هذه إجابات عن اسئلة طرحتها عليّ، في 16/7/1994، الآنستان حنان معوّض واليان العمّ، مندوبتا "نهار الشباب"، وهي ملحق لجريدة "النهار"، وقد صدرت أجوبتي الخمسة الأولى في "نهار الشباب"، عدد 23/8/1994. أعيد تسجيل إجاباتي كلها، مع تعديلات أوردتها بين قوسين.6/2/2006
1- ما هي هواجس الشباب الأساسية؟
يعزّ عليّ أن أتحدث عن الشباب بشأن هواجسهم، وكأنّني أدّعي لنفسي حقّ الكلام نيابةً عنهم، بينما كان همّي دومًا أن اتحدث معهم، فاستمع اليهم وأصغي إلى ما يقولونه عن أنفسهم، وأكتفي بالتعليق عليه انطلاقًا مما أتيح لي أن أكتسبه من خبرة ومعرفة.
ألا أنه، وقد طُرح عليّ السؤال، فانني أسمح لنفسي بأن أذكر، في ضوء صلتي الطويلة بالشباب ومتابعتي الحثيثة لشؤونهم وشجونهم، (أفراداً وجماعات)، ما يبدو لي أنه يشكّل بعضًا من هواجسهم الأساسية.
الرغبة بأن يُعترَف بهم وبوجودهم الفريد وبمعاناتهم وأحلامهم.
2- ما هي أسباب الخلاف بين الأهل والأبناء؟
الموضوع واسع جدًا ومتشعّب وقد خصّصتُ له أحد كتبي، الصادر بعنوان "خلاف الأهل والأبناء" (منشورات النور، طبعة ثانية مزيدة، 1992)، والذي نقلتُ فيه آراء الشباب أنفسهم (عِبرَ استقصاء أُجري في إحدى المؤسسات التعليمية) حول أسباب هذا الخلاف، وكنت قد تعرضت قبلاً لهذا الموضوع في كتابي "مع تساؤلات الشباب" (منشورات النور، الطبعة الثالثة، 1985، القسم الأول، الفصل الأول: علاقة الأهل بأولادهم المراهقين)، ثم عدتُ إليه في حديث لي بعنوان "بعض الأضواء على تأزّم العلاقات بين الشباب ووالديهم" نُشر ضمن كتابي"هواجس شبابية حول الأسرة والحب" (منشورات النور، 1986) .
ما يمكنني أن أقوله هنا بإيجاز، هو أن ثلاثة عوامل تساهم بشكل أساسيّ في إذكاء خلاف الأهل والأبناء، ألا وهي الإختلاف بين الأجيال، ازدواجية الحبّ الوالديّ، وازدواجية المراهقة.
هذه النـزعة - التي توسّعت في عرضها في كتابي "مواقفنا من أولادنا: إمتلاك أم إطلاق؟" (طبعة ثانية، جرّوس برس، طرابلس 1994، مجموعة "نحن وأولادنا") - قد تتوسّل شتى الذرائع التربوية لبلوغ أغراضها (مع تستّر على حقيقتها)، فتحاول مثلاً تكبيل الولد بالأوامر والنواهي لشدّه إلى الوالدين، بحجة تجنيبه مخاطر الحياة. هذا ما لا يطيقه المراهق، الذي يتيقظ لديه وعي حادّ لفرادته الشخصة وإصرار مستميت على تأكيد استقلاليتها، لذا فهو شديد الحساسية لكلّ ما يبدو له، (عن خطأ أو صواب)، في محبة الأهل وحمايتهم وسلطتهم، إنكارًا لهذه الإستقلالية أو تهديدًا لها، فيتمرّد عليه ويرفضه (بعنف أحيانًا).
3و4- ما هو الحل؟ ما هي المقترحات العملية من أجل مواجهة التأزّم بين الأهل والشباب؟
هنا أيضًا اكتفي برسم بعض الخطوط العريضة.
5- هل من حبّ حقيقي في زمن المراهقة؟
هذا السؤال، والسؤالان اللذان يتبعانه، قد عالجتها بتطويل في القسم الثاني من كتابي المذكور أعلاه "هواجس شبابية حول الأسرة والحبّ". لذا أحيل القارئ إلى هذا المرجع إذا شاء الإستزادة.
مع ذلك، لا يجوز برأيي الإزدراء بحبّ المراهقة أو قمعه. فكأننا، إذا فعلنا، نقضي على البرعم وما يحمله من وَعد، بحجّة عدم اكتماله. إن حبّ المراهق انما هو عامل من عوامل نضجه، لأنه تعبير عن ديناميّة الحياة التي تشقّ طريقها عِبرَه، بما تعنيه من شوق إلى التواصل والمشاركة والإبداع والإنتعاش. وبالمقابل فإنه، كلما تقدّم المراهق في طريق النضج، كلّما أتيح لحبّه أن يزداد نضجاً وأصالة.
