أولاً: تحديد الشركة:
وحدة في تميّز (الروح الواحد المستقر على كل واحد بشكل ألسنة نارية) لا ينعزل فيها الفرد عن الجماعة ليتابع أهدافه الخاصة بغض النظر عنها أو باستغلالها (فردية أم فردانية) كما أنه لا ينصهر ويذوب فيها فاقدًا حريته ومتحولاً إلى دولاب في آلة (جماعية)، مما يحول دون أي اتصال صميمي بينه وبين الآخرين. في الشركة، الحياة المشتركة تنمي الشخص وتؤكده في فرادته وبالمقابل فنموّ الشخص يغني الجماعة ويعمّق الحياة المشتركة.
ثانيًا: مقومات الشركة على الصعيد النفسي:
العطاء: من صفات الراشد الذي يُفرض أنه تجاوز استيلائية الطفل فأصبح قادرًا أن يعطي بقدر ما يأخذ أو أكثر مما يأخذ.
تقبّل الآخر: العطاء مزيّف إن لم يكن مقرونًا باحترام لكيان الآخر، باعتراف بفرادته. هذا يفترض بأن يتقبل المرء الآخر، على أنه آخر أي متميز عنه. هذا مزعج جدًا بالنسبة لهذه النزعة (الطفلية في أساسها) إلى اعتبار الذات محورًا للكون وكل شيء على أنه امتداد للذات. هذا يفترض أن لا نكتفي بالعطاء بل أن نقبل بأن نأخذ من الآخر (نأخذ منه آراء، ومساعدة، ومعارضة ونقدًا…). لا معطائية حقة بدون هذا التقبل للآخر، كما بيّن دوكونشي مثلاً
ثالثًا: العوائق النفسية لحياة الشركة في الجماعات الحركية الأساسية (فرق، لجان….)
ما يعيق الشركة هو ما يعيق أحد مقوماتها أو كليهما معًا، أي ما يعيق العطاء أو تقبّل الآخر.
1- العوائق النفسية التي تحول دون العطاء.
أ- الفردية (“كل أحد لنفسه”): تغذيها عقلية البيئة (فردية اللبناني: أنظر مثلاً السائق اللبناني)، التربية المدرسية التقليدية (علاقة عمودية بين كل طالب على حدة والمدرّس، لا علاقة أفقية بين الطلاب أنفسهم إلا على هامش العمل المدرسي). جماعاتنا الحركية كثيرًا ما تقلد بشكل لا شعوري هذا النموذج المدرسي التقليدي.
ب- السلبية: العطاء يتطلب أن يكون المرء فاعلاً، لا متلقّيًا فقط، أن يأخذ المبادرة لا أن يكتفي بالإنقياد، أن يمارس حريته بما يقتضيه ذلك من مجازفة عوض أن يحتمي وراء قرارات الآخرين. هذا يتطلب ثقة بالنفس وإحساسًا بالمسؤولية ورغبة في الخلق والإبتكار. التربية العائلية كثيرًا ما تشكل عقبة في سبيل اكتساب هذه الصفات التي هي ميزات النضج النفسي. العائلة اللبنانية مثلاً كثيرًا ما هي حامية بإفراط للولد أو متسلطة أو الإثنين معًا، مما يؤول إلى إعاقة الفرد عن اكتساب الثقة بالنفس والشعور بالمسؤولية والرغبة في الابتكار، كما أنه يؤول إلى تخليد مركزية الأنا الطفلية عنده (هذا ما يعيدنا إلى الفردية). في جماعاتنا الحركية كثيرًا ما نقلد لا شعوريًا النموذج العائلي المذكور، مما يؤول إلى تسلط من قبل القائد أو إلى نزعة عنده بأن يعمل كل شيء بنفسه، يقابل ذلك عند الأعضاء نزعة إلى الإنقياد السلبي للقادة، لممثلي الوالدين. أضف إلى ذلك شعور بعض الأعضاء بأن الجماعة – أو قائدها، أو بعض أفرادها- واقفة لهم بالمرصاد لتحكم عليهم وتقيّمهم (ننسى في كثير من الأحيان أن موضوع حكمنا وتقييمنا ينبغي أن يكون التصرفات لا الأشخاص، وأنه يجب أن لا نصنف الأشخاص) أو أنها متهجمة عليهم أو نابذة لهم، مما يحكم عليهم أيضًا بالسلبية.
