إن الحركة قد أخذت على عاتقها القيام بنهضة دينية، ثقافية، أخلاقية، اجتماعية، مبنية على المسيح يسوع أساس الكنيسة وركنها. ولذلك أرادت أن تعمل عملاً عميقًا وهو عمل تجديد النفوس بالنعمة الإلهية الكلية القدرة. وكان لا بد من أن تلتفت إلى نفوس جديدة، متفتحة بطبيعتها إلى الحياة الروحية والإشراق الإلهي، تصبو إلى الكمال بالرغم من الميول الرديئة التي تركتها فيها الخطيئة الجدية، إلى نفوس اقتربت من الله بنعمة المعمودية ولم تفقد بعد هذه النقاوة التي لبستها كحلّة بهية حين لبست يسوع وهذه الصداقة الإلهية التي جعلت الله أبًا لها، كان لا بد من أن تلتفت إلى هذه النفوس التي تكمن قوتها وضعفها في الآن نفسه في قابليتها لكل ما نقش عليها وطبع فيها. توجهت الحركة اليها تريد أن تنقذها من كل ما يمكنه أن يبعدها عن الرب، من كل ما يمكنه أن يشوه صورة الله فيها، ومعتنية بها لكي تنمو كالنبتة الجميلة رافعة رأسها نحو السماء في نور المسيح الهادئ.
أرادت الحركة أن تعوض من النقص الذي تركته العائلة والمدرسة في حقل التعليم الديني والتربية الدينية المتوجب إعطاؤهما للأولاد، فتجند أعضاؤها لهذا العمل وجاهدوا تحت نظر الله، مريدين أن يقدموا للكنيسة نفوسًا مفعمة إيمانًا ورجاء ومحبة، وللمجتمع شخصيات قوية مضحّية بنّاءة، عازمين أن يهيئوا شبيبة مؤمنة، واعية، قوية، تجابه الصعاب بالإبتسام، وتتابع عمل أخوتها الكبار الذين شقّوا لها الطريق وهيأوها إلى السير فيها، فكانت مدارس الأحد.
ومدارس الأحد مؤسسة تعليم وتربية في وقت واحد. فالناحية التعليمية التي تألفت من أجلها عند تأسيسها انما هي سد الفراغ الذي كان حاصلاً من ناحية التعليم الديني بسبب عدم قيام المدارس الأرثوذكسية بواجبها أو انتماء الأولاد إلى مدارس غير أرثوذكسية. فهذه الناحية تبقى ضرورية للأولاد المنتمين إلى هذه الفئة الأخيرة من المدارس والذين لا ينتمون إلى مدرسة، ولا بأس من أن نحققها أيضًا للأولاد المنتمين إلى مدرسة أرثوذكسية كتكميل ودعم لثقافتهم الدينية في جو غير مدرسي خال من الضغط ومفرح للأولاد.
ولكن هناك ناحية التربية التي تشكل هدفًا رئيسيًا في مدارسنا الأحدية. فيجب أن ترتكز ناحية التربية على سائر فروع نشاط الولد من لعب وأشغال يدوية ورسم وأناشيد وتراتيل وأحاديث ورحلات الخ، بموجب الطرق الحديثة المستعملة في التربية، وأن تهدف إلى تربية الإنسان المسيحي بكليته: بجسده وعقله وروحه. فيجب أن نهتم مثلاً بصحة أولادنا الجسدية وقوة حواسهم ورجاحة عقولهم ولكن يجب أن نهتم أيضًا قبل كل شيء آخر بتفتح روحهم للنعمة الإلهية وخضوع ارادتهم القوية لمشيئة الآب السماوي لكي ينمو المسيح في نفوسهم شيئًا فشيئًا.
