" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الولد والمناولة

هذه أسئلة طُرح الأوّلان منها مرشدو الطفولة في فرع الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية وكان مفروضًا أن يُجاب عنهما في حلقة تربوية تُعقد في 7/4/1990، ولكن ذلك تأجل إلى حلقة لاحقة عُقدت في 17/4/1991. أما الإثنان الأخيران فقد طرحهما مرشدو الطفولة في فرعين آخرين من فروع مركز طرابلس للحركة وأُجيب عنهما في حلقة تربوية عقدها المركز في 26/8/1990.

أولاً: استعداد الطفل للمناولة:
• "الإستعداد للمناولة بالنسبة للطفل. كيف؟ حسب الأعمار

أ‌- إلى أي مدى نستطيع التساهل مع الأولاد في موضوع الإستعداد (الأكل قبل المناولة..).
ب‌- في حال التأخر عن القداس، هل نستطيع أن نمنع الأولاد من المناولة (حضور جزئي للقداس).
(فرع الميناء)

لقد أشير (لدى تداول المرشدين لهذا السؤال قبل إلقاء مداخلتي) إلى وجهين من وجوه الإستعداد للمناولة، ألا وهما الإمتناع عن الأكل من جهة، والمشاركة في القداس من جهة أخرى. فإليكم بعض الملاحظات حول هاتين النقطتين:
1- يحسن أن نقربهما من مفهوم الأولاد عبر ربطهما بخبرات الحياة.المألوفة بشكل عام وبخبراتهم هم بنوع أخصّ. وهو ما يؤول إلى مزيد من الإستيعاب والإقتناع. من ناحية، يسمح بتخطّي المنظار الناموسي، الفرائضي، الخارجي، ومن ناحية أخرى بوَصل المسيحية بالحياة بحيث لا تبدو فيما بعد - كما هي الحال، للأسف، في كثير من الأحيان - جِسمًا غريبًا وعالمًا غيبيًا قائمًا بذاته لا تماسّ بينه وبين واقع المشاعر والإهتمامات الإنسانية.

أ‌- فمن حيث الإمتناع عن الأكل، يمكن أن نقول لهم ما يلي:
إذا كان لديكم رفيق تحبونه كثيراً، وإذا التقيتم بهذا الرفيق ذات يوم من ايام العطلة فخلا الجوّ لكما لتلعبا معًا وتتحدثا عن كلّ ما يهمّ كليكما، فقد يمّر الوقت دون أن تحسّا به، وقد يأتي أوان الغداء دون أن تشعرا بالجوع كما تشعران به عادة، لأنكما مأخوذان كلياً بهذا اللقاء المحبَّب. والآن تصوروا أن المسيح قد عاد إلى الأرض (وسيعود يومًا، في آخر الأزمنة كما تعلمون) وانه أتى إلى هذه المدينة التي تسكنون فيها، وانه أرسل يدعوكم إلى لقاء معه. أنتم تحبون المسيح، لذا ستحسبون أن هذه الفرصة المتاحة لكم للقائه انما هي فرصة العمر، فتذهبون إليه مسرعين وتتحلقون حوله بفرح وتصغون اليه بملء جوارحكم شاخصين بحبّ إلى وجهه المنير. ولسوف يمرّ الوقت دون أن تشعروا به، ولسوف تنسيكم بهجة اللقاء به ورؤيته والإستماع اليه حاجتكم إلى الطعام، لأن قلبكم يحظى إذ ذاك بغذاء يغنيكم عن غذاء المعدة.