6- ما هي العقبات التي تعيق اكتمال الحبّ لدى المراهق؟
* "المراهق أنَويّ" بطبيعته. ليس بمعنى أنه أنانيّ، بل من حيث أنه منهمك- دون قصد منه ونظراً لطبيعة المرحلة التي يجتازها- بذاته التي بدأت تتمايز بحدّة عن المحيط، لا سيما العائليّ، والتي تستأثر حكماً باهتمامه من حيث ما يعتريها من نواقص وتقلّبات وتناقضات، وبسبب ضعف ثقته بقدراتها الناشئة وشعوره الأليم بأن المحيط لا يعترف بها ولا يتفهمها بما فيه الكفاية. من هنا أنه مشدود إلى ذاته بمزيج من الإعتزاز والقلق، همّه الأساسي أن يؤكد هذه الذات ويدعمها ويثبت قيمتها لنفسه ولسواه. هذا الإنهماك العفوي غير المقصود بالذات لا يدع للمراهق مجالاً كبيراً للإهتمام بفرادة الآخرين. مع أنه يتحسس هذه الفرادة انطلاقًا من شعوره الحادّ بفرادته. لذا نراه، في العلاقة الحميمة التي يقيمها، من صداقة (يعطيها هذا العمر قيمة كبرى) وحبّ، ينزع (لا شعورياً) إلى اتخاذ الشريك مرآة لنفسه يتوخّى أن تعكس له صورة عن ذاته تطمئنه إلى قيمته وقدراته. فالفتى مأخوذ، في الحبّ، بإثبات رجولته الناشئة وقدرته على ولوج قلوب الفتيات. والفتاة همّها، بالمقابل، التأكّد من أنوثتها وقدرتها الجديدة على الإغراء. كل ذلك، بالطبع وكما سبق وقلت، بشكل لا إراديّ وغير مقصود، إلى حد بعيد، (لا يزال يحمل الكثير من عفوية الطفولة). ثم إن ما يحدثه الحبّ من إثارة، وما يوقظه من أحاسيس ومشاعر جديدة وأخّاذة، من شأنه أن يستدعي لدى المراهق، وبفعل "أنويته" التي أشرنا اليها، تركيزًا مفرطًا على هذه الخبرة بحدّ ذاتها، إلى درجة أن موضوعها، وهو الشريك الذي تعاش معه هذه الخبرة، قد يغيب إلى حد بعيد وراء النشوة التي تُجنى من الإتّصال به. بهذا المعنى يجوز القول بأن المراهق كثيراً ما "يحبّ الحبّ" (وهي عبارة وردت في "اعترافات" أوغسطينوس الشهيرة، في معرض حديثه عن مراهقته) بحدّ ذاته أكثر مما يحبّ شخص المحبوب. من هنا نزعته العفوية إلى التنقل، في حبّه، من موضوع إلى سواه.
من جهة ثانية، فان ميل المراهق إلى الجنس الآخر، وهو أساس الحبّ، تشوبه الإزدواجية. فهو، من ناحية، مدفوع بقوة إلى اكتشاف هذا الجنس المختلف والمكمِّل، وإلى التواصل الحميم معه. لكنه، وعلى قدر شدة هذا الإندفاع وعمق انفعاله به، يتهيّب اقتحام هذا العالم الغريب عنه، (المغاير له) والمجهول منه، ويخشى الضياع فيه (والتلاشي في اختلافه)، كما إنه يرهب من الفشل في اكتساب ودّه وترحيبه (ومن انعكاس هذا الفشل على ثقته الهشّة بنفسه). من هنا أنه يصعب على المراهق أن يلتزم كلّيًا في علاقة حبّ، بسبب خوفه من الخيبة أو الأسر أو الضياع (والتلاشي). لذا تراه يحرص عفويًا على "حفظ خطّ الرجعة"، كما يقولون، حفاظاً على سلامة وأمان شخصية (لم تتوطّد بعد ثقته بقدراتها وتماسكها)، وصونًا لإعتبار للذات (لا يزال يعاني من هشاشته). هذا أيضًا ما قد يدفعه إلى التنقّل في الحبّ، إذ يوفّر بذلك على نفسه التزاماً يحسّه خطراً عليه.
