقة، ويحاول أن يتفهم موقف الآخر وأن يفتش فيه عن أجزاء مبعثرة للحقيقة الكاملة الكامنة في المسيح ولكنه لا يسقط أيضًا في تلك الميوعة التي يتعرض طلابنا الحركيون لعدواها. الحركي الملتزم مستعد "أن يعطي بوداعة ومهابة حججًا عن الرجاء الموجود فيه" كما يقول الرسول بطرس، ويتعهد ضعيفي الإيمان. إنه يساهم في النشاطات المختلفة التي تقوم بها بيئته من رابطات ونوادي ونشرات وغير ذلك لا ليذوب فيها بل ليجتهد في توجيهها حسب روح المسيح وليؤمّن حضورًا مسيحيًا ورأيًا مسيحيًا فيها.
هـ- الالتزام الحركي في كافة الحقول لا يقوم بدون نعمة من فوق تجدد الذهن وتنقي القلب وتعضد الإرادة ولذا فالحركي ملتزم في الحياة السرية التي تجري في الكنيسة: إنه يساهم مساهمة فعلية في الأسرار، يتحرر من ضلال بيئته الذي يعتبر أن المناولة موسم سنوي أو فصلي فيقبل اليها بتواتر كالى غذاء ضروري لحياته الروحية وشهادته المسيحية فيتجدد ويتأله بهذا اللقاء السري مع الرب المقرون بلقاء مع كلمته عِبرَ المطالعة اليومية الخاشعة للكتاب وبالحوار المستمر معه بالصلاة. يتنقّى ويستنير بالاعتراف بخطاياه وبالارشاد الروحي. يشترك في كل مظاهر حياة الكنيسة من طقوس وأصوام، فيدخل بها إلى صميم الحياة الكنسية التي تطبع عند ذلك شخصيته كلها .
ذاك هو الحركي الملتزم. لا تعتقدوا أن التزامه هذا يفقده شيئًا من حيويته ونضارة شبابه. أنتم تعلمون بالخبرة أن الاقتراب من المسيح يوعب النفس بهجة ونشاطًا وحمية وتوثبًا. وأن صداقة المسيح تحفظ للقلب نضارته طيلة الحياة. ولكن الشاب الحركي الملتزم يضيف إلى حيوية فتوته عمقًا وفهمًا واتزانًا. إنه كما تقول القطع الطقسية عن الطبيب الشهيد بندلايمون "يتمتع بحكمة الشيوخ وهو في ريعان الصبا".
2- إلتزام الحركي في المستقبل:
كل ما تحدثت عنه إلى الآن أعتقد أنه أمر مفروغ منه وأن كل حركي واع قد طرح على نفسه الاسئلة التي طرحتها. ولكن ثمة قضية ربما لم نعرها حتى الآن الاهتمام الكافي أود الآن أن أثيرها أمامكم ألا وهي مسألة التزام الحركي في المستقبل.
