"- تأثير الحوادث على الأطفال من الناحية الاجتماعية، من الناحية الدينية، من الناحية السياسية ومن ناحية تربوية
"- ماذا تتوقّع أن يكون مستقبل الأطفال؟"
اسئلة طرحتها عليّ جريدة "السفير" في 12/11/1975، وأجبت عليها هاتفيًا في 13/11/1975 بما يلي:
إذا كانت الحوادث المفجعة التي مرّت على لبنان قد تركت آثارًا عميقة في نفوس الراشدين، فكم بالحري بالنسبة للأطفال الذين يجتازون فترة نموّ حسّاسة للغاية والذين لا يملكون بعد قدرة كافية على الوعي والتحليل تمكّنهم من استيعاب الأحداث والحدّ من عنف المشاعر التي تثيرها في نفوسهم.
الطفل بحاجة ماسّة إلى الأمان الذي هو من شروط نموّه السويّ. هذا الأمان يؤمّنه له إستقرار البيئة التي يعيش فيها. فإذا بالأحداث تحطّم هذا الاستقرار وتقلب وجه عالم الطفل المألوف: إذا بالشارع الآمن يتحوّل إلى مسرح للقنص والخطف، والطرقات إلى مقابر، والجار إلى عدوّ، وإذا بالموت يربض في كل مكان ويتخذ أبشع الصور، وإذا بالبيت يتعرض لرشقات القنابل والصواريخ فيتحوّل رمز الأمان إلى مكان يهدّده الخطر في كل لحظة. كلّ ذلك يهدّد بزعزعة تلك الطمأنينة الأساسية التي عليها يبني الطفل شخصيته ومنها ينطلق لإكتشاف المجتمع والكون.
ثم أن الطفل يحتاج إلى مقاييس يقدّمها له مجتمعه كي تنضبط بموجبها غرائزه وتنطبع فيه قِيَم الحضارة الإنسانية. وإذا به يرى المقاييس تنقلب رأسًا على عقب. لقد لُقِّن مبادئ المسالمة واحترام الغير وحسن المعاملة، وإذا به يرى مجتمع الراشدين يجنّ فجأة فيقدّم له صورة الاقتتال والتدمير والنهب والاغتيال والتعذيب. وكأن مجتمع الكبار ينقض فجأة ما حاول أن يزرعه في نفوس الصغار، ويثير فيها بسلوكه غريزة العدوان التي طالما اجتهد لردعها. الولد يحتاج إلى نماذج يتقمصها، من هنا شغفه بأبطال المجلات المصوّرة والأفلام. يُخشى بتأثير الأحداث أن يصبح البطل الجديد لدى الكثيرين من الأطفال ذلك المسلّح الذي يسحرهم فيه لا الدافع الذي حدا به إلى التسلّح بل مجرّد سلاحه المدمّر المدوّي الذي يتخذه شعور الطفل رمزًا لتأكيد للذات عدوانيّ.
أما من الناحية السياسية، فيُخشى أن تقود الصورة التي رسمتها الأحداث في نفوس الأطفال إلى مواقف سلبية قد تترك فيهم أثرًا بعيدًا، منها كفر بالسياسة عامة لإرتباطها في أذهانهم بمظاهر الاقتتال والدمار، أو اتخاذ موقف سياسي انفعالي بتأثير ما فجّرته الحوادث من انفعالات، أو الاعتقاد بأن الخلافات السياسية لا تُحسم إلا بالقتال. إلى جانب احتمال تلك الآثار السلبية فلا بدّ أن الأحداث المأساوية التي عاشها الأطفال قد ساعدتهم على اكتشاف أهمية البعد السياسي في حياة كل إنسان، كما أنها قد تتيح لبعض الأطفال الذين تتوفر لهم إمكانية الحوار مع الوالدين أو المربّين، فرصة اكتساب وعي سياسي مبكّر وبداية إدراك وتحسّس لقضايا وطنهم ولمسؤولية كل مواطن تجاهها.
أما من الناحية الدينية، فإن الوجه الطائفي البشع الذي اتخذته الأحداث، خاصة في المرحلة الأخيرة، قد يكون له أسوأ الأثر على الصورة التي يكوّنها الطفل عن الدين. لقد سمعنا الأطفال، في خضم الأحداث المفجعة، يطرحون أسئلة استيضاح حول المذاهب والأديان. ولكن الخطر كلّ الخطر أن ترتبط في أذهانهم فكرة الإنتماء الديني بفكرة التعصّب الحاقد والتناحر القتّال، مما يشوّه صورة الدين في نفوسهم، فيكفرون به أو يمارسونه على هذا النحو المنحرف. ولكن الأحداث المؤلمة يمكن أن تكون أيضًا بالنسبة لعدد من الأطفال منطلقًا للتمييز بين التديّن الصحيح والطائفية الفرّيسية التي بتنكّرها للإنسان الآخر باسم الله تكفر بالله في الصميم. فإذا أتيح لهم أن يجدوا أمامهم نماذج حية لتمييز من هذا النوع تنقّى شعورهم الديني وتوطّدت حاسّتهم الوطنية.
***
أما مستقبل الأطفال الذي عاشوا تلك الخبرة المفجعة، فمرتبط بعدة عوامل. منها وجود المربّين الواعين، من والدين وسواهم، الذين يسمحون أولاً للأطفال بالتعبير والتنفيس عما خلّفت الأحداث في نفوسهم من انفعالات مضطربة متناقضة، إن كان ذلك بالكلام أو بالألعاب أو بالرسوم وسواها، ويتخذون من هذا التعبير فرصة لحوار يسمح للطفل بأن يحيط، على قدر إمكانياته، بمعطيات الأحداث وجوانبها، فيتخطى الإنفعال ويكتسب مزيدًا من الوعي والنضج على الصعيد الفكري والاجتماعي والإنساني. كما أن هذا المستقبل مرهون أيضًا، وبنوع خاص، بمستقبل هذا الوطن، أي بالأوضاع التي سوف يؤول إليها بعد هذه الأحداث الدامية. فإن استطعنا أن نبني وطنًا يسوده الإخاء والإستقرار لأنه مؤسَّس على العدل والمساواة والإنماء الشامل وتكافؤ الفرص واحترام القانون، نكون قد أتحنا لأطفالنا فرصة تخطّي الصدمة والنجاة من القلق المدمّر والضياع. أما إذا لم يتغيّر شيء يُذكَر بعد تلك المآسي، وكأننا لم نتلقَّ أيّ درس من الفاجعة، فنكون قد أغلقنا على أطفالنا في دوامة مخيفة ودفعناهم إلى الكفر بنا وبالقيم التي ندّعي تمثيلها.
12و13/11/1975
ك.ب.