حول اقتدار ضعف الله – من وحي هذا الزمن الرديء
يا ربّ،
في خضمّ الأجواء المأساوية التي يعيشها عالمنا، تبرز إلى ذهني هذه العبارة التي خطّها خادمك الأمين، الأب ليف جيلله، في أحد تأملاّته الملهَمَة : "حينما كان العالم يتنازع على العظمة والسلطان، وضع الله في وسط البشر طفلاً يرقد في مزود" (Le visage de lumière, 1966,p.58).
ربّي، لا يزال العالم اليوم على ما كان عليه، ولا زلتَ أنت تنصب في وسطه هذه العلامة المذهلة، المحيّرة، المتحدّية، شبيهة بذلك البياض الناصع الذي تصوّره أيقونة الميلاد ملتمعًا في أقمطة الطفل المطروح في سواد المغارة.
"والنور يضيء في الظلمة"، ظلمة الشرّ والموت، ولن تقوى الظلمة، مهما كثُفت، على إخماده.
عالمنا، يا ربّ، يضجّ بصراعٍ في منتهى الضراوة على الهيمنة والسلطان، يطلقه الأقوياء السكارى بجبروتهم، ويستدرجون إليه المستضعفين، ضحايا ظلمهم وقهرهم وإذلالهم، الثائرين لكرامتهم المداسة، وإذا بالجميع أسرى دوّامة جهنمية من الفعل وردّ الفعل الهمجيَّين، يتبارَون فيها على السحق والمحق والتقتيل والتدمير، زارعين في أرجاء الكون الموت والخراب والخوف والألم والدموع.
والأدهى من ذلك كلّه، إنهم، يا ربّ، يسمّون "صراع الهمجيّات" هذا، "صراع الحضارات"، ولا يتورّعون من أن يتّخذوا منك، في آخر المطاف، وفي أديان التوحيد الثلاثة، حجّة وغطاءً لدمويّتهم.
أَشَدُّ ما يؤلمني، يا ربّ، أن يكون قارعو طبول الحرب اليوم، والذين يعدّون لها عدّة مخيفة من الجحافل والأساطيل وأَفتَكَ ما ابتكرته التكنولوجيا الحديثة من وسائل التدمير، ويتهددون ويتوعدون، ويتغطرسون دون حياء، سعيًا إلى زعامة عالمية يجاهرون بأنهم لا يقبلون عليها منازعًا، إنما هم من المحسوبين على مسيحك، والمجاهرين أحيانًا بانتمائهم إليه في معرض عرض عضلاتهم هذا.
وكأنَّ طفلَ المزود ومصلوب الجلجلة لا يتعدّيان كونَهما نوعًا من الحفلة التنكرّية أقمتَها، يا ربّ، منذ ألفَي سنة وانتهت، أو مجرّد دور مسرحيّ مثَّلتَه ثم أُسْدِل الستارُ عليه، وكأنك عدتَ بعد ذلك تَتربَّعُ على عرش تلك الصورة الساحقة الشائعة، التي رسمتها عنك من قديم الزمان، ولا تزال، مخاوف البشر وأحلامهم المُجْهَضَة بالهيمنة والتسلّط يسقطونها عليك.
ولكن أمامَنا قولُ مسيحك يدحض نهائيًا هذه الأوهام: "من رآني فقد رأى الآب" (يوحنا 14: 9).
نعم، يا ربّ، لا رؤية لك إلا من خلال وجهه. مستحيل أن نعرفك حقّ المعرفة إلا في طفل المزود ومصلوب الجلجلة، وفي العلاقة الوثيقة التي تبرزها طقوسنا وأيقوناتنا بين الميلاد والصلب.
إذ "الصبي الجديد" الذي "وُلد من أجلنا"، إنما هو، حقيقة لا شكلاً، "الإله الذي قبل الدهور"، والمصلوب إنما هو، حقيقة لا شكلاً، "ربّ المجد" كما أوضح رسولك بولس (1 كور 2: 8).
إن ظهورك، يا ربّ، لنا، طفلاً فقيرًا شريداً، أي جامعًا في ذاته وجوهًا ثلاثة للضعف، مُضجَعًا في مزود حقير أُعدّ للبهائم، إن إطلالتك علينا في هشاشة طفل بيت لحم لم تكن من باب التمويه، بل كانت إعلانًا جوهريًا عن حقيقتك، كشفتَ لنا به إنك تتجلّى للبشر لا بقوّة جبّارة تُكرهُهم، ولا باقتدار فائق يفتن ويغوي لبَّهم، بل بصورة الملتمس التي يقرع بخَفَرٍ على باب قلوبهم لعلّها تسمع صوته وتفتح له الباب طوعًا.
كشفتَ لنا به أيضًا أَنك تشارك الناس معاناتهم منذ بدء الخليقة وحتى تضع حدًّا لأوجاعهم، وأنك انحدرت إلى بؤسهم لتحمله معهم، آخذًا إياه على ذاتك منذ اللحظة التي فتح فيها مَسيحكَ عينيه على دنيانا.