تلك التبعية التي تعيق حياة الشركة لأنها تجعل الفرد يأخذ ولا يعطي، هي بلا شك مصدر شعور بالأمان بالنسبة لهذا الفرد (تحميه من مجازفة المسؤولية) ولكنها تعبير عن إستقالة للشخصية يصعب احتمالها، لذا تولد كردّ فعل عدوانية قد تبقى مكبوتة إلى حين تنفجر بشكل مدمّر مما يقطع المجال – على الأقل مؤقتًا – أمام كل حوار مع الجماعة ويقود إلى تفسخها أو إنقطاع البعض عنها. ويجدر هنا الذكر بأن انقطاع الحوار في الجماعة قد يجعل الحوار صعبًا مع الله نفسه.
ج- الموقف النقدي الهدّام
هناك شكل خاص من أشكال السلبية، قد يكون ردّ فعل لها، كما رأينا، ألا وهو الموقف النقدي الهدّام، موقف لا يتوخى من وراء نقده، أكان ذلك بشكل واع أو لا واع، إلا نقض ما هو قائم، لا اصلاحه أو تجديده أو حتى تخطيه إلى ما هو أفضل. قد يعتقد هو عكس ذلك، ولكن نوعية سلوكه تشير إلى موقفه العميق: فإنه ينقد ويهاجم، ولكنه لا يقترح بديلاً لما ينقضه، وإن حدث واقترح هذا البديل، فإنه يشير إليه بشكل عام، مجرد، مبهم، ولكنه لا يكلف نفسه مشقة إيضاح مشاريعه والتخطيط لأجل تحقيقها، كما أنه لا يهتم بالالتزام الدؤوب، المواظب، لهذا التحقيق بما يقتضيه من جهاد يومي واهتمام بصغائر الأمور. من هذه الصورة (التي هي نموذجية ليس إلاّ) تظهر السلبية الكامنة وراء هذا الموقف الملتزم بالظاهر: ذلك أن النقد هنا أصبح ذريعة للتهرب من المساهمة في البناء، بما تتطلب تلك المساهمة من احتكاك مزعج بالواقع ومقاومته وحدوده، وبعبارة أخرى أصبح ذريعة للتهرب من العطاء الحقيقي غير الكلامي (رغم أن النقد قد يكون مركزًا على “كلامية” الآخرين). هناك وجه آخر للشبه بين هذا الموقف وموقف التبعية السلبية، ألا وهو أن كلا من التابع والناقد الهدام أسير الوضع الراهن، ولكن كلا منهما على طريقته: فالأول أسيره لأنه لا يفكر إلا بتقليده والثاني أسيره لأنه لا يفكر إلا بمخالفته، ولكن هذا أو ذاك عاجز عن تخطيه لإبتكار شيء جديد.
هذا الموقف قد يحدث كما قلنا كردة فعل للتبعية إذا فرضتها الجماعة الحركية بنمط عيشها أو أملتها على الإنسان تربية خانقة. أما معالجته فلا تكون بمحاولة اسكات الناقد ورده إلى التبعية الصامتة أو المقلدة، ولا بالتملق الديماغوجي له أو الاستسلام أمامه، بل بصمود متفهم يتقبل العدوانية دون أن يرضخ لها أو يجيب عليها بالمثل، فيساعد صاحبها على أن يتخطاها هو أيضًا.
2- العوائق النفسية التي تحول دون تقبل الآخر:
أ- عدم تفهم الآخر: هذا التفهم يتطلب لا عملية فكرية وحسب، بل أعمق من ذلك، ما يسميه الأخصائيون النفسيون empathie أو “مشاركة وجدانية”، وهي حسب تحديد “قاموس التربية وعلم النفس التربوي”: “حالة عقلية يتلبس فيها المرء حالة عقلية لشخص آخر فيحس ويشعر بنفس احساساته ومشاعره، كما لو كان هو ذلك الشخص بالذات”. عقبات عديدة تنتصب في طريق هذا التفهم، منها:
* الانهماك بالذات: من كان مرتبكًا بمشاكله ومشاريعه ومفاهيمه ومشاعره لا يسعه أن ينتبه إلى وجود الآخر (الآخر بالنسبة إليه غير موجود بالحقيقة) أو إذا انتبه إلى وجوده، فإنه ينتبه إليه من خلال اهتماماته هو، فلا يرى فيه إلا ما يخدم مشاريعه الخاصة أو يعارضها، لا ينظر إليه إلا نظرة جزئية، “وظائفية” إذا صح التعبير (كما ننظر إلى هذه الطاولة بالنسبة إلى حاجاتنا: هل هي تتلاءم معها أو لا). قد يكون هذا الانهماك بالذات موقفًا لا شعوريًا إلى حد بعيد خلفته في الشخصية مركزية الأنا التي يتميز بها الطفل. كلّ ما يساعد على النضج النفسي يساعد بالتالي على تخطي هذا الموقف. وكذلك النمو في الحياة الروحية: بعض القديسين (Starets) كانوا ينفذون إلى أعماق محدثيهم فيدركون ما لم يقله هؤلاء عن أنفسهم، لأنهم بانفتاحهم الكلي لله تخطوا كل انهماك بأنفسهم وأصبحوا بالتالي قادرين على مشاركة وجدانية صميمية للآخر.