والمناولة هي بالضبط لقاء مع المسيح، لقاء أكثر حميميّة بكثير من مجرّد مشاهدته والإستماع اليه، إذ تستضيفون به المسيح في ذواتكم، في صميم وجودكم، فيصبح أقرب اليكم من قلوبكم. ولكنكم، عندما تتناولون، لا ترون المسيح الآتي اليكم، من هنا انكم لا تلتهفون إلى لقائه بالمناولة كما كنتم التهفتم لو انكم شاهدتموه وسمعتموه ولمستموه. مع ذلك فانتم تعرفون بالإيمان، معرفة اليقين، انكم، بالمناولة تلتقون به وانه بها "يدخل تحت سقف بيتكم" لتضيفوه. انما لا يكفي أن تعرفوا ذلك، ينبغي أن تحسّوا به بشكل ما. وما الإمتناع عن الطعام قبل المناولة الا وسيلة تساعدكم، عبر الجوع والحرمان اللذين ارتضيتموهما من أجل يسوع، بانكم تستعدّون للقاء من هو أهمّ بكثير من الطعام، للقاء المسيح محبوبكم الأكبر.

ب- أما من حيث الإشتراك في القداس بكامله استعداداً للمناولة، فيمكن أن ننطلق من المثل الآتي (لاحظوا أننا، هنا كما في البند السابق، نقتفي آثار يسوع نفسه في اعتماد الأمثال طريقة للتحدث عن سرّ ملكوت الله): إذا دُعي إنسان إلى مأدبة، فإنه لا يأتي إلى بيت مضيفه في تمام ساعة تناوله الطعام، وإلا أُعتبر ذلك من قلة الأدب، بل يأتي قبل ذلك بفترة يقضيها بالتحدّث إلى أهل البيت وإلى باقي المدعوّين لترسيخ روابط الألفة والمودّة فيما بينه وبينهم، حتى إذا ما قام الجميع إلى مائدة الطعام، كان تناولهم له معًا لا مجرّد أكل وحسب بل تعبيرًا عن تلك المودّة التي تجمع بينهم والتي توطّدت بما جرى بينهم من تناول أطراف الحديث.
 هكذا فالمناولة هي قمة القداس لأن بها يتم اللقاء الحميم بيننا وبين الرب، وبيننا كلّنا حول الرب. من هنا إنه ينبغي أن نستعد لهذا اللقاء- الذروة بترسيخ الفتنا مع الرب ومع بعضنا، عبر كافة مراحل القداس وما تحويه من مناجاة للرب بصلاة وترتيل نرفعهما اليه سوية، ومن استماع اليه معًا من خلال القراءَات الكتابيّة والوعظ الذي هو امتداد لها.

2- أما من حيث التساهل أو التشدّد مع الأولاد، في موضوع الإمتناع عن الطعام قبل المناولة وفي موضوع الإشتراك بالقداس كلّه، فينبغي برأيي أن لا نعتمد خطًا جامدًا وموقفًا متصلبًا بل أن نراعي مبدأ "التدبير"economia  الذي تقول به الكنيسة الأرثوذكسية، والذي يجتهد في التوفيق، دون ميوعة في التساهل أو افراط في التشدّد، بين حدّة القانون وإمكانيات الناس، فيلطّف صرامة القانون بتأني الرأفة، لأن "السبت جُعل من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت" (مرقس 2: 27) وغاية القانون ليست تحطيم المرء بل بنيانه وتنميته. وفقًا لهذه الروح وتمشيًا مع هذا التراث، ينبغي، برأي، أن تتنوّع مواقفنا بموجب عدة عوامل لا بدّ من أخذها بعين الإعتبار، ومنها:

أ‌- عمر الأولاد
فما يمكن أن نطالب به "الصاعدين" (8-10 سنوات) و"الشاهدين" (10-12 سنوات) مختلف عما يحقّ لنا أن نطالب به "الزارعين" (6-8 سنوات) وخاصة "المستنيرين" (4-6 سنوات)، إن من حيث القدرة على احتمال الإمتناع عن الطعام أو من طاقة على احتمال طول القداس (وهو احتمال يتطلّب نموَّا في القدرة على التركيز جسديًا ونفسيًا وعلى ضبط النفس وفي القدرة على الإستيعاب وفي القدرة على التوافق الإجتماعي).

