فتاتي،
أود أن أكتب إليكِ في موضوع غدا اليوم شائكاً، ألا وهو موضوع الجسد واللباس. فقد يثير هذا الموضوع الكثير من الخلاف بينكِ وبين بعض محيطكِ، فتتبادلين معهم، حوله، عبارات لا تحمّلينها أنتِ واياهم نفس المعاني، فيتعمّق الشرخ بينكم ويزداد سؤ التفاهم، وتتضايقين أنتِ وتشعرين أن ما يُسدى إليكِ من ملاحظات إنما هو تدخّل في شأن يخصّكِ وحدكِ.
مع ذلك سأسمح لنفسي بالدخول على الخطّ محاولاً إبداء رأيٍ لكِ في الموضوع قد تجدينَ فيه ما يختلف عما تسمعينه عادةً، راجياً إباكِ أن تعيريه بعض الإنتباه، لعلّه يرفع بعض الإلتباس ويُسهم في توضيح الأمور. لن أتعرض فيه للقواعد والأصول واللياقات والمحلّلات والمحرّمات، فإن هذا كلّه غالباً ما يُلهي عن مواجهة بيت القصيد. حتى أنني لن أتطرق إلا لماماً إلى الخلفيات الدينية، مع إنها جوهرية بنظري، لأنني أعلم كم أنها تفقد من معناها إذا سُلِخَت عن مرتكزها الإنساني.
هذا المرتكز سوف اعتمده بشكل أساسي في مقاربتي لموضوعنا، لعلّي ألتقي وإياكِ على أرضيّة تألفينها وتحسّين انها في تماسّ مباشر مع هواجسك.
فتاتي،
إنكِ تفخرين بجسدكِ في ربيع فتوته، وتتساءلين لماذا يصرّ البعض على منعكِ من كشف مفاتنه. وفي قرارة نفسكِ، التي لا تزال تحتفظ بكثير من براءة الطفولة وعفويتها، تحسّين أن جسدكِ هذا إنما هو عطية إلهية، ولا ترين مبرّراً لطمسها بحجبها عن الأنظار.
برأيي إنكِ محقّة، عزيزتي، باعتباره هبة من فوق، وفرحاً شاءَه الله لكِ ولعيون الناظرين إليكِ. فحكمتُهُ هي التي هندست تنسيقه وتركيبه البديع وجعلت منه قصيدة حيّة تشيد بعبقرية من دُعي بحق ” شاعر الأكوان”.
ليس لله مشكلة مع جسدكِ، كما قد يوحي لكِ كلام البعض، فهو صُنعُه وجِبلتُهُ. لا بل أن حنانه يبتسم، ولا شك، إذا تطلّع إليهِ وإلى مسحة البهاء فيه، التي إن هي إلا صورة، ولو ضعيفة، لبهائه هو الذي يفوق كل تصوّر.
المشكلة، عزيزتي، ليست في الجسد، الذي حباكِ الله إياه، إنما هي في الحفاظ على ما أسميّه ” حقيقة الجسد”.
قد تستغربين بحقّ هذا الكلام، لذا أُسارع إلى إيضاحه.
فما هي حقيقة الجسد؟ هل هي مجرد مجموعة من لحم وجلد وعظام وأعصاب، تتجلّى بأحجام وأشكال وألوان وحركات؟ إنها كل ذلك طبعاً، ولكنها أكثر من ذلك. فجسدكِ أبعد وأعمق من مظاهره، أبعد وأعمق من تقاطيعه وملامحه. إن جوهره ولبّه كامنٌ في ذلك الحضور الذي يطلّ منه ويتجلّى في حركاته وسكناته، في نبرات صوته ولحظات عينيه، وهو حضور شخصكِ الفريد الذي يتميّز عن كل آخر، والذي يُحبّه الله ويسعى إلى إلفة معه تختلف نكهتها عن نكهة علاقته بأي إنسان آخر.
في هذا الحضور تكمن حقيقة الجسد، كما تكمن حقيقة الكلمة في معناها لا في مجرد أصواتها.