**الإسقاط: (Projection) وهو عملية اكتشفها التحليل النفسي. يحددها معجم “مصطلحات علم النفس” (تأليف منير وهيبة الخازن) على الوجه الآتي: “ميل الشخص إلى أن يعزو إلى العالم الخارجي العمليات النفسية المكبوتة، جهلاً منه بأنها خاصة به أو تهربًا من الاعتراف بها، أو تخفيفًا لما يشعر به من الإدانة الذاتية… والإسقاط في هذه الحالة من أساليب التبرير والدفاع عن الذات” (ص 109). فقد يكون في الإنسان عدوانية مكبوتة فيقذفها (يسقطها) في الآخرين ويعتقد أنهم يبادرونه بالعداء والكراهية، وقد يكون التهاون أو الكسل أو القرف أو الشك قد تسرب إلى نفسه من حيث لا يدري، فيلقي ذلك على من حوله فلا يرى فيهم إلا إهمالاً أو لا مبالاة أو ضعف إيمان، وقد يكون ميالاً من حيث لا يدري إلى ترك الجماعة الحركية، فيعزو إلى تلك الجماعة أو إلى بعض أفرادها إرادة التخلي عنه أو التخلص منه. وقد نلقي لا شعوريًا في الآخرين ليس الموقف النفسي المكبوت فينا إنما الموقف المقابل والمكمّل له. فمثلاً إذا كان أحدنا يعاني من شعور بالنقص لا يشاء الاعتراف به، فقد ينسب خطأ إلى الآخرين موقف احتقار أو إذلال أو إهمال له أو محاولة التسلط عليه. كل ذلك يقود إلى تأويل تصرفات الآخرين وأقوالهم على غير حقيقتها، وإلى عزل الفرد عن الجماعة وتبرير تقاعسه عن السير في طريق إصلاح نفسه وتجديدها، بالقاء كل تبعة على الجماعة أو على بعض قادتها أو أفرادها. السبيل الوحيد إلى تجنب مساوئ هذا الإسقاط هو أن تكون للفرد شجاعة مجابهة نفسه والتعرف عليها على حقيقتها. المهم أن لا نهرب من ذواتنا، أن نعترف صميميًا، وجدانيًا (وليس بمجرد العقل والكلام) بما فينا من عدوانية ولا مبالاة وكسل وشك وخوف. عند ذاك إذا قبلنا أنفسنا، على حد تعبير الاخصائيين النفسيين، أي إذا تعرفنا على حقيقة كياننا بما فيه من متناقضات، من أضواء وظلال، عند ذاك يمكننا أن ندرك الآخرين على حقيقتهم وأن نراهم كما هم (لا كما نتخيلهم) وأن لا نقسو عليهم بأحكامنا وأن نتعاون وإياهم على تخطي ما فيهم وفينا من نقص وضعف، كما قال أحدهم: “إن قبول الذات وتقبل الآخر هما وجها كل علاقة…”.
ب- الاحتماء من الآخر:
ومن أخطر العقبات التي تحول دون تقبل الآخر، الخوف الذي نحس به، بشكل واع أو غير واع، تجاهه، والذي يدفعنا إلى الاحتماء منه بشتى الوسائل. ما هي مصادر هذا الخوف؟ إنه نابع من كون الآخر يشكل بالفعل خطرًا علينا. إنه يدعونا بمجرد وجوده إلى إعادة النظر في كثير من آرائنا ومواقفنا. ذلك أننا نرى عنده آراء ومواقف مختلفة فلا يمكننا، والحالة هذه، أن ننجو من هذا التساؤل المقلق: هل نحن على حق فيما نقفه ونرتئيه؟ ثم إن لكل منا صورة رسمها عن نفسه وارتاح إليها، وإذا به يرى الآخر يعكس له من خلال أقواله وتصرفاته، صورة تختلف عن الصورة التي ألفها. أعتقد نفسي مخلصًا وإذا بي أرى الآخر يشك في كامل إخلاصي. أعتقد نفسي محبًا وإذا بالآخر يشكو من نقص في محبتي. وإذا بتلك الصورة التي رسمتها عن نفسي تبدو لي قناعًا تعوزه الأصالة وإذا بي أتساءل عن هويتي بعد سقوط القناع الذي كنت أطمئن إليه. مجمل الكلام أن الآخر يضطرني إلى إعادة النظر في ذاتي، وهذا أمر مزعج لأنني لا أزال أحمل، مستترة في باطني، تلك النـزعة النابعة من أعماق طفولتي، النـزعة إلى اعتبار نفسي محور الكون، أو بعبارة أخرى النـزعة إلى تأليه ذاتي. الآخر يذكرني أنني لست إلهًا، وهذا ما يصعب علي احتماله. لذا قال سارتر في مسرحيته الشهيرة “الباب المغلق”: “الجحيم هو الآخرون”. (وقد أجاب كبريال مرسيل على ذلك: “الفردوس هو الآخرون”، مما لا يشكل بالواقع نقضًا بل تكملة لما قاله سارتر، ذلك إن الدخول في جحيم التخلي عن محورية الأنا ضروري لأقبل الآخر ومن خلاله اقبل الله نفسه).