ضعفك الطوعيّ هذا، يا "ربّ القوّات"، ليس نقيضَ القوة. بل إنه ذروة التعبير عن مداها، لأنك به، بهذا الضعف الاختياري بالذات، تُظهر تفوّقك، لا على الأشياء كلِّها فحسب، بل وعلى اقتدارك نفسه، تُظهر أنك أعظم من اقتدارك، وأنك تقوى عليه وتتجاوزه بالحبّ، تُظهر أنك الـ hypertheos، الإله فوق الإله، أي الإله الذي يسمو فوق كل تصوّر بشريّ عن الألوهة.
إقتدارُ ضُعفكَ هذا تجلّى على الأرض عندما اقتحم المصلوب بيديه المضرَّجَتين بدمائه هو، لا بدماء الذين تآمروا للقضاء عليه ظلمًا، أبواب الحياة، ففاضت فيه بالقيامة، وتدفّقت، نابعة منه، في أرجاء الكون، حيث انتشرت، بفعل قدرتها الظافرة، بشارته، بسرعة النار في الهشيم، على يد رسلٍ عُزَّلٍ، عراة الأيدي، ولم يقدر كلّ جبروت الإمبراطورية الرومانية المترامية الأطراف، المدجّجة بالسلاح، أن يقف بوجهها، فتحقّق بذلك ما كان قد تنبّأ به يسوع بقوله:" وأنا إذا ارتفعتُ أَجذُبُ إليَّ الجميع" (يوحنا 12: 32).
نعم، لقد صدق رسولك بولس عندما هتف: "إن ضعفَ الله أقوى من الناس" (1كور 1: 25). هذا ما شهد به، في القرن العشرين، الشاعر المسلم الكبير أحمد شوقي بعبارات كانت في الأصل موجَّهة إلى قائد عسكري مسيحي في الحرب العالمية الأولى، ولكنها تصفع اليوم هؤلاء المسيحيين الذين يدّعون استلهام كنابك لتبرير اغتصاب القدس بالغطرسة والطغيان، وقد أيّدته دولتهم في الآونة الأخيرة. أبيات أحمد شوقي إن هي إلا بمثابة نشيد رائع لتسبيح اقتدارك الظافر في ضعف الصليب:
"يا فاتحَ القدس خلِّ السيف ناحيةً ليس الصليبُ حديدًا كان بل خَشَبا
إذا ما نظرتَ إلى أين انتهت يـدُهُ وكيفَ جـاوَزَ في سلطانِهِ القُط
علمت أن وراء الضعـفِ مقدرةً وأن للـحقِّ لا للـقوّةِ الغـَلـَبا."
إهْدِنا، يا إله المزود والصليب، بولادة مسيحِك اليوم فينا، إلى هذا الضعف الذي هو منتهى القوة لأنه منتهى الحبّ، الذي هو أبعد ما يكون عن الجبن والتخاذل والانسحاب لأنه مجابهة للشرّ، لا استكانة فيها ولا مساومة، وحتى الموت إذا اقتضى الأمر، إنما دون الانحياز إليه بالتواطئ مع أساليبه. أهَّلنا أن نحيا ضعفك المقتدر ونشهد له، طريقًا لقيامتنا ومنقذًا لعالمنا من دوّامة العنف والموت.
يا ربّ، يا من وَحَّدتَ ذاتك، في طفل المزود ومصلوب الجلجلة، بكلّ بائس ومحروم، إِرفع نير الظلم والحرمان والقهر عن الشعوب والفئات المستباحة، وما أكثرها في عالمنا اليوم؛
ليّن تحجّر قلوب الظالمين، أيقظ ضمائرهم، حرّرهم من خداع أنفسهم، إهدِهِم إلى ما فيه استعادة إنسانيتهم وانعتاق صورتك فيهم من العقالات التي تكبّلها، هَبهم أن ينظروا إلى ما هو أبعد من مصالحهم الفئوية الضيقة ليدركوا أهمية الإنسان، كلّ إنسان، فيصبحوا إذ ذاك بشرًا بالحقيقة لا آلاتِ هيمنة وعدوان؛
ألهم شعوب الأرض، بما فيها شعوبهم، التصدّي الفعّال لخططهم التآمرية التي تعود بالوَبال على السواد الأعظم من الناس، وامنح تلك الشعوب القدرةَ على إجهاضها؛
أعضد الذين، من كل العقائد والمذاهب والأديان، ومن كل الألسن والأجناس، يعملون بوحي من روحك، عَلِموا أم لم يعلموا، فينتصبون، في كل أقطار العالم ليقفوا بصلابة في وجه الظلم والحرب، مستبعدين العنف في نضالهم الشجاع، كهؤلاء النصف مليون من محبي العدل والسلام الذين تظاهروا مؤخرًا في فلورنسا ضد مشاريع المتغطرسين، دعاة الهيمنة والحرب؛
حتى يقترب الوقت الذي يتحقّق فيه فعلاً، على أرض الواقع الملموس، فحوى النشيد الملائكيّ: "المجد لله في العُلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرّة". آمين
16/11/2002-و7/12/2002
ك.ب