ب- شخصيّة كل ولد
وما بلغه هو بالذات من نموّ إنساني وروحيّ: فقد أكون أكثر تساهلاً من حيث التأخر عن القدّاس، مع ولد أراه يسعى صادقًا إلى التقدّم ولكنه لا يزال ضعيفًا في إنجازاته، فلا أحرمه من مناولة يمكنها أن تكون تشجيعاً له وحثًّا على مضاعفة الجهود، وقد أكون أكثر تشدّدًا مع ولد متقدم انسانيًا وروحيًا ولكنه مهدَّد بالإنسياق وراء نزعة إلى الإهمال أودّ أن أحذّره من خطرها عليه، أو مع ولد آخر لم يدرك بعد فعليًا أهمية المناولة فأمنعه عنها لأنبّهه إلى استهتاره وأوقظ حسّه الروحيّ المتبلّد: كل ذلك يقتضي مني التعرف على شخصية كل ولد بالذات ومتابعتي لسيرتها.ثم إنّني، إذا رأيت من المناسب منع الولد المتأخر عن المناولة، فالأفضل أن أحاول اقناعه بفحوى هذا المنع (اذا سمح الظرف بالتحدث اليه) كي أحمله إلى أن يقبله، ما أمكن ذلك، مختاراً.

ج- حجم التأخر
كذلك لا بدّ أن تُؤخَذ في الحساب نسبة تأخر الولد عن القداس وتكرار هذا التأخر، (مع تبيان ذلك للولد، على الفور أو بعد حين، ليقتنع بصوابيّة التدبير المتخذ بمنعه عن المناولة ويرى فيه، لا عقابًا أو زجرًا، بل حافزًا له على مزيد من الوعي والنضج، فيتبنّاه على هذا الأساس ويحوّله إلى رقابة داخليّة لسلوكه ومحاسبة لنفسه).

3- إعداد الأولاد للمناولة يتجاوز الشرطَين المذكورَين.

إلا أن إعداد الأولاد للمناولة يتجاوز مجرد مطالبتهم بالإمتناع عن الطعام أو حتى بالمشاركة في كامل القداس. فهناك أعمال المحبة والمصالحة التي هي بالغة الأهمية كإستعداد روحيّ لإستقبال ربّ المحبة والتحوّل إليه. (وبما أن القاعدة المتّبعة في ذلك الحين في أسرة الطفولة في فرع الميناء، والتي فرضتها آنذاك ضرورة عمليّة، كانت تقضي بأن يحدّد دورٌ لكلّ مجموعة أطفال للتقدم إلى المناولة، اقترحتُ أن يُتخّذ ذلك الدّور مناسبة تستعد فيها المجموعة للمناولة على الوجه التالي):

أ- أن يخصَّص جزء من الإجتماع السابق لأحد المناولة، لتداول المجموعة في الخلافات والحساسيّات التي قد تكون قائمة بين أفرادها، وصولاً إلى التفاهم والتصافي والإعتراف بالأخطاء المتبادلة والإستغفار والمصالحة. ويعطي المرشد القدوة بهذا الشأن.

ب- أن تطلق، في ذلك الإجتماع بالذات، حملة توفير من شراء الكماليات (من حلويات وسواها) يقوم بها الأطفال بهدف تخصيص ريعها لخدمة المحتاجين الذين وحّد الرب نفسه بهم، فيتعهد كلّ واحد من أفراد المجموعة بأن يضع جانبًا ما يوفّره لهذا الغرض وأن يأتي به صباح أحد المناولة ليلقيه في "صندوق محبة" يكون بمثابة قربان يقدمه الأولاد في قداس مناولتهم فيجعلون بذلك أنفسهم في تجاوب وانسجام مع تقدمة المسيح ويستعدون للقائه بمدّ يد العون لأحبائه. 6/4/1990

القي الحديث في حلقة 17/4/1991

ثانياً: كيفية ايصال مفهوم المناولة للأولاد:
 "كيفية إيصال مفهوم المناولة للأولاد كلّ بحسب عمره (4 إلى 12 سنة)"
(فرع الميناء)