أ- التزام في الحركة: اخوتي، ليست الحركة مرحلة عابرة من حياتنا مرتبطة بسن المراهقة، نتخطاها باجتياز هذه المرحلة ونتركها وراءنا كحلم جميل من أحلام الشباب لنهتم بما يسمى "بالأمور الواقعية"، "بالأمور الرصينة"، وهي أسماء خداعة لما يسميه الكتاب "ما في العالم" أو "أمور هذه الحياة" أي بعبارة أخرى تركيز الحياة حول المصلحة الأنانية، ذاك التركيز الذي يشكل خيانة مزدوجة لأنبل ما فينا من ميول ونزعات من جهة وللعالم نفسه من جهة أخرى إذ نعرّيه من معناه العميق كتهجئة وتهيئة لملكوت الله. الالتزام الحركي التزام نهائي لأنه بالحقيقة التزام بالعمل من أجل الملكوت، ذاك العمل الذي هو المبرر الوحيد لوجود الحركة: "من وضع يده على المحراث لا يلتفت إلى الوراء..." "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" "طوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا...". نعم إن الحركة قد اسسها شبان في مقتبل العمر، تعم أنها تستهوي الشباب بنوع خاص نظرًا لمثاليتهم الفياضة وشغفهم بما يتطلب منهم جهدًا وتضحية، ولكن الحياة الناجحة حقًا هي تلك التي تحقق في طور النضوج أجمل ما كان يحلم به الشاب ويصبو إليه في مثاليته. التخلي عن الحركة باسم واقعية البلوغ خيانة لإنطلاقة الشباب وخيبة مريرة لوعوده وآماله، واطفاء لشعلته. إنه تفريغ طور البلوغ من عناصر التوثب والتجدد والخلق وتحويله إلى تكيّف خامد رتيب مع ما ندعوه ضرورات الحياة وليس هو بالحقيقة سوى ضرورات انانيتنا وكسلنا. نعم إن "للعمر استحقاقه" كما يقول المثل السائر عندنا والشباب يعبر ولكن جوهر الشباب يمكن أن يبقى إلى الأبد، إن شباب الروح لا تذوي نضارته لأنه يتجدد دومًا باتصاله بشباب الله الأبدي: "وإن كان أنساننا الظاهر يفنى شيئًا فشيئًا فإنساننا الباطن يتجدد يومًا بعد يوم"، هذا ما كتبه الرسول بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس ونجد صدى له في نداء وجهه فرنسوا مورياك إلى الشباب قائلاً لهم: "إن عمرنا هو عمر خطايانا وبلانا روحي في جوهره... أيها الشبان، أصدقاء المسيح، إنه يعود إليكم أن يبقى شبابكم أبديًأ" .
منذ سنين قال أحدهم بازدراء: "الحركة حركة أولاد". نحن نفتخر بكون الله قد اختار أن يكون مؤسسو الحركة عند تأسيسهم لها والأكثرية الساحقة من أعضائها في السنين الأولى "أولادًا" ليظهر قوته في ضعفهم. الم يقل الرب: "أشكرك يا أبت رب السماء والأرض لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأظهرتها للأطفال"؟ إن عند "الأولاد" تحسسًا وانفتاحًا لعالم الروح يفوقان بما لا يقاس كل ما يعتز به اصحاب "الحكمة" الزائفة والدهاء، إن فيهم انطلاقة مستمرة نحو التجدد تزحزح كل جمود. إننا لا نزال فخورين بتلك الصفوف المندفعة المتحمسة من الشبان والشابات دون الخامسة والعشرين الذين يشكلون الطلائع المناضلة (troupes de choc) لحركتنا ويؤمّنون فيها معظم المسؤوليات. ولكن هل يجوز أن تبقى الحركة "حركة اولاد" وقد صار لها من العمر ثماني عشرة سنة ونيف؟ ألا يشكل ذلك حكمًا قاسيًا على الحركة وتهديدًا مريعًا لمستقبل عملها؟ نعم إنه يشكل حكمًا قاسيًا عليها لأنه يعني أنها لم تستطع أن تحمل أعضاءها على الالتزام الكلي فيها وأنها إذًا "فورة شباب" كما يقولون. ويشكل تهديدًا مريعًا لمستقبل عملها لأن الحركة بحاجة، لتحقيق أهدافها، إلى الفاعلية التي يتمتع بها البالغون نظرًا لنضجهم وخبرتهم، وإمكاناتهم الاجتماعية.
إن هناك ظاهرة خطيرة في الحركة حريّة بأن تقض مضاجعنا. وهي أن معظم الذين انضموا إلى الحركة منذ تأسيسها إلى يومنا الحالي تركوها عمليًا بعد تخطيهم مرحلة المراهقة. وعندما أقول تركوها لا أعني أنهم انفصلوا عنها رسميًا وشكليًا إذ أنهم في كثير من الأحيان لا يزالون يجاهرون – كما أتصور –بانتمائهم للحركة ويتسعرضون ذكرياتها بشيء من الحنين. ولكنها لم تعد تشكل في حياتهم مركز اهتمام ولم يعد ذكرها يحرك في قلوبهم سوى ذكريات جميلة مائتة أشبه ما تكون بأزهار ذابلة. وربما كان أهول ما في الأمر أن هذا التباعد قد تم تدريجيًا دون أزمة أو قلق. هكذا حُرمت الحركة ولا تزال تُحرم من كثير من أعضائها في الوقت الذي يصبحون فيه قادرين – لو ثابروا – على الإنتاج الوفير والعمل المتين والتحقيقات الواسعة والفكر الغني الناضج.
