طُرحت عليّ هذه الأسئلة بمناسبة دورة تربوية عقدها مركز طرابلس لحركة الشبيبة الأرثوذكسية يوم الأحد 26/8/1990، من أجل إعداد مرشدي أسرة الطفولة لقيادة مخيّمات.
أولاً: ما هي الصلاة؟
• "نرجو تفسير كلمة "الصلاة". معناها الروحي وما هي ثمارها بالنسبة للولد" (فرع عفصديق).
لن أحدثّكم مليًّا عن طبيعة الصلاة. فهذا موضوع قائم بذاته علمتُ أن محاضرة قد خصّصت له في هذه الحلقة.
إنما، بشكل مختصر، يمكن القول:
أ- إن الصلاة ليست مجرّد تحدّث إلى الله، إنما هي تواصل معه.
ب- فقد أتحدث إلى آخر دون أن أتواصل معه، وذلك إذا كنت أقول ما عندي دون أن أكلّف نفسي مشقّة الإصغاء إلى ما يقوله الآخر. عند ذاك أكون متحدّثًا إلى آخر دون أن أتحدث معه. أكون "أنا بوادٍ وهو بوادٍ"، ويكون حديثي مجرد مناجاة لذاتي monologue لا تخرجني من دائرة ذاتي ولا تغيّر فيّ شيئًا.
ج- هذا ما يتعرض له المرء في حديث يجريه مع إنسان آخر، ولكن بنوع أخصّ في حديث يجريه مع الله. إذ أنه، في هذه الحال، يخاطب كائنًا غير منظور لا يفرض عليه حضوره فرضًا كما تفرضه الكائنات التي نراها، ما يسمح للإنسان أن يتجاهل فعليًا هذا الحضور ولو كان يناجيه في الظاهر.
د- هذا ما يتعرض له الطفل بشكل خاصّ بسبب ما تتسّم به نفسيته من "أنويّة" égocentrisme، وهي نزعة لا شعورية إلى رؤية كل شيء من وجهة نظر ذاتية بسبب انعدام القدرة على التمييز الكافي بين الذات وما هو خارجها. هذه النزعة غالبة بين الثالثة والسابعة من العمر ولكنها تترك أثرًا في كل مرحلة الطفولة. من هنا أن الطفل، عندما يصلّي، ينزع بكل حسن نيّة إلى الخلط بين وجهة نظره ووجهة نظر الله. وقد عبّر الشاعر الفرنسي Charles Péguy بطرافة عن هذا الموقف الملتبس بقوله عن صلاة الطفل إن هذا الأخير، مع إبدائه الطلب، يقدّم بآن معًا الجواب عنه، ناسبًا إياه إلى الله، وذلك من باب الضمانة. لاحظوا أننا، نحن الكبار، نماثله في كثير من الأحيان، إنما بأقلّ براءَة منه. من هنا أن Péguy يزكّي، باسم الله، صلاة الطفل هذه على ما يكتنفها من وهم، لأن هذا الوهم، على سذاجته، يبطن ثقة عارمة بالله قلّما نتحلّى نحن بها:
“Pour moi, dit Dieu, je ne connais rien d’aussi beau dans tout le monde
Qu’un gamin d’enfant qui cause avec le bon Dieu
Dans le fond d’un jardin,
Et qui fait les demandes et les réponses (c’est plus sûr)... »
( Le Mystère des Saints Innocents, Gallimard, Paris, 1944,p196)
هـ- الصلاة إذا استقامت- وهذا ما يتطلب نضجًا وتمرسًا وجهادًا – تسمح بتجاوز أنفسنا لنتجه إلى الله فعلاً لا شكلاً، لننفتح إليه، لنهتدي إلى وجهة نظره هو، لنتحوّل إلى حياته، لنتبنّى أسلوبه في التعامل، لنتغيّر بتقبّل فعله فينا. هذا ما ينطبق على الطفل كما أنه ينطبق على الراشد، ويندرج، لدى هذا وذاك، في صيرورة دائمة واهتداء لا ينقطع.