7- ما هي صفات الحبّ الناضج؟
على نقيض ما وصفناه، فان الحب الناضج يذهب في مساره إلى آخر المطاف. يروح إلى أبعد من خبرة الحبّ وما تمنحه من نشوة وطمأنينة ودعم للذات، ليركّز على شخص المحبوب الذي منه تأتي هذه الهبات. من هنا تنبع عدة سمات يتميّز بها الحب الناضج. منها الرغبة في مشاركة الآخر في حياته، بما يقتضيه ذلك من تخطيط لمستقبل مشترك. ومنها رعاية موضوع الحبّ، والإهتمام الفعليّ بكلّ ما يخدم حياته ونموّه على كل الأصعدة، والشعور بالمسؤولية حياله، واحترام فرادته بحيث نريد له ان يحقق ذاته على طريقته الخاصة وليس وفقًا لمآربنا؛ والرغبة في تعميق العلاقة به ومدّها في الزمن بالوفاء له، بدل التشتّت بين علاقات متعددة، عابرة؛ والتوق إلى التعرّف اليه على أكمل وجه، لا عقلياً وحسب بل بكل الكيان.
هذا الحبّ الناضج مرشّح أن يبرز إذا ما تحرّر المراهق من انهماكه القلق بذاته. "فالحبّ وليد الحرية"، كما تقول أغنية فرنسية قديمة يستشهد بها المفكر والمحلّل النفسي "إيريك فروم".
8- بما أن "صوتك بيودّي" ما هي الكلمة التي تحبّ أن تتوجّه بها إلى الشباب؟
أعتقد أنه، إذا كان "صوتي بيودّي" حقيقة، كما تتلطّفان فتقولان، فانما هذا عائد لكون هذا الصوت قد حرص على أن يكون صدىً لما كانت تحمله إليّ أصوات الشباب من تساؤلات صاغها قلقهم ومعاناتهم وعطشهم إلى الحقّ والحياة.
من هذا المنطلق ومنه فقط، أسمح لنفسي أن أتوجّه إلى الشباب في ختام هذه المقابلة. أتوجه اليهم باسم كل الذين تجاوزوا مرحلة الشباب بقليل أو بكثير، وأنا من هذه الفئة الأخيرة، فأقول:
اننا، ولو كنا لا ندري، بحاجة إلى توثّبكم، ولو أزعجنا، لنستيقظ من سباتنا وغفلتنا، وننتعش ونتجدّد ونكتشف للحياة طعمًا وجدوى. فحافظوا على هذا التوثُب، حافظوا على توقكم الملحاح إلى التغيير الجذري والشامل الذي وحده "يجدد وجه الأرض". لا تَدَعوا بريق السِلَع المعروضة دون هوادة على نزواتكم وغروركم، تخدّر وتطفئ الطموح الذي فيكم. لا تنخدعوا بدعوة الكثيرين منا لكم إلى "واقعية" ضعيفة، مستقيلة، مستسلمة،خانعة، مقصوصة الجناحَين.
تعلّموا، بالطبع، واقعية الأساليب وقواعد الإنجاز الناجح- بما يقتضيه ذلك من تحصيل علميّ رصين- وخذوا على محمل الجدّ بُعد الزمن وما يقتضيه من نَفَس طويل. وأما من حيث الأهداف، (فحافظوا على أَلَق الرؤيا وجذريتها)، ولتبقَ أهدافكم مجنّحة بالحلم، مترامية الآفاق، رحبة المدى، لأن "الواقع"، خلافاً لما يصوّرون، ليس كتلة جامدة، حدّدتها الأقدار مسبقًا، انما سيكون، إلى حدّ بعيد، ما يرسمه طموحكم والتزامكم وسخاؤكم.
اننا بحاجة إلى ما يلتهب فيكم من عطش إلى معنى للحياة يجعلها جديرة بان تُعاش، معنى يتجاوز مجرّد أسباب العيش التي يلهث وراءَها مجتمع الإستهلاك الذي يغزو عالم اليوم، معنى يعطي العيش قيمة وأفقاً، ويجعله جديراً بانسانية فينا هي نبلنا الوحيد. لا تصدّقوا من قال لكم منّا انكم خياليون اذا لم تتخذوا من كسب المال والسلطة مبرّراً لوجودكم. إن كآبة العالم الذي يصنعه هؤلاء (والتي تتراءى وراء اهتياجه وضجيجه)، تكفي لدحض دعواهم. انها كآبة عالم ينتشر فيه البؤس والعنف والمخدرات، إلى جانب العبثيّة والسأم. أما أنتم، فرجاؤنا اليكم أن لا تقبلوا عن الفرح بديلاً، (على المشقّة التي تقتضيها أصالته). إذ ذاك تتفجّر تحت أقدامكم، في صحاري قحطنا، ينابيع ماء حيّ.
23/7/1994
ك.ب.