" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
وجه إنجيلي مُشعّ

وجه إنجيلي مُشعّ
في رائعة أدبية روسية معاصرة

تعريف بالرواية

رواية “أولاد الأربات”رائعة أدبية من تأليف الكاتب الروسي أنا تولي ريباكوف. تجري حوادثها سنة 1934، وهي السنة التي بدأ فيها الحكم الستالينيّ يتحوّل إلى مرحلة رهيبة من التفرّد والطغيان. يصوّر لنا الكاتب هذا التحوّل وما أخذ يلقيه على البلاد من ظلال الشكّ والريبة والوشاية والظلم والإرهاب، وفي وسط كلّ ذلك مجموعة من الشباب، هم ” أولاد الأربات ” (والأربات أحد أحياء موسكو)، شبان وشابات يدرسون ويعملون ويلتزمون ويلهون ويحبّون ويحلمون.

 ويتأثر واحد منهم، “ساشا” (تصغير اسكندر)، وهو من أفضلهم، بالأجواء السياسية المتلبدّة، فتُجهَض أحلامه وينقلب مصيره رأساً على عقب. بدأ ريباكوف بكتابة روايته سنة 1966، ومنعت الرقابة السوفياتية صدورها حتى سنة 1987. ولكنها، لما ظهرت أخيراً، في ظل الأجواء التحررية التي بدأت تنتشر في عهد “البرسترويكا” التي أطلقها غورباتشيف، أحرزت نجاحاً منقطع النظير فبيع منها مليونا نسخة في الاتحاد السوفياتي وتُرجمت إلى 26 لغة.
ومن ترجمتها الفرنسية الصادرة سنة 1988 بعنوانLes enfants de l’Arbat  استقيتُ هذا المقطع اللافت الذي أحببتُ أن أنقله لقراء نشرة “نبع المحبة”.

سياق المقطع: شخصية “ساشا”
ولكن لا بدَّ، قبل ذلك، ومن أجل وضع المقطع المشار إليه في سياقه، من ذكر بعض ما سبقه من حوادث الرواية، فنتعرّف على شخصية أحد أبطالها، وهو “ساشا”، البالغ من العمر 22 سنة. “ساشا” شاب خلوق، بارز الشخصية، مِقدام، يدرس الهندسة في أحد معاهد الدولة في موسكو وينتمي إلى شلّة من الرفاق والرفيقات، وهو عضو نشيط في منظمة “الكومسومول”Komsomol  (أي الشبيبة الشيوعية) وبالغ الإخلاص لمبادئ حزبه.

ولكنه على قسط كبير من الاستقلال الفكريّ، مما أعطى ذريعة لزبانية النظام لأنْ يتهموه بالضلوع بمؤامرة تصوّر خيال ستالين أن أقطاباً من الحزب يحيكونها ضده وبالتالي ضد البلد والنظام. نتيجة ذلك طُرد “ساشا” من المعهد ثم اعتُقل وحُقق معه، ولما رفض أن يتّهم زوراً نائب مدير معهده، كما اقترحت عليه الشرطة السياسية، حُكم عليه بالإبعاد لثلاثة أعوام إلى مجاهل سيبيريا ليُعاني خلالها من شظف العيش وقسوة المناخ (علماً أنه كان محرّماً عليه نهائياً، بعد انتهاء فترة عقوبته، أن يعود إلى موسكو ليقيم فيها).

 بدأ “ساشا” رحلته الطويلة والشاقة إلى مكان منفاه. ومن محطات هذه الطريق كانت قرية زايمكا حيث توقّف ليقضي الليل في أحد بيوت السكان لقاء أجرٍ يتقاضونه منه. هناك التقى الأب فاسيلي، وهو الشخص الذي أعطى لهذا المقال عنوانه.