أمام هذا الخطر الذي يشكّله الآخر، يدفعني خوفي إلى محاولة الاحتماء منه بوسائل شتى اذكر منها على سبيل المثال:
* رفض الإصغاء إلى الآخر: فقد يحاول المرء الاحتماء من الآخر برفضه الإصغاء إلى ما يبديه من مواقف وآراء كي لا يضطر إلى إعادة النظر في مواقفه وآرائه الخاصة. قد يستمع إليها دون أن يكلف نفسه مشقة تخطي آرائه الذاتية ليلج إلى جوهر فكر الآخر.
هكذا فكثيرًا ما تتحول المناقشات (في الحركة وغيرها) إلى محاورات صُمّ لأن كل واحد من المشتركين بها منهمك بتأكيد رأيه وموقفه والدفاع عنه ومعارضة كل رأي مختلف إلى حد أنه غير قادر على متابعة ما يقوله الآخر متابعة حقيقية وبالتالي على إدراك وجه الحق فيه. فقد لا يلتقط منه سوى شزرات. أو أنه لا يرى فيه سوى نقاط ضعف أو غلوّ أو غموض في التعبير فيتذرع بذلك لتبرير رفضه المسبق له. أو أنه يحوّره أو يبسّطه لا شعوريًا ليسهّل على نفسه مهمة معارضته. من أجل تجنب كل ذلك قدر الإمكان، يستحسن أن يدير المناقشة رئيس جلسة لا يكتفي بإعطاء الكلام لكل بدوره وافساح المجال أمامه ليعبر تعبيرًا كافيًا عن رأيه، بل أنه بالإضافة إلى ذلك يجمل من وقت إلى آخر ما قاله كل من المشتركين (سائلاً إياهم أن يؤكدوا له إذا أحسن فهمهم) ويشير إلى نواحي الاتفاق والاختلاف ويبيّن مدى تقدم النقاش أو تعثره ويلفت النظر إلى ما قد يكون أهمل من الآراء المعروضة، فيكون هكذا خادم الحوار في الجماعة، وبالتالي خادم الشركة.
** التهجم على الآخر: على طريقة “اتغداه قبل أن يتعشاني”.
*** ستار المجاملة: وقد يتخذ الاحتماء من الآخر وجهًا آخر أكثر تخفيًا إلا وهو محاولة اخفاء الصراع تحت ستار المجاملة. إن الصراع أمر لا بد منه في حياة الجماعات البشرية أيًا كانت، بدونه لا يمكن للفرد أن يؤكد ذاته كشخصية متميزة من جهة وأن يتخطى ذاته ومحدوديتها من جهة أخرى، ولولاه لحكم على الجماعات برتابة وركود قتالين. الصراع ضروري ولكنه بآن مزعج لأنه يضطرنا لا إلى مواجهة عدوانية الغير وحسب بل إلى الاعتراف بوجود العدوانية فينا أيضًا (والعدوانية بحد ذاتها أمر طبيعي ولا تصبح مدمرة إلا إذا تجاوزت الحدود، ولكن مجابهتها دومًا مقلقة بالنظر للخطر الذي تحمله، خطر الموت). لذا فقد نحاول أن ننفي وجود الصراع باسدال ستار المجاملة عليه. فنكتفي بعلاقات مهذبة سطحية تقلّد التفاهم ولكنها بالواقع تخفي عدوانية مكبوتة تنفجر من وقت إلى آخر. ذلك إننا حاولنا أن نتنكر للواقع وأن نقنع أنفسنا بأننا والآخرون جماعة “طيبون” لنهرب من ضرورة المجابهة. وقد نحاول أن نبرر هذا الهرب بالمحبة المسيحية، مع أن تلك المحبة في أصالتها ليست في أن نتجاهل الصراع (هذا موقف سحري) بل أن نتعهده في خط بنّاء ونحاول تخطيه. لم يقل السيد: إذا كان لك شيء على أخيك، فتصرف كأن هذا الخلاف غير موجود بل قال: اذهب وعاتبه، وفي العتاب حدّة تلطفها المحبة. لا لقاء حقيقي بالآخر إلا من خلال الاعتراف بما يفصلنا عنه، إلا من خلال قبول واقع الصراع الذي هو حتمًا قائم بين وجدان ووجدان حتى في العلاقات الأكثر صميمية بين الناس كالحب والصداقة والعلاقات العائلية. لا تخطٍّ للصراع إلا من خلال قبوله، الذي يعني، في آخر المطاف، قبول الآخر كآخر، والخروج من قوقعة الاحتماء منه حتى إذا تذرع هذا الاحتماء بالمحبة نفسها.