ربما قال البعض إن الإنسان يمكنه أن يترك الحركة وأن يبقى مسيحيًا مجاهدًا يعمل في سبيل الملكوت ويشهد له. إنني أوافق على هذا الرأي إذا أخذناه من الوجهة النظرية. ولكنني عندما أنظر إلى الوضع الذي نعيش فيه في هذا الكرسي الأنطاكي، أعتقد أن العمل الملتزم حقًا من أجل الملكوت يجب أن يكون حتما – في هذه الحقبة التاريخية التي نعيشها – عملاً من أجل إنعاش كنيستنا المتألمة الجريحة ليتسنى لها أن تبلّغ الناس يقوةٍ رسالتها الخلاصية، وهذا هو بالضبط الهدف الذي تجندت من أجله الحركة. أضف إلى ذلك أن العمل الفعال يحتاج إلى تعاون وثيق وتآزر القوى وإلى جو منعش من الإِيمان والأخوّة به تتجدد قوى المجاهد، وهذا ما نجده أيضًا في الحركة. ولذا أعتقد أن من التزم في الحركة عليه أن يبقى في صفوفها إذا شاء أن يؤمّن لنفسه أفضل الضمانات لاستمرار عمل رصين مثمر في خدمة الملكوت، وأن عليه أن يضع في خدمتها أمكاناته المتزايدة من فكرية واجتماعية ومادية, وأود أن أتوقف قليلاً عند هذه النقطة الأخيرة فأقول أن الحركة بحاجة ملحة إلى موارد مالية إذا شاءت أن تحقق مشاريع نهضوية واسعة المدى بعيدة الأمد. ولن يتوفر لديها هذا المال على اعتقادي إلا إذا اعتبر أعضاؤها الذين اصبحوا ذوي دخل أنهم مسؤولون ليس عن دفع اشتراك رمزي وحسب بل عن تقديم نسبة مئوية من مدخولهم لتغذية مشاريع الحركة. أنا أعرف عاملاً كان منذ أن شرع في العمل وهو دون العشرين يدفع لحزبه قسطًا لا يستهان به من معاشه الزهيد. فأين نحن أبناء الملكوت من هذه الغيرة؟
ولكن التزام الحركي في مستقبله لا يعني فقط بقاءَه مجاهدًا في الحركة. إنه يعني أيضًا الالتزام المسيحي في كافة نواحي الحياة.
ب- الالتزام في الحياة الكنسية: الحركي الحق، في حاضره ومستقبله عضو عامل نشيط في الكنيسة متجند لخدمتها، ولكن الكنيسة بحاجة ماسة إلى شبان وشابات ينخرطون في سلك الحياة الاكليريكية والرهبانية. هذا شرط أساسي من شروط النهضة المنشودة وإذا لم يتحقق حُكِم بالعقم على الكثير من جهود الحركة. لن أتحدث مطولا عن هذا الموضوع فقد تحدث عنه أناس التزموا في هذه الخدمة الشريفة، وإنكم تجدون دومًا نصب أعينكم مثالهم الكريم عبرة ومنارة ودعوة، ولكنني أعتقد أن الحركي الحق يجب أن لا يتهرب – عند تفكيره في أمر مستقبله – من طرح المسألة على نفسه. أما الحركيون الذين يسلكون طريق الشهادة المسيحية في العالم فيترتب عليهم أن يساهموا مساهمة فعلية في العمل الطائفي. يطلب منهم أن يتطوعوا للعمل في الجمعيات واللجان الطائفية لتجديد روحها وإعادتها إلى الهدف الذي من أجله وجدت ألا وهو الشهادة للمسيح والعمل على نشر رسالته وتحقيقها. فالعاملون منهم في لجان المدارس الأرثوذكسية يجاهدون لإعادة هذه المدارس إلى غايتها الأساسية ألا وهي إنشاء جيل أرثوذكسي مؤمن واع، والعاملون في المؤسسات الخيرية يناضلون لإعادة هذه المؤسسات إلى جوهرها ألا وهو أن تكون إمتدادًا لمحبة المسيح المبذولة بسخاء، تعمل لإبراء النفوس والأجساد وشفاء منكسري القلوب وإنهاض المساكين من كبوتهم ومساعدتهم على أن يصبحوا مكتفين بأنفسهم يعيشون بشرف من عملهم ويتمتعون بكرامة تليق بأبناء الله. على الحركيين أن يشتركوا في الجمعيات واللجان الطائفية لتحريرها من جمودها وإدخال روح التجدد والإبداع إليها، عليهم أيضًا أن يلتزموا في النضال من أجل الحصول على رعاة صالحين.
