يحلو لي في هذه المناسبة أن أحدثكم باختصار عن الهدف الذي تسعى إليه حركة الشبيبة الأرثوذكسية من وراء إيجاد منظمة خاصة للمراهقين هي "طلائع النور" وعن الخطة التي تتبعها تجاه الفتيان والفتيات الذين يجتازون هذه المرحلة الدقيقة من عمرهم. هذا العمر كثيرًا ما يُنظر إليه نظرة فيها الضيق والنفور والاستنكار. إنه، كما يدّعون، "سنّ الغلاظة"، "سن الطيش"، "سن الجهل"...
ولكن ماذا تخفي هذه "الغلاظة" التي تزعجنا نحن البالغين، المتناسين أننا مررنا بها في حقبة من حياتنا؟ إنها تعبير عن شخصية تكتشف نفسها، متأرجحة بين طفل الأمس ورجل أو إمرأة الغد، لم تستقر بعد على حال، تتيقّظ فيها وتفور قوى ونزعات وأحاسيس جديدة لم يكن لها عهد بها، تجتذبها وتخيفها في آن واحد. شخصية تفتش عن ذاتها في خضم المتناقضات التي تتنازعها وتحاول أن تثبت وجودها بشكل من الأشكال لتلبي دعوة النمو الملحة وترتقي إلى مصف البالغين، فتتعثر وتضل الطريق مرارًا ولا تجد في كثير من الأحيان من يفهمها ويعيد الثقة إليها فتثور وتشاكس لتغطي شعورًا بالنقص أليمًا وحاجة إلى النجدة لا يلبّيها أحد.
تلك هي المراهقة في مأساتها، تتخبط في عزلتها وسط مجتمع لم تعد تفهمه ولم يعد يفهمها. ولكن هل فكرنا في النواحي الإيجابية الكامنة في هذا العمر المضطرب؟ هل فكرنا بأنه من خلال هذا المخاض الأليم يولد رجل الغد وامرأته، وتتفتّق امكانيات غنية وتتفجر طاقات زاخرة هي ثورة على كل ركود ودافع لكل تقدم وابداع، ويُسمع نداء ملحّ لا يعرف المساومة، نداء إلى تحقيق كل المُثُل، نداء الحق والخير والجمال والعدل والحب؟ هل فكرنا بأن "سن الغلاظة" وسن الأهواء الجامحة وسن المشاكسة يمكن أن تكون أيضًا سن العبقرية وسن البطولة وسن القداسة؟ هل فكرنا أن في قلب المراهق شعلة قد يتناساها البالغ لأن هموم الحياة وترفها ومساوماتها جعلتها تخبو فيه، شعلة قد تصبح في المراهق لهيبًا مدمرًا يفتك به وبغيره وقد تصبح، إذا وُجّهت، حماسًا فائضًا بنّاءً وكرمًا في البذل والعطاء لا مثيل له؟
إن طلائع النور تأخذ المراهقين كما هم، بضعفهم وقوتهم، بامكانياتهم وعثراتهم، فتحاول أن تنطلق بهم من هنا إلى ملء تحقيق شخصيتهم في المسيح يسوع الذي به وحده يبلغ نموّهم الأليم غايته وكماله.
تأخذهم منذ الثانية عشرة، تلك السن التي فيها صعد يسوع لأول مرة إلى الهيكل مع مريم ويوسف والتي كان فيها فتىً "ينمو بالحكمة والسن والنعمة أمام الله والناس" على حد تعبير لوقا الإنجيلي، تأخذهم في هذه السن وتسير بهم عبر نموّهم وتطورهم حتى السادسة عشرة حيث ينتقلون إلى فرق حركية طلابية أو عمّالية تتعهدهم بدورها.
في طلائع النور مسؤولون يعتقدون أن المراهقة تقدَس بالمسيح الذي اجتازها، كما قدست الطفولة بمرور الرب فيها. هؤلاء المسؤولون يحترمون شخصية فتيانهم أو فتياتهم الناشئة ويساعدونها بتأنٍّ وحب على أن تنمو وتتقوى. يعرفون أن يصغوا إلى فتيانهم وأن يتفهموهم رغم متناقضاتهم فيساعدونهم هكذا على فهم أنفسهم. يثقون بهم رغم الأزمات التي يمرون بها ويمنحونهم صداقتهم دون قيد أو شرط. يصغون بانفتاح القلب إلى أسئلتهم المتشعبة المقلقة ويحاولون أن يجيبوا عليها بما أُعطوا من معرفة وخبرة. لا يفرضون ذواتهم على فتيانهم فرضًا ولكنهم يقدمون لهم ببساطة وصدق خدمتهم، فيدربونهم هكذا على المحبة بمحبتهم لهم ويهدونهم إلى المحبّ الأول، إلى الرب يسوع الذي فيه تتبلور شخصيتهم الحائرة وفيه يرتوي عطش قلبهم إلى المطلق والحب وفيه تجد حيويتهم لها قطبًا ومعنى فتنعتق من عقالات الأنانية لتنطلق في دروب الحب المعطاء.
المشاهد التي قُدمت لكم أيها السادة في هذا الاحتفال هي وجه من وجوه برامج الطلائع الزاخرة بالحياة، تلك البرامج التي تفسح مجالاً لكل ما يهم المراهق ويستهويه وتراعي حاجته إلى النشاط والخلق. ففتى الطلائع نشيط في الاجتماعات حيث لا يكتفي بتقبل الحقيقة سلبيًا بل يسعى إليها بمعية رفاقه ومساعدة المسؤول، يسال ويجيب كما فعل الفتى يسوع في الهيكل. وهو نشيط أيضًا خارج الاجتماعات، عندما يمارس في أوقات فراغه، صحبة المسؤولين وباشرافهم، أحد فروع النشاط المتعددة التي تقدمها له الطلائع، من أعمال فنية وأشغال يدوية ورياضة ورحلات ومخيمات وفن تمثيلي وفولكلوري، تساعد على تفتيق مواهبه وتكوين شخصيته وممارسة حياة الشركة والتعاون مع غيره وتمكّنه من تصعيد حيويته وتهذيبها وتوجيهها وتسخير قواها لأهداف جميلة بنّاءة، نشاطات توجهها وتتوجها التربية المسيحية التي هي مبرر وجود الطلائع.
نشكركم جميعًا يا من شئتم أن تشاركوا أولادكم في عيدهم هذا، ونرجو أن تكون هذه الحفلة نقطة انطلاق نحو تعاون أوثق بين الطلائع وبينكم من أجل خدمة فلذات أكبادكم، حتى إذا أعطوا قلوبهم للرب يحفظ الرب شبابهم نضرًا، نيرًا، متوقدًا، ويهبه أن يعطي أثمارًا يانعة شهية تثلج قلوبكم وتطرب لها كنيسة الله.
النور، العدد الأول، 1964