لكن كيف السبيل إلى الخروج من هذه القوقعة؟
هنا أود أن أتوقف عند الدور الذي يمكن أن تلعبه الجماعة في مساعدة كل من أفرادها على تخطي خوفه من الآخر. تخطي الخوف هو السبيل الوحيد إلى المحبة كما رأينا ولكن المحبة من جهتها تجعل هذا التخطي ممكنًا. المحبة هي ألف وياء كل شيء. (“لا خوف في المحبة لأن المحبة تطرح الخوف خارجًا. من كان خائفًا فلم يكتمل بعد في المحبة”). إذا أحس كل فرد أنه مقبول في الجماعة، فهذا ما يعطيه قوة الخروج من قوقعته والتخلي عن أقنعته ليلاقي الآخر من خلال الصراع. ولكن كيف يمكن للجماعة أن تُشعر الفرد بأنه مقبول بفرادته؟ هذا يفترض عدة أشياء. منها مثلاً أن تتعرف الجماعة على شخصية كل فرد من أفرادها. هذا يعني أن لا تكتفي الجماعة بمعلومات خارجية، سطحية، عن هؤلاء الأفراد، معلومات لا تتعدى العمر والمستوى الدراسي والوضع العائلي والمهني والمسؤولية الحركية، كل ما من شأنه أن يشكل بطاقة تلصق على الإنسان ولكنه لا يعطي صورة حقيقية عن شخصه الفريد. لذا يستحسن أن يقدم كل عضو نفسه بشكل واف وأن يصغي الآخرون بإنتباه إلى ما يقوله عن أهم نشاطاته وأهتماماته (في الحياة العادية وليس في الحركة وحسب)، وعن الدوافع والآمال التي دفعته إلى الإنضمام إلى تلك الجماعة. هذا النوع من التعارف ممكن إذا كانت الجماعة ذات حجم صغير أو متوسط، ويجب أن يُعتبر لا أمرًا شكليًا ينبغي الفراغ منه بأسرع ما يمكن بل من المقومات الأساسية لتحقيق شركة حقيقة هي أكبر ضمانة لنجاح الجماعة وما تسعى إليه. هذا الاهتمام بالتعرف على كل عضو بفرادته يجب أن يمتد إلى مشاركة فيما يحدث له في حياته الشخصية من فرح وحزن ومرض ونجاح وتغيير، هذه المشاركة تعاش إلى حد بعيد في جماعاتنا الحركية ولكن ينبغي أن نحافظ عليها وأن نقويها. قبول العضو في الجماعة يقتضي أيضًا أن لا تقسو الجماعة عليه بأحكامها كما هي الحال في كثير من الأحوال. هذا يعني أن تنبّهه إلى أخطائه وتعاتبه عليها إذا اقتضى الأمر، دون أن تحكم على نواياه ودون أن تسمح لنفسها بتصنيفه في فئة من فئات العيوب المعروفة (فلان كسول، لأنه تكاسل في هذا الظرف أو ذاك، فلان أناني، فلان كذاب، أو متكبر إلى ما هناك…) بل أن نقف منه موقف الرجاء، أن نعطيه رصيدًا” على حد تعبير كبريال مرسيل، أن تجعله يشعر بأنه أفضل مما صدر عنه من هفوات. فالإنسان يحيا وينهض ويتجدد بفعل هذا الرجاء، رجاء الله فيه ورجاء الاخوة الذي يعبّر عن رجاء الله وقد يُبعث بفعل هذا الرجاء (قصة جان فالجان ومذكرات هنري شاريير) وقد يتحطم ويغرق لأن أحدًا لم يثق به.