ج- التزام في الحياة المهنية: هناك مهن ينبغي التفكير بها نظرًا لحاجة الكنيسة الملحة إليها، منها مهنة التعليم مثلاً. مدارسنا الأرثوذكسية تحتاج إلى معلمين ذوي إيمان وكفاءة ليتسنى لها أن تقوم بالرسالة التي من أجلها وجدت، تحتاج إلى معلمين يؤمّنون فيها ليس التعليم الأرثوذكسي وحسب بل الجو التربوي المسيحي العام. فهل لنا أن نفكر في احتمال اختيار مهنة كهذه رغم مشقتها والتضحيات المادية التي تفرضها وقلة اعتبار المعلم في بلادنا؟ على كلّ، فمهما كانت الطريق التي نسلكها، علينا، على ما أعتقد، إذا كنا حركيين ملتزمين، ان نعتبر المهنة خدمة قبل كل شيء وأن نختار مهنتنا لا على سبيل تأمين اكبر ربح ممكن بل على سبيل تأمين أكبر خدمة ممكنة في الحقل الذي تؤهلنا له مواهبنا. علينا أن نشهد للرب أيًا كانت مهنتنا بالاستقامة والاخلاص والتفاني. ربما اختار البعض منا مهنة الفكر والقلم، فهل لهم أن يفكروا بأن الالتزام الحق يعني أيضًا تكريس القلم لخدمة الرب والشهادة له عِبرَ إبداع "ثقافة أرثوذكسية تستوحي عناصرها من روح الكنيسة"، كما ينص أحد مبادئ الحركة؟ من مظاهر النهضة في العالم المسيحي الحديث اجتماعات ومؤتمرات يعقدها فلاسفة وعلماء وأطباء مسيحيون ليبحثوا القضايا المسيحية في علاقتها بفرع اختصاصهم ويستعينون بلاهوتيين ليقيموا حوارًا مستمرًا بين الفكر المسيحي من جهة والفكر الفلسفي أو العلمي من جهة أخرى. فهل يتحقق هذا الحلم في كنيستنا؟ هذا يعود إلى حد بعيد لما تقررونه أنتم. على كلّ أعتقد أن لنا عهدًا نأخذه على أنفسنا وهو أنه مهما كانت مهنتنا لن نغوص فيها بداعي السعي وراء الشهرة والثروة إلى حد هجر كل نشاط ديني بل سنضحي ببعض الربح لتكريس أوقات للثقافة الدينية والعمل الروحي. فأين نحن من هذا العهد؟
د – التزام في الزواج: حتى الآن كان زواج أعضاء الحركة في معظم الأحيان يضعف العمل الحركي أو يخمده. كان الزواج يعتبر وكأنه مبرر ليضع الإنسان نفسه على هامش الحركة: "قد تزوجت ولذلك لا أستطيع أن أجيء". والمأساة قائمة خاصة عند زواج الحركيّات وذلك لعدة عوامل أهمها أن الفتاة في مجتمعنا لم تحصل بعد على كيان مستقل ولذلك فهي تنتقل من تبعية منزل والديها إلى تبعية الزوج الذي كثيرًا ما يكون غريبًا عن التفكير الحركي وأحيانًا عن الكنيسة الأرثوذكسية نفسها، فتنقطع الصلات التي كانت تجمع الفتاة ببيئتها الحركية وتدخل في بيئة أخرى تشكّل أمور الروح آخر اهتماماتها. ربما حاولت الفتاة لأول وهلة أن تقاوم ولكن سرعان ما تنهار هذه المقاومة فتذوب شخصيتها في شخصية زوجها وفي البيئة الجديدة التي دخلت إليها وتخمد الشعلة التي كانت تلتهب في نفسها في رتابة الحياة "العالمية" واهتماماتها الوضيعة... اعتقد أن التزم الحركي يفرض عليه أن لا يقرر الزواج بغض النظر عن عضويته الحركية ومقتضياتها. أعتقد أن الزواج يجب أن لا يضعف الالتزام الحركي. ربما اتخذ هذا الالتزام بعد الزواج أشكالاً أخرى غير الأشكال التي يتخذها