سوف أكتفي باقتراح توجيهات عامة، على أن يكيّفها قادة كل من الأفواج الأربعة حسب مقتضيات عمر أولادهم (الذين آمل انهم ألِفوهم وألِفوا لغتهم).
يمكن أن يقال شيء على هذا النحو:

1- أرواحنا أيضًا بحاجة إلى طعام

- إن أجسادنا تحتاج إلى الطعام لكي تحيا وتتقوّى وتنمو وتنشط.
- ولكن أرواحنا تحتاج هي أيضاً إلى غذاء تحيا به وتنتعش.
- بالطبع، إن تعاليم يسوع، تلك التي نجدها في الإنجيل والتي تنقلها الينا الكنيسة، هي غذاء لأرواحنا. إنما، لكي نستفيد من هذه التعاليم، ينبغي أن تكون لنا القدرة على فهمها وعيشها وتطبيقها. فمن أين تأتينا هذه القدرة؟

2- يسوع يعطينا حياته طعاماً لأرواحنا
- من أجل أن يمنحنا هذه القدرة، شاء يسوع أن يهبنا حياته نفسها محبة لنا، أن يعطينا اياها كأفضل طعام نتناوله فتحيا به أرواحنا. ذلك هو سرّ المناولة: إن يسوع يعطينا حياته طعامًا لأرواحنا، وهذا ما نعنيه عندما نقول إنه يعطينا "جسده ودمه". وكما أن الطعام الذي نتناوله يدخل الينا وينضم إلى جسدنا فنصبح واياه شيئاً واحدًا هكذا عندما نتناول "جسد المسيح ودمه" يدخل المسيح إلينا ونصبح واحداً معه.

3- يسوع يعطينا حياته بشكل طعام
- ولكي يبيّن لنا يسوع أنه يعطينا حياته طعاماً لأرواحنا، شاء أن يعطينا إياها بشكل طعام نتناوله بأفواهنا كما نتناول الطعام الإعتيادي، لذا فهو يمنحنا ذاته بشكل خبز نأكله وخمر نشربه:
* فالخبز يشير إلى أن حياة يسوع ضرورية لأرواحنا كما أن الخبز- الذي هو الطعام الأساسي - ضروري لحياة أجسادنا (ألا يسميّه المصريّون بلهجتهم "عَيشاً" أي حياةً).

* والخمر يشير إلى أن حياة يسوع، إذا ما تغلغلت فينا، تملأ أرواحنا فرحًا، كما أن الخمر، إذا ما شربها المرء، تفرح وتبهج قلبه (اليست ملازمة لحفلات الفرح، كألأعراس مثلاً؟ ألم يرد في كتاب المزامير: "الخمر تفرح قلب الإنسان"؟)

4- هكذا يمكن لحياتنا أن تتحوّل تدريجيًا إلى حياته
- فإذا ما تلقّينا، بالمناولة، حياة يسوع فينا، صار بإمكاننا، إذا شئنا فعلاً، وجاهدنا يومًا بعد يوم في سبيل ذلك، أن تتحول تدريجياً حياتنا إلى حياته ("فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ" غلاطية 2: 20) فيصبح قلبنا قلبه وفكرنا فكره وسلوكنا سلوكه، بحيث نرى كل شيء كما يراه هو، ونتفهم أقواله ونتجاوب معها في العمق، ونحب الناس كما هو يحبّهم.

 5- فتصبح حياتنا، كحياته، مبذولة من أجل أن يحيا الآخرون.