ثانيًا: كيف نعلّم الولد الصلاة الفرديّة؟
"كيفية تعليم الأطفال الصلاة الفردية" (فرع بطرام)
المقصود من السؤال، كما فهمتُه: كيف نعلّم الولد أن يتخطى مجرّد ترداد كلمات صلاتية كما يردّد درسًا أو يقوم بفرض، ليبلغ إلى مناجاة شخصية لله سواء عبر كلمات تعلّمها أو عبر كلمات ابتكرها. إن هذا يقتضي منّا:
1- أن نعمل على ردم الهوّة بين الصلاة والحياة وتبديد الشعور الذي كثيرًا ما ينتاب الولد (لا بل والعديد من الراشدين) بان الصلاة قطاع قائم بذاته على هامش الحياة، في حين أن الصلاة هي بمثابة تنفّس الروح، كما قال ألكسي كارّيل ، وينبغي بالتالي أن تضحي طبيعية كعملية التنفّس. إن ردم هذه الهوة يقتضي:
أ- أن نوضح للولد أن بوسعه أن يصلّي في أي وضع وفي أي زمان:
إليكم، على سبيل المثال توجيهات يقدّمها مربّون لأطفال تتراوح أعمارهم بين 6 و9 سنوات – وهي مستقاة من الكتاب التالي:
Odile Dubuisson et Jacques Audinet, Prières et récits pour toute l’année. 6 à 9 ans. Livre de l’enfant, ISPC- Cerf- Desclée, 1972.
* في أي وضع نصلّي؟
"يمكنك أن تخاطب الله واقفًا، أو جالسًا أو في فراشك ليلاً قبل أن تنام، يمكنك أن تخاطبه أيضًا وأنت مقرفص قرب سريرك، أو راكع. يمكنك أن تخاطب الله بصوتٍ عالٍ أو في قلبك، دون أن يسمعك أحد".
* متى تصلّي؟
"يمكنك أن تخاطب الله متى تشاء: مساءً قبل أن تنام، وقد يسهل عليك أن تصلّي في ذلك الوقت أكثر منه في أي وقت آخر؛ في الصباح عندما تستيقظ؛ وفي أي وقت من أوقات النهار، (حتى في الشارع، دون أن يشعر أحد)".
ب- أن نوضح للولد أن ليس للصلاة كلمات محدّدة، بل أنّ بوسعه أن يخاطب الله كيفما شاء. لسنا بمحصورين بعبارات الصلوات الطقسية. وكان أحد الآباء العظام، وهو باسيليوس الكبير، يوصي بأن لا نكرّر الكلمات نفسها في الصلاة. من الكتاب المذكور آنفًا:
* ماذا تقول لله؟
"عندما تخاطب الله يمكنك أن تروي له ما تشاء (مثلاً ما فعلت خلال يومك)؛ أن تقرأ، في كتابٍ، صلاةً تحبّها، أن تتلو صلاة حفظتها غيبًا".
ج- أن نقدّم للولد نماذج صلوات بسيطة ومعبرّة، لا تحول بساطتها دون أصالة وعمق معانيها الإيمانية، تصلح لمختلف الظروف والأوضاع وتختلط فيها العبارات الكتابيّة بكلمات الحياة اليوميّة وتتعانق فيها الصلاة والحياة. من الكتاب المذكور آنفًا، نقتطع هذه النماذج الحلوة لصلوات تصلح لظروف مختلفة وتتناول مواضيع متنوّعة:
* تأمل جمال الطبيعة
"بدون كلمة، بدون صوت، تنشد السماء روعتك، يا إلهي، والنجوم التي تلمع في الليل، والشمس عند المغيب التي تشعل النوافذ، وحرارة الصيف التي تحرق والتي تَسمَرّ بفعلها الأجساد، والمطر الذي يرطّب الجوّ! والمساء لما ينتشر يهمس أيضًا باسمك: يا الله!".
* في سكون الليل ودفء الفراش
"ها الليل قد أتى. إنني راقد في دفء فراشي. لقد أُطفئ النور، ولا يُسمع صوت. قبل أن أنام أروي لنفسي قصّة، وفي هذا المساء، ستكون قصتي لله".
* في فراغ البيت والشعور بالوحدة
" آه! البيت فارغ! الماما خرجت، والبابا في عمله، ما من رفيق معي، وفي هذه الساعة لا برنامج في التلفزيون. أشعر أنني وحيد تمامًا! إنما ... إذا فكّرت... أجد أنني لستُ بالحقيقة، بالحقيقة وحيدًا تمامًا، فإنك هنا يا إلهي، إنني لا أراك، إنني لا أسمعك، ولكنك هنا، يا ربّ".