عند العازبين، هذه قضية يجب أن تُبحث وأن يبحثها على ما أظن المتزوجون والمتزوجات من الحركيين أذا قرروا أن يبقوا مساهمين في العمل الحركي. ولكن الزواج لا يمكن أن يكون بشكل من الأشكال على ما أعتقد حدًا للإشتراك الفعلي في الحركة. مصلحة الحركة تقتضي ذلك ومصلحة الزواج أيضًا لأن الزواج لا يمكن أن يكون ناجحًا روحيًا وإنسانيًا بكل معنى الكلمة إن لم ينفتح إلى ما هو أوسع منه. هناك بالطبع أمر مثالي وهو أن يتحد بالزواج كائنان ملتزمان كلاهما في هدف واحد فيصبح زواجهما واسطة لمضاعفة نشاطهما الحركي لا لإخماده، ومن جهة أخرى يشدد التزامهما الحركي المشترك اتحادهما الزوجي. إن العائلات الحركية المجاهدة – التي تلعب دورًا هامًا في النهضة الروحية في العالم المسيجي الحديث – لا تزال بالنسبة لحركتنا حلمًا ننتظر تحقيقه. ولكن مهما كان الأمر أعتقد أنه يتوجب على الحركي أن يطرح على نفسه أمام الرب يعض الأسئلة قبل أن يلتزم في زواج، أو بالأحرى أن يكون مفهومه للزواج غير مستقل عن التزامه الحركي. وأظن أن من حاجاتنا الملحة أن تقوّي فتياتنا شخصيتهنّ بالحياة الروحية العميقة وبالحصول على ثقافة حقة وبالالتزام الحركي الصميم وبممارسة المسؤوليات المختلفة، ليتحررن من التبعية فيحافظن على مُثُلهنّ مهما تبدلت الظروف.
هـ- التزام في العمل الاجتماعي: التزام الحركي في مستقبله يعني أيضًا تحسسه لمشاكل البشر وآلامهم وآمالهم. لا يمكن للحركي أن يعيش في برج عاجي، لأن المسيحية محبة والمحبة انفتاح ومشاركة ولأن إله المسيحيين ليس إلهًا قابعًا في سمائه في سكون أبدي ولكنه إله إنحدر إلى البشر واتخذ طينتهم ليشاركهم حياتهم وآلامهم ودموعهم. لايمكن للحركي أن يقصر علاقاته على البيئة الحركية لأن الحركة لم توجد لتكون كيانًا مكتفيًا بذاته مغلقًا وإنما وجدت لتكون، حسب قول الرب، كالخميرة في وسط العجين. الحركي في الوسط، وسط هموم البشر ومشاكلهم، وذلك بداعي إنسانيته أولاً وكونه مساهمًا في وضع أجتماعي معين être-en-situation ومن جهة أخرى بداعي محبته التي تجعله يشعر مع الجميع: "من يضعف ولا أضعف أنا، من يعثر ولا ألتهب أنا؟". والحركي لا يمكنه أن يترك العالم وشأنه، ذلك العالم الذي من أجله مات سيده، بل هو مدعو إلى الجهاد من أجل عالم أفضل، من أجل الاستقامة والعدل والأخاء بين البشر. إنه يعلم أن ملكوت الله ليس من هذا العالم ولكنه يعلم أيضًا أنه يبدأ في هذا العالم لأن بذاره قد ألقيت في التاريخ بالمسيح المتجسد: "ملكوت الله في داخلكم"، وأن هذا الملكوت سيكون لا ما وراء العالم بل تجليًا للعالم. الحركي لا يستطيع أن يغسل يديه إذا رأى الشر سائدًا في العلاقات بين البشر وأن يقول: "أنا بريء منه"، فكلنا مسؤولون والصمت يمكن أن يكون اشتراكًا في الجرم. هذا ما يطرح مسألة موقف المسيحي من السياسة وهو موضوع إحدى المحاضرات ولذا أكتفي بالقول بأن قضية الالتزام السياسي لا يمكن أن يعالجها الحركي بالاستقلال عن ولائه للمسيح.