- حياة يسوع، التي نتلقاها فينا بالمناولة، انما هي حياة مبذولة من أجل حياة العالم: "والخبز الذي أنا أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم" (يوحنا 6، 51)، "أما أنا فقد جئت ليحيا الناس، وتفيض فيهم الحياة. أنا الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل الخراف" (يوحنا 10: 10-11). لقد أحبّ يسوع الناس لدرجة إنه لم يكتفِ بتكريس حياته كلّها لخدمتهم، لإنارة قلوبهم وشفاء أمراضهم، بل إنه شاركهم في آلامهم وموتهم ليحرّرهم من الألم والموت. لذا فإن تحوّل حياتنا إلى حياته بالمناولة يعني أن تصبح حياتنا نحن أيضاً مبذولة كحياته، أي أن لا نعود منشغلين كلياً بذواتنا، بل منتبهين إلى من هم حولنا، مشاركين اياهم في أفراحهم وأحزانهم وهمومهم ومشاكلهم، حاملين اليهم، من خلال هذه المشاركة، محبة المسيح نابضة في قلوبنا، وما تشيعه هذه المحبة من حنان ودفء وتشجيع ومساعدة وتعزية.

6- بالمناولة نتلقى حياة يسوع غالباً الموت فتتجدّد حياتنا بقوة قيامته
- إن يسوع، لما بذل حياته حتى الموت محبة بالناس، بلغ القيامة، أي أن حياته أصبحت أقوى من كلّ موت وضعف وشرّ. لقد صارت حياته متأججة ومشرقة بالقيامة كما يتألّق الشريط المعدني في المصابيح بالطاقة الكهربائية فيضحي مضيئاً، لامعًا. بالمناولة نتلقى فينا هذه الحياة المشعّة الظافرة فتتجدّد بها حياتنا كما يجدّد الربيع الطبيعة بعد جمود الشتاء وذبوله وبرده وقتامه، فينتشر فيها النور ويشيع الدفء وتنشط الحياة ونتوثّب وتكتسي الأرض بحلّة بهيّة من الخضرة والأزهار. كذلك فإن حياة يسوع الناهض من بين الأموات، إذا تركناها تفعل في وجودنا وتحوّله، فإنها تنتصر فينا على كلّ إنطواء وضعف وكسل وتهاون وخوف، وتجعلنا نتقدّم يومًا بعد يوم في درب المحبة رغم الصعوبات والعوائق كلّها.

7- بتناولنا يسوع الواحد نصبح واحداً فيما بيننا مع احتفاظ كلّ منّا بفرادته...
ثم اننا، إذا تناولنا حياة يسوع الواحد، فإن هذه الحياة الواحدة التي تسري فينا كلّنا على اختلافنا، تجمعنا نحن أيضاً إلى بعضنا بعض، تجعلنا كلّنا واحداً في المسيح الواحد الذي تقبلناه فينا: "فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك الا خبز واحد. ونحن على كثرتنا جسدٌ واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد" (1 كورنثوس 10: 17). بالمناولة- إذا تركناها تفعل فعلها فينا- يزول التفرّق والتبعثر والتشرذم والتشتت، ونصبح كلّنا جماعة المسيح الواحدة وكمثل جسد واحد هو رأسه وقلبه. وقد وصفت صلاة قديمة ما يجري عند ذاك فينا، بقولها إنه شبيه بما يجري لحبوب القمح التي كانت قبلاً منتشرة في الحقول ثم أصبحت خبزة واحدة، وبما حصل لحبوب العنب التي كانت متفرّقة في الكروم ثم تحوّلت إلى خمر واحدة. مع الفرق أن حياة يسوع التي نقبلها بالمناولة لا تذيبنا بعضنا ببعض كما يحدث لحبوب القمح أو العنب. فكل واحد منا يحافظ على شخصيته المتميزة، ولكن هذه الشخصيات تتناغم فيما بينها كما تتلاقى الأنغام الموسيقية لتؤلف، على تمايزها وبفضل تمايزها، لحنًا واحداً. هذا يعني أننا، إذا تناولنا معًا نحن أعضاء الفرقة الواحدة، فكلّ منا يبقى على طبعه، هذا حَرِك وذاك هادئ، هذا يتدفق بالكلام وذاك قليله، هذا يحبّ المزح وذاك أكثر ميلاً إلى الجدّ، هذا متحمّس وذاك أكثر برودة، هذا اجتماعي وذاك أكثر ميلاً إلى الإنطواء الخ.. انما ينبغي أن تساعدنا المناولة على تجنّب الخصومات فيما بيننا؛ فكلّ واحد يصبر على الآخر، ويتقبل الآخر ولو كان غير متّفق معه في كل شيء؛ وعلى الأصغاء بعضنا إلى بعض ولو كانت آراؤنا متباينة؛ وعلى التفاهم بعضنا مع بعض والإهتمام بعضنا ببعض والتعاون فيما بيننا... ينبغي للمناولة أن تساعد الفرقة على أن تكون أكثر انسجاماً وتماسكاً، وعلى أن ترعى بآن وتشجّع فرادة كل واحد من أعضائها وتغتني بها، أي على أن تكون فرقة بكلّ ما في الكلمة من معنى.