* صلاة المساء
"كل شيء هادئ. لقد انتهى النهار، كان مليئًا بالفعل. لقد لعبتُ وركضتُ ولهوتُ كثيرًا. لقد حلمتُ بالمغامرات فيما كنت أشاهد الفيلم من التلفاز. لقد اشتغلتُ أيضًا: فالفروض والدروس تتطلّب مني وقتًا! والآن أشكرك، يا ربّ، لأنك تصغي إليّ. سأصلّي إليك، يا الله، كلّ أيام حياتي، سأبارك إسمك صباحًا ومساءً. أسبحك يا إلهي، لأنك تصغي إليَّ ...".
* صلاة من أجل الوالدة بمناسبة عيدها
"غدًا عيد أمّي، لقد أعددت لها مفاجأة. أصلّي إليك من أجلها، يا ربّ، إسهر عليها".
* صلاة من أجل الذين يموتون
"يا ربّ، كل يوم يموت كثير من الناس، كثير من الناس على الأرض... إقبلهم بقربكَ في نورك وسلامك".
* صلاة شكر
"قلبي يُنشد لك، يا ربّ! في الصباح، أنتَ تجعل الشمس تشرق، فيخرج الإنسان من بيته، يروح ويجيء، ويعمل أشياء كثيرة. أريد أن أشكرك وأن أروي عجائبك. قلبي يُنشد لك، يا ربّ!
* تأمل في حبّ يسوع لنا
"لقد احببتَنا، نعم، أحببتَنا كثيرًا، يا يسوع إلهنا، وقلت لنا: أنتم أيضًا قد جُعلتم للحبّ، لتحبّوا كثيرًا، لتتشبهوا بي. يا يسوع، علّمني أن أتشبّه بك".
* صلاة إلى المصلوب والناهض
"يا يسوع الناهض من بين الأموات، لقد متَّ على الصليب، لقد متَّ كما يموتُ كلّ الناس لتعطي الحياة للناس. نباركك، نسجد لك! يا يسوع، لقد شئتَ أن تموت كما سوف نموت نحن ذات يوم. لقد قُمت من بين الأموات، وستقيمنا نحن. سنكون أحياءَ معك بقرب الآب. مبارك أنت، يا يسوع!"
د- أن نعمل على تشابك الصلاة بمختلف ظروف حياة المجموعة التي ينتمي الولد إليها في أسرة الطفولة
إن مختلف خبرات المجموعة تصلح لتكون فرصًا لانطلاق صلوات من وحيها، ترفع هذه الخبرات إلى الربّ وتستدعي حضوره المحيي فيها. فعند بداية الاجتماع يمكن أن نذكر أمام الربّ ما نحن مزمعون أن ننجزه خلاله... وبعد الانتهاء من الاجتماع، يمكن أن نشكر الرب على ما جنيناه منه، ذاكرين ذلك بالتفصيل. يمكن أن نشكره على جمال الألعاب التي انصرفنا إليها وحيويتها، وأن نستغفره عن تقصير أو خصام، وأن نسأله أن ينعم علينا بمزيد من اللحمة والوفاق والإصغاء إلى بعضنا البعض. قبل إجراء انتخاب، يمكن أن نسأله أن يلهمنا حسن الخيار، وبعد الانتخاب يمكن أن نسأله العون من أجل الذين أسندت إليهم مسؤوليات. خلال رحلة، بوسعنا أن نشكره على جمال المناظر الطبيعية التي تمتعنا بها وعلى حيوية أجسادنا المنطلقة وعلى موهبة النور والدفء والماء المنعش ...
هذه الصلوات يكون المرشد رائدها، فيتماهى به الأولاد تدريجيًا ويتعلمون أن يسكبوا بدورهم خبراتهم في مناجاة عفويّة.
2- أن نعوّد الأولاد أن يعبّروا بصلاة عمّا ترك فيهم التوجيه الروحيّ من أثر، بحيث يألفون أن يمدّوا الحديث عن الله إلى حديث مع الله، وقد يكون الأفضل أن تترك دائمًا، بعد كل توجيه روحيّ يشارك فيه الأولاد، فرصة لهم لكي يعبّروا عما تركه التوجيه في نفوسهم، وذلك عِبْرَ رسم حرّ يخطّونه وصلاة يكتبونها (أو يتلونها إذا كانوا لا يحسنون الكتابة بعد)، وقد تكون، وفق اختيارهم، صلاة تعلّموها أو صلاة من ابتكارهم.
