لما تلطّفت رئيسة فرع الميناء، الأخت المهندسة مايا بنضو، فطلبت مني أن أكتُب كلمة تُتلى بمناسبة هذا اللقاء، لم يخطر على بالي، للوهلة الأولى، أن بإمكاني أن أقدّم مساهمة تفيد. لذا اعتذرتُ منها. ولكنني غيّرت رأيي بعد حديث جرى مؤخراً بيني وبين العزيز فؤاد دروبي وتناول بعض جوانب حياة ماري، عمته ونسيبتي، فصمّمتُ على الإقدام على الكتابة. ولم يكُن هذا الانقلاب بالأمر المستغرَب إذا ما وُضِعَ في سياق مساري. ذلك إن جلَّ كتاباتي لم ترَ النور إلا لأنها انطلقت من تفاعلي مع الشباب وبوحي مما قلناه معاً في لقاءَاتنا.
دور ماري في تأسيس أسرة الطفولة
بين الجوانب المتعددة لشخصية ماري الغنية، لم أعرف عن كثب وفي العمق إلا ذاك الذي تجلّى لي خلال ترافقنا، الذي امتدَّ على بضع سنين، في اطلاق أسرة الطفولة في الميناء، بعد أن وصلت اليها الحركة سنة 1944 إذا لم تخني الذاكرة.
ففي عام 1945، أسندَ اليَّ رئيس مركز طرابلس آنذاك، جورج خضر (المطران جورج حالياً) الاشراف على العمل الثقافي في منطقة الميناء، فتركزَّ اهتمامي، بالدرجة الأولى، على اطلاق عمل تربية دينية حيّ بين الأطفال. وقد رويت بالتفصيل خبرتي هذه وجذورها في مداخلة كتبتها سنة 2005، بمناسبة احتفال فرع الميناء بالذكرى الستين لهذا الحدث، وأشرتُ حينذاك إلى دور ماري المميز فيه، كما يُمكِنكم أن تلاحظوا إذا عدتُم إلى النصّ المُستنسَخ لهذه المُداخلة وهو يحمل عنوان "عودة إلى الينابيع". كانت ماري في الثامنة عشرة من عمرها عندما انضمت، بدعوة مني، إلى فريق من الفتيات بعضهن، وهما ملكة مشحم وجوزفين بندلي، سبقن ماري إلى الانتقال إلى رحاب الله، والبعض الآخر، كأليس بندلي وجورجيت توما وغلوريا بندلي، ما زال على قيد الحياة. خاضت ماري معي ومع هؤلاء الفتيات اللواتي كنَّ مثلها في مقتبل العمر، مغامرة اطلاق وجه للعمل التربوي الديني، كان جديداً آنذاك في كنيستنا الانطاكية واستلهمته لاحقاً بفعل تلقائي سائر المراكز الحركيّة.
لم تكن ماري قد تمكنت من متابعة دراستها، الا أنها، بفضل الحسّ التربوي المميّز الذي كانت تتحلّى به، ما لبثت أن احتلّت في الفريق المذكور موقعاً قيادياً. واستطاعت أن تطبع العمل المشترك بطابعها الفريد وأن تساهم بشكل ملحوظ في نجاحه ونموّه واشعاعه. وبشكل أخصّ، تجلى حسّها التربويّ المرهَف في مرافقتها، التي امتدّت على عدّة أعوام، لأكبر فتيات أسرة الطفولة، وكنَّ آنذاك يافعات تتراوح اعمارهن بين 12 و 14 سنة صارت لهنَّ الصديقة الكبرى والملهمة، واستطاعت بفضل ايمانها الحيّ وشخصيتها المحبّة، المنفتحة، الشفّافة، أن تنقل اليهنَّ المسيح، بالتزامن والانسجام مع الحرص على تنمية شخصيتهن الانسانية بكل أبعادها وافساح مجالات الانتعاش أمامها، محققة بذلك الهدف الذي وضعه الفريق المؤسس نصبَ عينيه، الا وهو اقتران التربية المسيحية والتربية الانسانية وتداخلهما الوثيق.