فهذا العمل التربوي يجري في الدروس، نعم، ولكنه يجري أيضًا في أحاديث ودية مع الأولاد أفرادًا وجماعات، وفي رحلات نقوم بها معهم، وفي ألعاب يستسلمون إليها تحت إشرافنا، وفي أعمال يطلب منهم أن يقوموا بها تطبيقًا لتوجيهات روحية تلقى عليهم، وفي سهرات روحية استعدادية لعيد أو احتفال، وفي إعدادهم للأسرار المقدسة، وفي هتافات يهتفون بها، وصلوات قلبية يصعدونها، وقانون حياة نساعدهم على تطبيقه بأمانة، وتضحيات يقدمونها في سبيل مساعدة أخوتهم، وفي أشغال يدوية يقومون بها وغايتها الخدمة العامة، ورسوم ذوات مواضيع دينية تساهم في رفع أرواحهم وغرس كلمة الحياة فيها، إلى ما هنالك من وسائل للتربية لا تحصى يمكن تقسيمها إلى نوعين هامين: الوسائل الجمهورية التي توجد روحًا واحدة في المجموع وجوًا واحدًا يسود فيه تفكير واحد وشعور واحد أو تتوجه إلى المجموع فتفيد كلاً من أفراده وتدربه أحيانًا على الحياة الإجتماعية، والوسائل الشخصية القائمة خاصة على الإتصال الشخصي الودي بين الأولاد والمسؤول عنهم الذي يعتبرونه الأخ الأكبر والصديق المخلص الذي يفهمهم ويحبهم.
ومما يجب أن نوجه إليه الأنظار هو: أن التربية متى كانت عامة شاملة، تشمل الكيان البشري- هذا الكيان الذي لا يجوز أن نجزأه لأنه وحدة - وتساعده على أن يحقق بكليته الدعوة التي دعاه اليها الله. ومتى اهتممنا بالتربية الروحية في فروع النشاط كافة أي متى اجتهدنا في أن يكون اللعب مثلاً واسطة لإنماء الفضائل المسيحية من محبة وتضحية وطاعة، وفي أن تكون الرحلات واسطة لرفع الأولاد نحو الخالق ولتدربيبهم على الحياة الأخوية، ومتى أعتنت التربية بتوجيه الأولاد التوجيه الفعال نحو تطبيق المسيحية في كل لحظات حياتهم اليومية (بواسطة تطبيق التوجيه الروحي مثلاً وتوجيه العمل المسيحي في العائلة والمدرسة)، متى توفرت في التربية هذه الشروط كلها المذكورة آنفًا، فعندئذ يزول هذا التجزؤ الذي يسود الآن حياة الكثيرين والذي هو من أعظم بلايا الكنيسة، هذا التجزؤ الذي يحصر التقوى والتديّن في أوقات الصلاة أو في أعمال معينة كحضور الخدم الشريفة ويعتبر أن الإنسان في حياته الإعتيادية يمكنه أن يعيش طبقًا لمصالحه وأهوائه فقط، هذ التجزؤ الذي يمنع المسيحيين من أن يروا الرب سيد حياتهم كلها، حياتهم الشخصية الداخلية وحياتهم العائلية وحياتهم الإجتماعية وحياتهم السياسية.
فإذا زال هذا التجزؤ أصبحت المسيحية مجسمة في صميم الحياة، فلا يفصلها الولد عن سائر فروع وظروف وأوقات حياته لأنه اعتاد أن يرى في مدرسته الأحدية نشاطه الطبيعي والتوجيه الروحي والصلاة والرسم ودروس الصحة مجتمعة، يشمل ذلك كله ويوحّده جو مشبع بالروح المسيحية الصرفة ترفرف فوقه الفضائل المسيحية من صدق وطاعة وتواضع ومحبة وتضحية، لأنه اعتاد أن يطبق في حياته التوجيهات الروحية التي أعطيت له وسهر على تطبيقها مراقبًا نفسه، ولأنه جاهد ليكون مسيحيًا حقيقيًا وشاهدًا للرب ورسولاً في مدرسته وصفه وعائلته، ولأنه رأى صلاة الشكر أو التسبيح أو التمجيد أو الطلب تنبثق من اللعب ومن الرحلات ومن القصة ومن الأشغال اليدوية ومن سائر فروع النشاط، ولأنه تدرب في مدرسته الأحدية وخاصة ضمن فرقته على الحياة الإجتماعية المسيحية الحقة، حياة الشركة الكنسيّة.
وقد أتى إلى الآن عملنا في حقل مدارس الأحد بنتائج ملموسة. فانها تضم الآن ما يقارب (2000) ولدًا يتلقون التعليم المسيحي والتربية المسيحية على يد الحركة. فهذه الثقافة الدينية التي يتلقنها الأولاد تشمل فروعًا مختلفة في التعليم المسيحي من عقائد وطقوس وتاريخ مقدس وأخلاق وتراتيل كنسية. وقد أصبح عدد كبير من أولادنا يعرف هذه الأمور معرفة جيدة ويفهمها فهمًا مدهشًا. وقد أنهى عدد من الأولاد في مركز طرابلس هذه السنة دروسهم في مدارس الأحد وارتقوا إلى فئة خاصة في الحركة وفي العام المقبل سيرتقي عدد أكبر بكثير.