8- ... ونغدو في محيطنا عناصر تفاهم وسلام

ولكن الوحدة التي يعطينا اياها المسيح، إذا ما وهبنا، بالمناولة، حياته، ينبغي أن لا تبقى محصورة فيما بيننا ،في دائرة فرقتنا الضيّقة، بل أن تنشر "عدواها" خارجها، وذلك بأن يصبح كل واحد منا رسول وحدة في محيطه، في عائلته، بين رفاقه في المدرسة الخ، فيكون بين الناس عنصر وئام وتفاهم  وتعاون وسلام، لأن المسيح انما "مات ليجمع إلى واحد أبناء الله المتفرقين" (يوحنا 11: 52).

22/4/1990
أُلقي هذا الحديث في حلقة 17/4/1991

 ثالثاً: وتيرة المناولة

"هل يحقّ للطفل المناولة كلّ أسبوع حتى ولو كان ذلك دون وعي؟"
(فرع بطرام)

1- غاية القداس إنما هي المناولة
من حقّ الطفل المعمّد- كما من حقّ كل مؤمن - أن يتناول في كل قدّاس، لأن القداس يُقام أساسًا من أجل المناولة التي هي اكتماله وذروته، والتي ليست في الأصل عملاً فرديًا يُقدم المرء عليه أو لا يقدم وفقًا لإعتبارات ذاتية، بل عمل الجماعة (هذا معنى عبارة "ليتورجيا" باليونانية) التي انما تحقق وحدتها عِبْرَ تناولها جسد الرب ودمه كما أوضح الرسول بولس بقوله: "فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك الا خبزٌ واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد" (1 كورنثوس 10: 17). لذا نرى الكاهن (أو بالأحرى لا نرى، لأن العادة قد جرت، للأسف، بأن يتلو هذه العبارات بصوت لا نسمعه!) يدعو الرب قبل المناولة مبتهلاً: "وارتضِ أن تناولنا بيدك العزيزة جسدك الطاهر ودمك الكريم، وبواسطتنا لكلّ شعبك"، هذا الشعب الذي لا يصير شعب الله بملء معنى الكلمة الا إذا اقتبل أفراده جسد الرب الذي "يجمع المتفرقين إلى واحد" (يوحنا 11: 52). لذا يهتف الكاهن بعد مناولة المؤمنين: "خلّص يا الله شعبك وبارك ميراثك".

2- موضوع "الوعي" وموضوع "التواتر" موضوعان متمايزان
ثم أن "الوعي" - أو عدم الوعي- ليس بالضرورة رهنًا بوتيرة المناولة. فقد يَتناول المرء مرة واحدة في السنة (كما جرت العادة سابقًا)، "بدون وعي" إذا كان يقصد من وراء ذلك مجرد القيام بعمل موسميّ تفرضه الأعراف الإجتماعية التي تربّى عليها في بيئته، دون أن يعني ذلك له شيئاً على صعيد الموقف الشخصي الإيمانيّ. وقد يتناول في كل قدّاس وهو واعٍ انه، بذلك، انما يتقدّم للقاء الربّ.