هذا وإن بمقدور الأولاد، إذا ما تمرّسوا على الصلاة العفوية، أن ينتجوا نصوصًا بجمال وغنى هاتين القطعتين اللتين أنقلهما من الفرنسية عن مجلة مسيحية للعائلات هي:
Alliance, Paris, janvier - février 1980, pages 24 et 63.
"يا يسوع ساعدنا لكي نساعد الآخرين ونقاسمهم ما لدينا
ما يُرى
ما يُسمع
ما يُلمَس
ساعدنا لكي نقاسهم فرحنا
ولكي نصبح خبز الحياة للآخرين".
سيلفي، 10سنوات
***
"قبل ولادة يسوع
كان الناس خائفين
وكأن قلوبهم كانت في ظلام
الشمس تنيرهم وتحميهم
وقد شاء يسوع أن يكون لهم هذه الشمس
هذه الشمس التي هي نورٌ بَهِجٌ لنا
الآن نستطيع أن نكون سعداء".
جان باتيست، 9 سنوات
***
ثالثًا: كيف نساعد الولد على أن يعيش صلاته
* "... كيف نقدر أن نجعل الولد يعيش صلاته؟" (فرع عفصديق)
1- إذا علّمناه أن يصلّي بلغته وانطلاقًا من ظروفه وهواجسه (راجع النصوص المقترحة أعلاه).
2- إذا ما عوّدناه أن يرى الصلاة متشابكة مع الحياة، منطلقة من مختلف ظروفها وخبراتها (حتى ما قد يبدو منها عاديًا جدًا وصغيرًا)، تستحضر الرب في صميم هذه الظروف والخبرات (راجع النصوص الآنفة الذكر وأيضًا ما قلناه عن اختلاط الصلاة بمسار الاجتماعات والنشاطات).
3- إذا ما توصّلنا إلى إقناعه بأن معيار الصلاة الأصيلة إنما هو أن تتغيّر بها الحياة، وساعدناه على ترجمة هذا التغيير في سلوكه الراهن، بغية إحقاقه فعلاً. مهمٌ أن نفهم الأولاد أن من لاقى الله بالصلاة صار سفيرًا لله بين الناس، ناقلاً إليهم محبة الله، معاونًا لله في بناء عالم جديد تنتشر فيه العدالة والمحبة والتعاون والصدق والتفاهم والسلام والفرح، ويتقهقر فيه الظلم والعدوان والخصام والتكاذب والاستئثار والقسوة والفقر والشقاء. إنما ينبغي، لكي لا يبقى ذلك كله على صعيد النظريات الجميلة ومحض التمنّي، في حين أن "الكلمة صار جسدًا" (يوحنا 1: 14)، أن نحرص على تهيئة الظروف المؤاتية لترجمة تلك الرؤيا على الأرض (المعدّة أن تصير سماءً وفق إيماننا)، بأعمال بسيطة ولكنها ملموسة:
أ- فمثلاً، إذا صلّينا من أجل أن يحلّ الوفاق في الفرقة، نشجّع الأولاد على أن يُتبعوا هذه الصلاة بخطوات وفاقية راهنة، مثلاً أن ينتقد كل واحد منهم، أمام الآخرين، ما بدر عنه من سلوك منافٍ للوفاق.
ب- إذا ما صلّينا من أجل زميلٍ لهم مريض، سائلين الرب أن يفتقده بحنانه وأن ينعم عليه بالشفاء، نشجّعهم على أن يترجموا صلاتهم هذه بزيارات لهذا الزميل ينقلون إليه عبرها شيئًا من افتقاد الله له ويمدّونه خلالها بانتعاش يترجم له عبرهم لطف الله به وقد يكون أحد عناصر شفائه.
ج- وإذا ما صلّينا من أجل البائسين الذين يعانون أكثر من سواهم من الضائقة الاقتصادية الخانقة، نعمل على ترجمة هذه الصلاة إهتمامًا ملموسًا بطفل بائس (ليس من الضروري أن يعرفوا إسمه) يوفّرون من مصروفهم ليقدموا له طعامًا أو لباسًا يسعفه.
د- وإذا ما صلّينا من أجل أن يلقي الله سلامه في قلوب اللبنانيين، فيساعدهم على تخطّي التناحر الطائفي، نحرص على أن تكون هذه المجموعة سفيرة لهذا السلام ورائدة له في محيطها القريب، فنقترح مثلاً على الأولاد أن يدعوا عددًا من رفاقهم المسلمين إلى لقاء ترفيهي أخويّ تتجسد فيه الوحدة والتعايش المرجوّان.
25/8/1990
ك. ب.