هنا سأنقل ما ورد في الرواية. إنما أرى لزاماً عليَّ، قبل مباشرتي بذلك، أن أوضح أن “ساشا” نشأ في ظل الاضطهاد المنظّم الذي شنّه النظام على الكنيسة والذي كانت غايته تقليص الإيمان إلى أبعد حدّ تمهيداً لمحوه نهائياً. لذا لم يتلقَّ “ساشا” تربية دينية وكان، رغم طيبته، غريباً عن أمور الدين.

مضمون المقطع: صورة الأب فاسيلي
كان البيت الذي دخله ساشا في قرية زايمكا، بيتاً قروياً فسيحاً تسكنه امرأة وزوجها وولداهما المتزوجان مع اسرتيهما. قالت ربّة البيت لساشا: “سوف يأتي الأب فاسيلي فتتعشّيان معاً”.

هنا أعطي الكلام للكاتب:
“دخل كاهن. كانت له لحية كستنائية فاتحة وكان وجهه رقيقاً كوجه أيقونة. خلع معطفه وجزمته وارتدى جبة للاستعمال الداخليّ. قدّمت ربّة البيت سمكاً مُجفَّفاً وبيضاً مخفوقاً وحليباً. وبينما كان يأكل، سأل الأب فاسيلي ساشا من أين أتى وإلى أين هو ذاهب وأين وُلد ومن هما والداه. وعرَّف عن نفسه أنه أيضاً من المبعَدين. لم يسأل ساشا لماذا حُكم عليه ولم يتحدث عن نفسه.

“بعد العشاء، انتقلا إلى غرفة مفروشة بسرير وطاولة صغيرة، كان يسكنها الأب فاسيلي. كانت تخيّم على الغرفة رائحة معسولة كما في الكنائس.

“اقترح الكاهن على ساشا أن: اخلع حذاءَك وخذ حمّاماً لرجلَيك. بعد ذلك سوف تشعر أنك بحالة أفضل.
“أتى (الكاهن) بقِدر معدنيّ مليء بالماء المغليّ، وبدَست وصابون ومنشفة. وما كاد ساشا يضع رِجليه في الماء حتى استسلم لنعيم عجيب.

“كان الأب فاسيلي، وهو مُسند ظهره إلى الباب، يلاحظه وعلى وجهه إمارات رفق فائق الحدّ. أما ساشا، فلما تملّى في النظر إليه، اكتشف أن الكاهن كان يبدو فتياً جداً. في البداية كان قد خُيِّل إليه أنه رجل مُسنّ، وذلك بسبب اللحية، والجبّة، ولكونه كاهناً، ولأن تصوّرْ ساشا للكاهن كان يفترض أن أي كاهن لا يمكن إلا أن يكون شيخاً، كون رجال الكنيسة كلّهم كان يُفترَض أن يعود عهدهم إلى ما قبل الثورة.

“_كان بالإمكان تحمية حمّام البخار، قال الأب فاسيلي، ولكنه موجود على ضفة النهر، لذا كان بالإمكان أن تصاب بالبرد عند عودتك، في حين أنك مضطر إلى متابعة الطريق.
“_ أجد الأمر بديعاً على هذه الصورة، أجاب ساشا، وأقدم لك الشكر.
(…)
“_ ينبغي الآن غسل قدميك بالصابون. مهلاً، سوف أ غسل أنا رجليك.
“وتناول الأب فاسيلي قطعة جنفاص صغيرة.
“(حاول ساشا أن يتمنّع):
“_ كلا، لا ينبغي أن تفعل ذلك، سوف أفعله بنفسي.
“لكن الأب فاسيلي كان قد سبق فغمس قطعة الجنفاص في الماء ومرّغها بالصابون وركع وبدأ يغسل رِجْلَي ساشا.
“فاحتجّ ساشا، كان بودّه أن يتفلّت ولكنه كان يخشى، إذا فعل، أن يرش بالماء أرضيّة الغرفة.
“_ دعني أفعل، قال الأب فاسيلي بنبرة أخوية. فهذا أهون عليّ منه عليك.
“أخيراً توصّل ساشا إلى انتزاع قطعة الجنفاص منه.
“فمسح الأب فاسيلي يديه (وقال):
“طيّب. أغسل نفسك بنفسكَ.
“_ ما هي مشاغلك؟ سأل ساشا.
“_ أقدّم بعض المساعدة لهذه العائلة، ويقدّمون لي الطعام بالمقابل. الناس طيّبون هنا، ولله الحمد. إنهم يمارسون المحبة، يردّون لك ما تفعله لأجلهم (…) الزوجان يعيشان بالاتفاق. وكما ترى، فانهما قَبِلاني. مع إنهما ليسا بمؤمنَين (…)