وعلى الصعيد الاجتماعي أيضًا مسألة ذات شأن لا يمكن أن نتغاضى عنها، ألا وهي قضية المال وكيفية استعمالنا له متى صار لنا مال خاص نتصرف به كما نشاء. إذا اكتفينا بالنظر إلى القضية من منظار واحد، منظار محبة الآخرين، يُطرح علينا سؤال خطير وهو: إلى أي حد يجوز لنا – إذا أصبحنا ذوي مال- أن ننعم بخيرات الأرض ورخاء العيش طالما الكثيرون حولنا تعوزهم الضروريات؟ إذا فكرنا في هذا الأمر فكرًا ملتزمًا حقًا لا بد أن تدوي في آذاننا كلمات الإنجيل: "من له ثوبان فليعط ثوبًا لمن ليس له"، وتعاليم آباء الكنيسة الصريحة ومنهم باسيليوس الكبير القائل بجرأة ربما خدشت كثيرًا من الآذان "الست سارقًا أنت الذي تعتبر ملكًا لك ما تسلمته فقط لتوزعه على الآخرين؟ إن هذا الخبز الذي تحتفظ به احتياطًا خبز الجائعين، وهذه الثياب التي تقفل عليها هي ثياب العراة، وهذه الأحذية التي تعرّضها للعفن هي أحذية الحفاة، وهذا المال الذي الذي تكدسه هو مال الفقراء". ألا يُفرض علينا أن نعيد النظر في موقفنا من المال واستخدامه وفي مفهومنا للملكية ولو قادنا ذلك إلى زعزعة كثير من المفاهيم التي اعتدنا التسليم بها كأنها شرعية بديهيًا لا مجال لمناقشتها؟
اخوتي، حتى الآن كان أعضاء الحركة عندما يتجاوزون سن المراهقة، ينقسمون اجمالاً إلى فئتين: منهم فئة - قليلة للغاية - تلتزم كليًا في خدمة الكنيسة فتدخل الرهبنة والكهنوت وتشعر أنها هكذا حققت تمامًا دعوتها الحركية، وفئة أخرى - وهي الأكثرية الساحقة - يترك أفرادها الحركة فعلاً ولا يبقى لهم - في أحسن الأحوال - من صفتهم الحركية السابقة سوى صداقة بعيدة للحركة وحنين عاطفي إليها. فهل يا ترى بأتي اليوم الذي نجد فيه إقبالاً متزايدًا على الرهبنة والكهنوت وإلى جانب ذلك نرى الحركيين البالغين الذين دخلوا معترك حياة العالم بالمهنة أو الزواج يجددون التزامهم في حركتهم ومن خلاله التزامهم في السعي الحثيث وراء ملكوت الله؟ إنني أعلم جيدًا إن فكرة كهذه، فكرة التزام صميمي وسط خضم الحياة، صعبة القبول. ولكن تذكروا أن وضع المسيحي صعب من الأساس لأن كل تلميذ ليسوع "هو في العالم ولكنه ليس من العالم". إنه من الأرض وفي الأرض ولكنه في آن واحد مواطن للملكوت ومسؤول أن يُدخل في كثافة العالم شيئًا من ضياء الملكوت، ولذا فهو مجذوب من كلا الطرفين، يعيش في توتّر وتمزّق، مصلوبًا كمسيحه، معلّقًا مثله بين السماء والأرض إلى أن تضم السماء الأرض إليها نهائيًا في عناق أبدي ويصبح الله الكل في الكل في أرض جديدة متجلية يسكن فيها البر.