قبول الجماعة للعضو (أكان عضوًا عاديًا أو كان يشغل مركزًا قياديًا) يعني أن لا نكتفي بأن نقول له أنه أخطأ (وأن نريح ضمائرنا على هذا المنوال مقتنعين بأننا شهدنا للحق، غير واعين لما قد يتسمر وراء تلك الشهادة من تشفٍّ ورضى فريسي عن ذواتنا) بل أن نساعده على تخطي هذا الخطأ بتفهّمنا للظروف الداخلية والخارجية التي أدت إلى ارتكابه. قبول الجماعة للعضو تقتضي أن لا يفقد عضو فيها اعتباره ويُسكَت ويُنبَذ إذا فشل في مهمة أسندت إليه، بل أن تدعمه الجماعة في هذا الوضع الحرج وتتفهم الهدف الصالح الذي كان يرمي إليه في عمله وتساعده على إصلاح الأساليب التي استعملها لبلوغ هذا الهدف. قبول الجماعة للعضو يعني أيضًا ألا تكتفي بالإشارة إلى أخطائه بل أن تلاحظ ما يقدمه من مساهمة إيجابية وما ينجح به من أعمال وأن تغتبط بذلك ولا تتورع عن التعبير له عن اغتباطها هذا (غير مستحسن مسيحيًا أن يتسارع الإنسان إلى نيل الاكرام من الآخرين، ولكن المحبة تقتضي أن يكون حريصًا على أن يكرم سواه: “بادروا بعضكم بعضًا بالإكرام” يوصي الرسول). مجمل الكلام أن قبول الجماعة لكل من أفرادها – وقد عدّدنا بعض مظاهره- عامل بالغ الفعالية في مساعدة كل من هؤلاء على تخطي خوفه من الآخر، وبالتالي فهو عنصر هام جدًا من عناصر التربية الفعلية على المحبة. ومن فوائده أنه يساعد على تجنب العائق الثالث الذي يحول دون تقبل الآخر، ألا وهو عدم احترام استقلاله.
3- عدم احترام استقلال الآخر:
تقبّل الآخر يعني أن اعتبره- لا بشكل نظري وحسب بل بشكل وجداني- ذاتاً وليس شيئاً، أي انه غاية بحد ذاته وليس وسيلة لتنفيذ مآربي، مهما كانت شريفة، وانه مصدر فكر (“يفكر من رأسه” كما تقول العبارة الشعبية) وليس مجرد صدى لأفكاري، وانه مساهم معي في العمل الواحد لا مجرد منفّذ لما أخططه، انه فاعل وليس فقط منفعلاً، منتج وليس فقط متقبلاً ومستهلكاً. هذا الموقف ينفي كل تسلط، أيا كان مبرره، ولو كان هذا المبرر خلاص الآخر. فإننا إذا استعبدنا آخر لنخلصه لم نخلص شخصاً بل شيئاً. لذا رفض المسيح تجربة التسلط التي قدمها الشيطان له في البرية وأراد أن تكون مملكته مملكة أشخاص أحرار، هذا ما لامه عليه المفتش الأكبر في رواية دوستويفسكي الشهيرة “الأخوة كرامازوف”، وما المفتش الأكبر في آخر المطاف سوى رمز لتلك النزعة الكامنة في صميم الإنسان، نزعة التسلط التي كثيراً ما تتخذ لها ذريعةً (حتى في الكنيسة نفسها) خلاص الآخرين وسعادتهم. تلك النزعة متأصلة في أعماق الغريزة، وقد درسها أخصائيو علم النفس الحيواني في جماعات الحيوانات من الطيور إلى القرود، حيث وجدوا أن أفراد الجماعة الحيوانية الواحدة يتنازعون السلطة مستعملين القوة والدهاء فيتوزعون على أساسها المراتب فيما بينهم من المرتبة الأولى (ألفا) التي تعطي صاحبها حق الإعتداء على كل أفراد الجماعة وتقدمهم كلهم في التغذية والتناسل، حتى المرتبة الآخِرة (أوميغا) التي يتلقى صاحبها اعتداء الجميع دون أن يسعه الإعتداء على أحد ويُحكم عليه بشبه إقصاء عن الطعام وعن التناسل. تلك الجذور الغريزية لروح التسلط تفسر لنا كم يصعب تخطيه في جماعاتنا البشرية ولو اجتمعت باسم المسيح، وكم ينبغي السهر لمقاومة الأشكال المختلفة التي يتخذها، ومنها:
1- أن يُحكم على رأي عضو أو موقفه من خلال انطباقه أو عدم انطباقه على ما اعتادت عليه الجماعة أو ما يرتئيه قائدها أو ما تراه كتلة من كتلها، أكانت هذه الكتلة موالية للقيادة أو معارضة، فيُقبَل الرأي لموجب كونه موافقاً لتلك الأفكار المسبَقة أو يرفض إذا كان منافياً لها. هكذا فامتثاليّة الجماعة (conformisme) بمعنى التمسك المتحجر بمواقفها وعوائدها، أو عبادة الشخصية، أو التحزب الكتلوي، كل ذلك يمنع الكثيرين من أعضاء الجماعة من التعبير العفوي عن آرائهم ومشاعرهم ومشاريعهم، وقد يُحكم على بعضهم بالصمت. لذا يُطلب من قائد الجماعة أن لا يكون همه تأكيد رأيه الشخصي (مع أنه عليه أن يبديه ببساطة ويدافع عنه ككل عضو آخر) بقدر ما هو افساح المجال أمام الآراء كلها لتبرز بحرية وتُبحث بصفاء ورحابة صدر وموضوعية بمعزل عن كل تحزب وموقف مسبق.