فلنتصور أولادًا مروا في السنوات الدراسية السبع وأي أساس من الثقافة الدينية قد أُسسوا عليه وكم يمكننا أن نبني فيما بعد على هذا الأساس المتين. أما من ناحية التربية فمن يستطيع أن يصف التأثير الذي تحدثه التربية الدينية في نفوس الأطفال الفتيّة الصافية الشفافة وفي نفوس الأحداث الملتهبة شوقًا ومحبة للمثل العليا، وكم هو التأثير الذي يحدثه في هذه النفوس احتكاكها بنفوس أخوة وأخوات كبار بواسطة الاجتماعات والاتصالات الشخصية والأحاديث، احتكاكها بنفوس تشهد فيها دومًا التضحية والإخلاص والمحبة والإيمان. وها قد ازدهرت في نفوس الأولاد العواطف الرائعة التي يعبّرون عنها بكلمات جميلة جدًا تأخذ بمجامع القلوب، وبأعمال محبة وتضحية تهتز لها قلوبنا طربًا وحبورًا. وها أن عندنا رؤساء فرق يفهمون ما يطلبه الرب يسوع منهم فيضحون بأوقات وجهود ويسعون فعليًا في أن يكونوا قدوة ومثالاً. فان الرب يسوع، بواسطة حقارتنا.
يرفع إليه هذه النفوس الفتية ويكمّلها في الخفاء. ثم ان تأثير المسؤولين والمسؤولات على الأولاد يتعدى حياتهم الحاضرة إلى توجيه حياتهم المستقبلة أيضًا، فلقد أفضت احدى الفتيات إلى المسؤولة عن شعبتها بأنها ستسلك في الحياة الطريق التي ستسلكها أختها الكبرى، وها أن البعض من أولادنا يشعرون برغبة في تكريس حياتهم لخدمة الرب.
أما نحن المسؤولين في لجان مدارس الأحد، فسنسعى أكثر فأكثر كلما زاد اطلاعنا واتسع اختبارنا، أن نستخدم في كل من شُعبنا المختلفة الطرق التربوية الملائمة، حتى يجد أولادنا في كافة مراحل تطورهم ما يسد احتياجاتهم.
أجل لقد أتى عملنا في حقل مدارس الأحد بنتائج ملموسة، ولكننا لم نقل اننا حققنا كل شيء. فان آفاقًا بعيدة جدًا تلوح لأعيننا. ان العمل التعليمي والتربوي يتطلب جهودًا لا تحصى وسهرًا حثيثًا، ولذلك فهو يوجب على من يريد القيام به التضحية المتفانية. ان الذين دعاهم الرب من المسؤولين في الحركة إلى العمل في هذا الحقل يعلمون كم هو صعب أحيانًا أن "يكونوا أولاداً مع الأولاد ليربحوا الطفولة للرب"، كم هو عسير هذا التجرد الذي يمكّننا وحده من أن نرى الله من خلال هذه الشخصيات الصغيرة ومن أن نخدمه وحده فيها. ان ما يطلب من المربي المسيحي هو أن يسمو متعاليًا لكي يمتلئ من النور الإلهي ثم أن ينحدر إلى مستوى الأولاد متجردًا عن كل ما يمنعه من فهم نفوسهم، مكيّفًا طرقه التربوية وفق احتياجاهم وتطوراتهم، فيندمج هكذا بهم ويعطيهم النور الذي استقاه من العلى، من لدن الله، جاعلاً هذا النور يشع ويسطع في كل فروع النشاط دون أن يستهين بواحد منها. لذلك نعود إلى فكرة الحركة الأساسية ونقول ان الشرط الأساسي لنجاح مدارسنا الاحدية وعملنا التعليمي والتربوي اجمالاً هو بناء شخصيات مسيحية حقة تتغذى بالصلاة وبالأسرار المقدسة وبمطالعة الكتاب المقدس، وتجاهد في كل لحظة لتحقيق مثال الآب السماوي. ان شخصية المربي لا يستعاض عنها في التربية المسيحية، وستعمل هذه الشخصية المسيحية في حقل التحقيق، ستغرس ولكنها أيضًا ستسقي بصبر عظيم وعناية لا تعرف الملل.
"النور"، العدد1، 1950