هذا الالتزام الصميم مدى الحياة، الحركيون كلهم مدعوون إلى تحقيقه، رهبانًا أصبحوا أو كهنة أو أصحاب مهن وعائلات. فالالتزام لا مناص منه لأنه لا مناص من القداسة، ولكن كيف يمكن أن يتم إلتزام كهذا بالنسبة لأناس يعيشون وسط هموم الدهر ومشاكله ومغرياته وتجاربه؟ ليست غاية حديثي هذا أن أقدم حلولاً سريعة رخيصة لهذه القضية العويصة للغاية. إنما أكون قد بلغت مأربي إن كنت تمكنت من أن أطرح المشكلة على أذهانكم وأن أثير فيكم تساؤلاً مثمرًا وقلقًا خصبًا خلاقًا.
ما يمكنني أن أقوله هو أن هذا الالتزام في المستقبل على الصعيد الحركي والكنسي والمهني والعائلي والاجتماعي يهيّئه ويضمنه التزامكم الحركي في الوقت الحاضر. فبقدر ما ندخل منذ الآن في صميم الروح الحركية والدعوة الحركية - التي إن هي إلا دعوة إلى الحياة المسيحية بملئها – وبقدر ما نجاهد لتحقيق هذه الدعوة في ميادين الحياة كلها، بقدر ذلك نوطد دعوتنا ونؤمّن لها شروط الدوام والاستمرار وإعطاء الثمار اليانعة. إن فكّرنا مليًا منذ الآن واقتنعنا وجدانيًا بأن دخولنا في الحركة يعني التزامًا نهائيًا في العمل من أجل الملكوت، فمستقبلنا كله، ذاك المستقبل الذي نبنيه منذ الآن، سيتكون ويتجه بموجب هذا الالتزام. إن اعتدنا منذ الآن أن لا نفصل مستقبلنا عن مستقبل الحركة وفي النهاية عن مستقبل الكنيسة فلن ينفصلا فيما بعد.
اخوتي، أود في نهاية حديثي هذا أن أروي لكم حادثة صغيرة انطبعت عميقًا في نفسي. منذ أكثر من عشر سنين مرّ بنا الأرشمندريت ليف جيلله الذي لا بد أن تكونوا سمعتم به وقرأتم له. وأذكر أنني رافقته مع بعض الاخوة في زيارة إلى أحد أصدقاء الحركة في هذه المدينة. وفي معرض الحديث سأل هذا الصديق الأب ليف جيلله قائلاً: "ما رأيكم بالحركة"؟ فأجاب: "إنها ممتازة ومباركة من الله، ولكنني أتساءل أحيانًا عن مصيرها عندما ينهي هؤلاء الشبان دروسهم ويدخلون الحياة المهنية". هذا التساؤل لا يزال يراود ذهني ويقلقني لأن الوقائع أثبتت خطورته. نعم لقد استمرت الحركة منذ ذلك التاريخ ولكن وجوه أعضائها في تبدّل مستمر. فهل يكفي أن تستمر الحركة إن لم يستمر أعضاؤها في الولاء لها؟ إن لم يلتزموا في مستقبلهم طبقًا لمبادئها؟ وهل حُكم على الحركة بأن تتعاقب عليها أجيال من الشباب ينقطع معظمهم عن كل مساهمة فعلية بها وبجهادها بعد أن يدخلوا الحياة العملية، كأزهار تتساقط قبل أن تعطي أثمارًا؟ إن السؤال الذي طرحه الأب جيلله على نفسه أطرحه عليكم يا اخوة. إن الجواب عندكم وأنتم عنه مسؤولون.
هذا النص هو الجزء الأكبر من حديث أُلقي في المؤتمر
الطلابي الرابع لحركة الشبيبة الأرثوذكسية (صيف 1960