2- ومن مظاهر التسلط الخفي في الجماعة أن يستأثر أحد أفرادها أو بضعة أفراد بأخذ المبادرات كلها دون أن يكون للآخرين سوى حق إبداء الرأي فيها، وقد يكون هذا الحق نفسه شكلياً لا فعلياً. قد نعتقد أحياناً أننا مضطرون إلى أخذ هذه المبادرات وحدنا لأن غيرنا لا يبدي حراكاً. الا أنه يجدر بنا أن نتساءَل والحالة هذه: هل انتظرنا فعلاً مبادرة هؤلاء وهل أشعرناهم بهذا الإنتظار أم أننا حكمنا عليهم، من حيث لا ندري، بالسلبية من خلال تسرعنا في تقديم الحلول والمشاريع وثقتنا الظاهرة بأننا قادرون أن نجد وحدنا الحل الملائم والمشروع المناسب؟
3- مظهر آخر من مظاهر عدم الاحترام المقصود أو غير المقصود لإستقلال الآخر، هو أن ينظم قائد الجماعة أو بعض أفرادها البارزين حياتها وعملها دون أن يكون لباقي الأفراد سوى الإنقياد لهذا التنظيم. لذا ينبغي أن نتأكد من أن كل عضو من الأعضاء موجود في الجماعة بملء حريته (هل هو راض مثلاً كل الرضى عن وجوده في هذه الفرقة أم أنه كان يرغب في الإنتماء إلى فرقة أخرى؟ هل انضم إلى هذا النشاط الحركي بملء اختياره أم أنه تعرض لضغوط معنوية من قبل قادة أو رفاق؟) كما ينبغي أن يُطلب رأي كل عضو في تنظيم الجماعة من الناحية المادية (مثلاً: مكان الاجتماع وزمانه) وحتى في برنامج عملها (بالطبع ضمن الإطار العام الذي لا بد للجماعة من أن تتقيد به بالنسبة لطبيعتها، كجماعة حركية، كنسية مثلاً).
4- أخيراً فقد يتخذ عدم احترام استقلال الآخرين شكل فرض معنوي لنهج معين دون مراعاة لتنوع الأشخاص وميولهم ومواهبهم من جهة ولضرورة تنوع المهمات وتكاملها من جهة أخرى. فقد يكون رئيس الفرقة أو بضعة من أفرادها البارزين متحمسين مثلاً للعمل الإجتماعي أو للبحث الفكري أو للنشاط التربوي إلى ما هنالك، إلى حد انهم، من حيث لا يشعرون، يعطون لميلهم هذا صفة الإطلاق وللنشاط الذي يفضلون أولوية مطلقة، وقد يفلسفون هذه الأولوية غير واعين للعوامل الذاتية (العائدة لمزاجهم، لتاريخهم، لتربيتهم، لبيئتهم، لتكوينهم الشخصي…) التي ساهمت إلى حد بعيد في تصويرها لهم. وهكذا يحاولون، من حيث لا يدرون، قولبة الآخرين بقالبهم الخاص ودفعهم إلى انتهاج نشاط قد لا يناسب ميلهم أو امكانياتهم، ناسين بأن “الأعضاء متعددة ولكن الجسم واحد، المواهب متعددة لكن الروح واحد”، كما يقول الرسول.