3- الهاجس التربويّ المشروع وراء السؤال

مع ذلك فإنني أدرك، كما أظن، الخلفيّة التي ينطلق منها السؤال، وهي خلفية تربويّة  مشروعة. وكأن طارحه (أو طارحته) يتساءل: كيف لنا أن نوجّه الولد بحيث لا تتحول المناولة المتواترة، عنده، إلى عمل روتيني خالٍ من أي معنى روحيّ ومن أي وقع حياتي؟

4- كيف السبيل إلى تلبية هذا الهاجس التربوي:
ليس هناك من "وصفة" تربوية واحدة للإجابة عن هذا التساؤل. فليُعمل المرشد فكره في الأمر انطلاقًا من ايمانه واخلاصه ومعرفته لأولاده. ولي أن أقترح أسلوبًا، على سبيل المثال، قد يكون مفيدًا.

أ- أن يُترك للأولاد حرّية التناول متى يشاؤون، بعد أن يكونوا، بالطبع، قد اطّلعوا مليًا على معنى المناولة (وهذا موضوع بالغ الأهمية وقائم بذاته) (راجع: ثانيًا)

ب- إلى جانب ذلك، فلتعتمد المجموعة (الفرقة، الشعبة) أحد آحاد الشهر لتتقدم معًا إلى مائدة الرب، وليسبق ذلك استعداد في الإجتماع السابق (لذلك الأحد، من شأنه أن يضع المناولة في إطارها الإيماني الصحيح، إطار التوبة والالتزام. وقد يتخذ ذلك الإستعداد الوجوه التالية (راجع أيضاً ما ورد في: أولاً):
* تتصارح الفرقة حول كل ما يسيء إلى المحبة في العلاقات الراهنة بين أفرادها (تنافر، مصادمات، تكتلاّت متقوقعة الخ...) وتسعى جاهدة إلى تجاوزه بالتصدّي لأسبابه ومعالجتها. ويشارك المرشد في هذه المكاشفة ليس فقط بادارتها وتنسيقها، بل بوضع نفسه، هو أيضاً، على المحكّ وتقبّله انتقادات الأولاد له، معترفًا ومستغفزًا عما قد يبدر منه من انقياد للغضب وفراغ صبر وسلطوية إلى ما هنالك.
** يتعهد أعضاء الفرقة بأن يوفّروا من مصروفهم الشخصي طيلة الأيام التي تسبق أحد المناولة (وهي أسبوع إذا كان الإجتماع يُعقد في الآحاد) من أجل مساعدة إخوة لهم، وأن يقدّموا (بما فيهم المرشد) ما تجمّع لديهم إلى رئيس الفرقة قبل قداس أحد المناولة. فتكون هذه التقدمة بمثابة تجسيد لمعنى القرابين التي يقدّمها المؤمنون عادة والتي إن هي إلا تعبير عن تقدمة الذات.

ج- هذا الإستعداد، إذا ما تمّ على هذا المنوال، شهراً بعد شهر، من شأنه، برأيي، أن ينسحب تدريجياً على كل مناولة يقوم بها الولد، سواء كانت مع فرقته أو بمفرده، وأن يطبعها بطابع الجد والمسؤولية ويحفظ لها أصالتها الروحية.

25/8/1990
ألقي الحديث في حلقة 26/8/1990

رابعاً: المناولة والأكل
"كيف يتصرف المسؤول في حال تقدّم أحد الفتية إلى المناولة وهو يمضغ قرباناً
(في حال ولدٍ حركيّ- في حال ولدٍ من الرعيّة)".
(فرع بشمزّين)

1- بأية روحية نتصرف؟
المهم قبل كل شيء، إيضاح الروحيّة التي ينبغي أن نتناول بها الموضوع. إذ كثيراً ما نتعرّض للإنقياد وراءَ طرح ناموسيّ (يجوز الأكل أو لا يجوز قبل المناولة) يسطّح الموضوع، ويشوّهه في الصميم، ويبعده عن روح الإنجيل ("كل شيء مباحٌ لي، ولكن ليس كل شيء يوافقني": 1 كورنثوس 6: 12) ويفرض على الولد موقفًا خارجيًا قد يتقيّد به انما دون أن يفقه معناه ودون أن يغيّر شيئًا في أعماقه. 