“_ هل أنت تقيم القداس؟
“_ الكنيسة أُغلقت. إنما تبقى الكلمة والتعزية.
“كان ساشا قد نشّف قدميه وكان يلبس جَوربَيه.
“_ تمدَّدْ ونَم، نصحه الأب فاسيلي.
“_ سأفعل ذلك حالما أفرغ الدَست.
“_ سأقوم بذلك بنفسي. فأنت لا تعرف هذا المكان.
“عاد الأب فاسيلي بقطعة جنفاص وفرك بها أرضية الغرفة وذهب بالقِدر. بعد عودته، كشف السرير وقال:
“_ تمدّد.
“_ وأنت؟
“_ سأجد مكاناً لنومي. فأنا هنا كأني في بيتي
“_ لن أقبل هذا قط! سأنام على أرضيّة الغرفة.
“_ إذا فعلتَ سينتابك البرد. أما من جهتي، فسأذهب وأنام فوق التنّور.
“_ بوسعي أن أفعل أنا ذلك!
“_ سبق أصحاب البيت فناموا هناك. فإذا ذهبتَ سوف توقظهم، في حين أنني أعرف أنا كيف لا أزعجهم.
“كان يتكلم برقّة إنما، وراء هذه الرقة كان يُلمَس تصميم إنسانٍ لن يحوّله شيء عن أداء واجبه، واجب إعطاء كل شيء، حتى إذا كان المرء لا يملك سوى دَست من الماء الساخن وسريراً من الأخشاب.
فوجئ ساشا بطراوة غطاء السرير (الشرشف): فمنذ وقت طويل لم ينم على شراشف، ومنذ وقت طويل لم يتسنَّ له أن يلتفّ بغطاء. تغطّى وتلفّت نحو الجدار وغفا.