ومن بين الوسائل التي تساعد على مراعاة رأي كل فرد من أفراد الجماعة واستقلاله الذاتي وسيلة يسمّيها الأخصائيون في علم نفس الجماعات “المفعول الإرتجاعي”، feed back، لأنها عبارة عن انعكاس لوضع الجماعة يساعد على تصحيح هذا الوضع، على طريقة مثبتات الحرارة thermostat التي تعكس الوضع الحراري فتؤثر على مصدر الحرارة وتمنعه من رفعها فوق درجة محددة. هذا المفعول الإرتجاعي الذي نحن بصدده يتخذ شكل استمارة أسئلة توزع على الأعضاء من حين إلى حين لإستفتائهم حول انطباعاتهم عن الجلسة الأخيرة. هذه الإستمارة تحوي أسئلة على النمط الآتي:
ما رأيك بالجلسة الأخيرة:
هل كانت: أ- عاطلة- ب- دون المتوسطة- ج- مُرضية د- جيدة هـ- ممتازة
في هذه الجلسة، ما الذي بدا لك:
الأكثر إثارة للاهتمام؟ الأقل إثارة للاهتمام؟
- أثناء هذه الجلسة، هل رغبت بالكلام دون أن يتاح لك ذلك؟
أ- في كثير من الأحيان ب- أحياناً ج- أبداً.
- عندما تدخلت في الحديث، هل كان انطباعك العام أنك كنت:
أ- مسموعاً- ب – مفهوماً- ج – مقبولاً- د – مهمَلاً – هـ – مساء الفهم.- و- مقاضىً.
- تعليقات أخرى.
- (عن كتابAndre Godin: La vie des groupes dans l’Eglise, p73)
يجيب كل عضو على هذه الأسئلة وما شاكلها دون أن يذكر اسمه على ورقة الإجابة، مما يفسح أمام الجميع حرية التعبير عن آرائهم. ويقرأ القائد الأجوبة المغفلة بسرعة وبدون تعليق في بدء الجلسة اللاحقة، مما يمكّن الجماعة كلها من تحسس نوعية الجو الذي يسود فيها ويسمح لكل فرد أن يدرك التفاوت القائم بين مواقفه ومواقف الآخرين. بعد فترة من الزمن تكون الجماعة قد تقدمت فيها في طريق الإندماج والمشاركة، يمكن استبدال الأجوبة الخطية بتخصيص الدقائق العشر الأخيرة من كل اجتماع لمناقشة كل ما قاله وشعر به الأعضاء أثناء الإجتماع المذكور، مع العودة من حين إلى حين إلى أسلوب الأجوبة الخطية خاصة إذا لم يتوصل كل الأعضاء بعد إلى الطمأنينة اللازمة للتعبير الصريح عن مواقفهم.
هذه بعض العوائق التي تحول دون تحقيق حياة الشركة، حاولنا عرضها مع الإشارة إلى ما قد يساعد على تخطّيها. إلا أن هذا البحث يبقى نظرياً وبالتالي قليل الفعالية إذا لم يتبعه وعي وجداني من كل الأفراد لتلك العوامل التي تعيق الحوار والمشاركة ضمن الجماعات البشرية، وبعبارة أخرى إذا لم يشعر الفرد بنوعية مواقفة وردود فعله الراهنة عند اشتراكه في جماعة وما يقابلها من مشاعر وردود فعل عند أعضاء الجماعة الآخرين. هذا الوعي الوجداني الحي للقوى الفاعلة في حياة الجماعة لا يُكتسب على أكمل وجه إلا على أساس تدريب خاص على ما يسمى، في علم النفس الحديث، “بديناميكية الجماعات”. هناك دورات تدريبية عديدة تقام في العالم- وفي إطار الكنائس المسيحية نفسها- بإشراف إخصائيين في علم نفس الجماعات، يتمرس المشتركون فيها على وعي التفاعل بين مواقفهم العميقة ومواقف الآخرين ضمن الجماعة الواحدة، مما يمكنهم من تعهد هذه القوى عوض الانسياق إليها بشكل أعمى، ومما يعلّمهم بالتالي كيفية المشاركة الحقة في حياة الجماعات أو قيادتها بشكل بنّاء. نرجو أن يتاح لعدد من الحركيين أن يشتركوا بدورات من هذا النوع علّهم يفيدون منها شخصيًا ويفيدون الجماعة الحركية كلها في سعيها إلى الشركة التي لا يمكن للحركة بدونها أن تحقق طابعها الكنسي وأصالتها الإنسانية.
مجلة النور، العدد 9و10، 1972
ك.ب.