2- أولية توعية الولد
إن امتناع الولد عن الطعام قبل المناولة يجب أن يأتي لا نتيجة تحريم شبه سحريّ بل وليد قناعة تنطلق من إيضاح يقدّمه المرشد لمعنى هذا الإمتناع. 

3- كيف تتم هذه التوعية؟
هذا الإيضاح يمكن تلخيصه على الوجه الآتي (راجع أيضاً: أولاً)
لو كنت تعلم أن الرب يسوع سوف يأتي اليوم لزيارتك في بيتك (كما زار في الماضي زكّا)، لطرت فرحًا بلقائك المنتظر معه ولنسيت كلّ شيء ما عدا هذا الزائر الذي سوف يحمل إليك الحياة كلّها والفرح كلّه والنور كلّه. حتى انك لا تفكّر بتناول أي طعام لأنك مشغول عنه بما هو أهم منه بكثير في نظرك. ولكنك عندما تتناول فانك لا تستقبل المسيح في بيتك فقط، بل في داخلك، أي أن المسيح يجعل فكره في فكرك وقلبه في قلبك وحياته في حياتك، فلو أدركت ذلك جيداً، لما عدتَ تهتم بأي أكل أو شرب لئلا يلهيك ذلك عن الربّ الآتي اليك. ولكنك سوف تقول لي إن الفرق هو أنك لا ترى يسوع عندما يأتيك بالمناولة، ولذا فإنك تعرف أنه آتٍ اليك ولكنك لا تحسّ بذلك. هذا صحيح ولذلك فإنه يُطلب منك أن تمتنع عن الطعام قبل المناولة حتى يتسنّى لك لا أن تعرف فقط بل أن تحسّ - من خلال أحاسيس جسدك المحروم من الطعام- بأهمية ذلك اللقاء المرتَقَب بينك وبين يسوع، وبأن يوم هذا اللقاء انما هو يوم مميّز عن سواه من الأيام، التي تتناول فيها طعامك الإعتياديّ. 

4- كيفية التعامل مع الولد المخالف
انطلاقاً من هذا التوضيح، يمكننا أن نطالب الأولاد (بدءاً من شعبة "الزارعين"- 6 إلى 8 سنوات- برأيي) بأن يتقيدوا بقاعدة الإمتناع عن الأكل قبل المناولة. فإذا ما رأينا بعد ذلك ولداً يتقدم إلى المناولة وهو يمضغ قطعةً من القربان، يمكن أن نأخذه جانبًا ونستوضحه عن الأمر. هكذا قد نعرف منه أنه أقدم على هذا العمل سهواًَ أو أنه لم يعتبر قطعة القربان "طعاماً". في كل الأحوال نقول له إننا نرتأي أن يرجئ مناولته الى مرة أخرى، احترامًا للقاعدة الموضوعة بهذا الشأن. انما لا نكرهه على إرجائها.

أما إذا كان الولد المتقدم إلى المناولة وهو يمضغ قطعةً من القربان لم تُتَح له فرصة الإطلاع على ما يدعو إلى الإمتناع عن الطعام قبل المناولة (وهي غالبًا الحال التي يكون فيها ولد من الرعية غير منتسب إلى أسرة الطفولة)، فيمكن في هذه الحال أن نأخذه جانبًا ونقول له إن القاعدة هي أن لا يؤخذ طعام قبل المناولة، مضيفين: سوف أشرح لك القصد من ذلك لاحقًا، إذا شئت. إنما لا نحاول إكراهه بان يمتنع عن المناولة (فالقاعدة تبقى: "دعوا الأطفال يأتوا اليّ، لا تمنعوهم..." (مرقس 10: 14)).

25/8/1990
ألقي هذا الحديث في حلقة 26/8/1990 

22/4/1990 – 25/8/1990
ك.ب.