“كانت خبرة السجن قد علّمته أن يبقى يقظاً أثناء نومه. أيقظه حفيف قماش. كان الصبح قد طَلَعَ. وكان الأب فاسيلي ينهض من النوم. كان قد نام على الحضيض ملتفَّاً بعباءته المبطَّنة بفرو. جلس ساشا في السرير:
“_ كنتَ قد زعمتَ أمامي أنك سوف تنام فوق التنّور.
“_ حاولتُ، أجاب الأب فاسيلي بمَرَح، ولكنني وجدت الأماكن مشغولة كلّها. فاستقررتُ هنا، وكنت في تمام الراحة، ونمت بشكل عجيب.
“_ برأيي إنه ينبغي أن لا تترك سريرك لأول عابر سبيل. فعدد هؤلاء أكثر من أن يكفيهم رجل واحد.
“_ عددهم أكثر؟ هذا غير صحيح، احتجّ الأب فاسيلي فيما كان يمشّط شعره المجدول أمام مرآة جيب علّقها إلى الحائط. فلم يأت أحد منذ ثلاثة أشهر (…) ربما حصل ذلك مرة أو مرتين في السنة. قليل عليّ أن أترك لكَ سريراً أنام أنا فيه كل ليلة، في حين أن رقادك فيه يمنحك أنت بعض الراحة. عُد إلى النوم، فلا يزال أمامك مُتسع من الوقت.
“قال هذا وخرج. فانقلب ساشا إلى الجانب الأيسر وغاص حالاً في النوم.
“أيقظه الأب فاسيلي. كان عائداً من الخارج، فخلع جزمته وارتدى جبّة الداخل وقال:
“_ انهض الآن. لقد حان الوقت. اغسل وجهك لتتناول الترويقة.
“كانت الترويقة تشمل هذه المرة أيضاً بيضاً مخفوقاً (…) وشاياً (…). كانت الأسرة بأكملها قد ذهبت إلى العمل ما عدا ربة البيت التي بقيت قرب التنّور.
“_ ما عمرك؟ سأل الأب فاسيلي.
“_ اثنا وعشرون عاماً، أجاب ساشا. وأنت؟
“_ سبع وعشرون.
“_ وكم بقي لك من عقوبتك؟
“_ لم يبقَ الكثير. فقد حُكمت بثلاثة أعوام. اثنان منها انقضيا. لم يبق سوى عام واحد. أحُنُّ إلى بلدي ولكن فكرة الرحيل تحزنني، لأنني اعتدتُ على العيش هنا.
“تدخّلت ربة البيت وقالت:
“_ امكث هنا إذاً، ما النفع من رحيلك؟ بوسعك هنا أن تتزوّج. وليست روسيا المكان الذي سيسمحون لك فيه بأن تخدم الله.
“_ يمكن خدمته في كل مكان، أجاب الكاهن.
“ثم التفت نحو ساشا:
“_ في البداية، سيبدو لك الوقت طويلاً، ثم سوف تعتاد. لا تفقد شجاعتك. لا تَدَع قلبك يقسو، فالخير يلي الشرَ دائماً (…)
“طرقت يد على زجاج النافذة. لقد حانت ساعة رحيل ساشا.
“_ بكم أنا مدينٌ لكِ؟ سأل ربة البيت
“_ لست مديناً بشيء، أجابت.
“_ لا تجرحها (برفضك)، تمتم الأب فاسيلي.
“ثم رافق ساشا وأعانه على وضع حقيبته في المكان المناسب (…)
“مدّ ساشا يده إلى الأب فاسيلي:
“_ إلى اللقاء، وشكراً على كل شيء.
(…)
“فليبسط الله عليك حفظه المقدّس، قال الأب فاسيلي”

تعليق: ينقلنا هذا السرد بدقّته المحكَمة وبساطته الموحية إلى قلب الحياة النابض، ويبيّن لنا كيف أن المحبة تضيء أحلك الظروف وتشيع فيها الدفء والأمل، وذلك عبر رسمه صورة هذا الوجه الإنجيلي المشعّ، وجه كاهن أرثوذكسي _ لا بدّ أنه يلخّص صور شخصيات كهنوتية واقعية التقاها المؤلف _ كاهن تحرّر بالحب وبلغ به الفرح وسط الضيق الذي كان يعانيه في زمن الاضطهاد، فصار لسواه معزّياً ومعيناً. لن أتحدث تفصيلياً عن سمات الأب فاسيلي، أترك ذلك للشباب إذا أرادوا أن يتدارسوا هذا النص في فرقهم. اكتفي بالقول إنه كان إنجيلاً حيّا. لم يُذكر الله إلا ثلاث مرات، وبشكل عابر، في هذا النص، لكن كل أعمال الكاهن وتعابيره تُشير إليه وتتحدث عنه وتشهد لحنانه الفائق. لقد استوقفتني بنوع خاص، في شخصية الأب فاسيلي، صورة “السامري الشفوق” وتعاطفه الفاعل الدؤوب مع الغريب الذي صادفه في طريقه، وصورة “المعطي المتهلّل” الذي، على شاكلة أرملة الإنجيل، يعطي لا من فضلته بل من عوزه. أخيراً لا آخِراً أرى فيه بهاء ارتسام صورة السيد عندما ركع وغسل أرجل التلاميذ.

عن:
Anatoli Rybakov: Les enfants de l’Arbat (1987), traduction française,
Le livre de poche, n 7730, LGF, Paris, 1991, pp. 367-371

3/12/2000