فما الذي يحصل إذا عَرَّيتِ هذا الجسد أمام الملأ، رافعة عنه ما يستر الحميم منه عن العيون؟
إنكِ بالطبع لا تقصدين، إذ ذاكَ، سوى التقاط بعض نظرات إعجاب من شأنها أن تدعم ثقتكِ بنفسك التي تحسّينها أحياناً هشّة، يتخللها طلوع وهبوط. لا بل أنكِ ربما لا تبتغين سوى التلطيف من حرارة جوّ تضايقك، أو حرية أكبر لحركاتك، أو مجاراة للموضة تُشعرك بأنكِ من “بنات اليوم”.
ولكنكِ لا تفطنين إلى عمق التحوّل الذي قد يطرأ على نظرة الغير، حتى من كان منهم له سابق معرفة بكِ، إذا ما ظهرت هكذا أمامهم.
فإن هذه النظرة قد تتوقف إذ ذاك، من حيث لا تدرين ولا تقصدين، على مجرّد مظهرك ويتوارى عنها حضورك الشخصي، وكأن رنين الكلمة قد طغى على مدلولها وحجب معناها.
تبقى كتلة من جلد ولحم نابضة بالحياة، جذّابة، شهيّة، مثيرة، ولكنكِ أنتِ اختفيتِ وراء هذه الإثارة التي استحوذت على أحاسيس الناظر إليكِ وسلبت انتباهه.
فمن يثيره منظركِ لا يكترث عندها بما تفكرين وبما تشعرين وبما تهتمّين، إنه لا يبالي بآمالكِ وأحلامكِ، بهمومكِ ومشاكلكِ، بما تحبّين وبما تكرهين، كل ذلك، الذي هو قلب وجودك، غائب عنه. إنه مشغول عنكِ بهذه القطعة الحيّة من اللحم الطريء التي تعرضينها عليه باستهتار فيختزلكِ فيها بفعل نزواته ولا يعود بمقدوره أن يراكِ أنتِ عبرَها مع ما تحملينه من غنى المعاني.
في هذه الحال يبقى المَطَلُّ بإغرائه، ولكن لم يعد أحدٌ يُطِلُّ منه. فجسدكِ الذي هجره الحضور، تحوّل في نظر الغير، إلى مجرد شيء مثير، وبالتالي فقدَ ما يحمله من معانٍ إنسانية تعطيه وحدها حقيقته وفحواه.
قد يرضي ذلك ما فيكِ من غرور، ولكن ألا ترين معي أنه، في آخر المطاف، محبِطٌ لكِ في الصميم، لأنه يغيِّب هويتكِ، محولاً إياكِ إلى مجرد دمية قابلة للاستبدال بأية دمية أخرى تكون على نصيب أوفر منها من الإغراء؟
أكرِّر القول بأن هذا لم يكن بالطبع ما قصدتِهِ. ولكنها طبيعة الأشياء ومشيئة تجّار الأزياء وقد جرت هذه وتلكَ مجراها، مستفيدة من غفلتك.
فتاتي،
سيأتي يوم تُسقطينَ فيه الحُجُب عن جسدك. إنما سوف يكون ذلكَ أمام رجل تحبّينه ويُحبّكِ، وقد اختبرتما أن ميل أحدكما إلى الآخر ليس نزوة عابرة بل إنه تجاوب عميق وتفاهم في الصميم يتحديان الزمن. عند ذاك سيكشف كل منكما جسده للآخر، لأنه متيقن أن نظرة هذا الآخر تنفذ بالحب إلى عمق حقيقة الجسد المحبوب ومعناه الأخير.
عندها سيكون تواصل الأجساد معبراً إلى ينابيع حضور الآخر، وغوصاً إلى سرّ كيانه الحميم، وتذوقاً، في الجسد، لطعم وجوده الفريد.
فابنتظار ذلك اليوم، حافظي، فتاتي، على حقيقة جسدكِ وعمقه ومعناه. لا تقبلي بأن يتسطّح ويتسخّف ويُمتَهَن. هكذا تتأهلين، إذا ما حان الوقت ونضج الزمن، إلى الدخول معه ومن خلاله إلى بهجة ما يتوق إليه الحبّ من لقاء صميم يسعد به الحبيبان كلٌّ بالآخر ومع الآخر.
فكّري بما كتبتُه لكِ وكوّني لنفسكِ قناعة. وليُنِر ربّنا قلبكِ ودربكِ.
مع مودتي
طرابلس ـ الميناء 4- 8 /7/2004
ك.ب.