كان بودّي أن تبقى ماري طيلة حياتها مُلهِمة لأسرة الطفولة، مرافقة للأجيال الجديدة من المرشدين والمرشدات الذين تعاقبوا عليها والذين أشهَد لهم انهم حافظوا على التراث وزادوه ثراء، كنتُ اتمنى أن تبقى إلى جانبهم لتنقل اليهم خبرتها وتذكي فيهم على الدوام الشعلة الأولى. لذا أسفت لأن مسؤوليات ماري العديدة الأخرى أبعدتها عن هذا القطاع الحركي الذي كان برأيي لا يزال يحتاج إلى الهامها. ولما سألتها مرة لماذا لم تعُد تعنى به، أجابت ان السبب يعود لكونها تقدمت في السنّ. ولم تكن متقدمة في السنّ حينذاك، لذا اعتقد، استناداً إلى ما شكت منه أمامي ذات يوم، أن السبب الحقيقي يعود لكوننا لم نحرص كفاية على إشراكها في تطور المشروع الذي كان لها اليد الطولى في اطلاقه، فصارت تشعر أنها امست غريبة عنه. فإذا صحّ ظني أرجوكم أن تتخذوا منه عبرة للمستقبل.
جوانب أخرى من شخصية ماري وروحانيتها
توسّعتُ في عرض جانب من حياة ماري ورسالتها، لأنني عرفته من قريب ولأنني أرجّح أنه يُخفى عليكم بسبب تقادمه في الزمن. ولكن هناك جوانب أخرى تعرفونها ولا شكّ، كما يعرفها كثيرون غيركم في الميناء وخارج الميناء، ومنها، على الأخص، عيشها المتواتر للحياة الليتورجية التي كانت مشغوفة بها، والتزامها العميق لقضية الفقراء، مسيحيين كانوا أو غير مسيحيين، والعمل التربوي الذي مارسته في خدمتهم طوال أعوام في مدرسة الخياطة التابعة للمستوصف الذي انشأته الحركة بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية. وهنا اترك لسواي الأكثر اطلاعاً مني أمر التحدث عنها وايفائها حقَّها.
تكريس ماري امتزج بالمعاناة
ولكن لا بدّ لي، بصدد حديثي عن هذه الجوانب التي اكتفيت بالمرور عليها بسرعة، من التوقف عند نقطة تبادرت إلى ذهني خلال حديثي الآنف الذكر مع فؤاد دروبي وكانت الدافع الأساسي لاقدامي على كتابة هذه الأسطر، وذلك أنني شعرت أن هذه النقطة انما تسمح بالإحاطة بشكل أفضل بسرّ ماري، سرّ ذلك الوجود الصامت المشعّ الذي توارى الآن عنا خلف الحجاب. والنقطة التي أشرت اليها تتعلق بما كنت ألمسه لدى ماري، وقد امتدت معاشرتي لها طويلاً، من معاناة كانت عادة تكتمها ولكنني متأكد من أنها كانت تحزّ عميقاً في نفسها كما ثبت لي من شكوى مقتضبة ولكنها مريرة أفلتت منها ذات يوم أمامي خلال زيارة قامت بها إلى منزلي في الأشهر الأخيرة من حياتها. أودّ أن أنقُل اليكم بعض صدى هذه المعاناة كما ارتسم في قلبي وفكري. وانني أفعل ذلك لا من أجل محبتكم ومحبتي لماري وحسب، بل لأن الأمر، كما سوف ترَون، إنما يعني أيضاً محبتكم للكنيسة وإخلاصكم لنهضتها.
لقد كانت ماري تتوق بملء جوارحها إلى تكريس ذاتها كلياً للربّ وللذين اتخذهم اخوةً له.هذا التوق الذي لازمها مدى حياتها رائع بالحقيقة، ولكنه بآن معاً مُكلِف جداً، يزجّ صاحبه في مغامرة قاسية لا بدّ لها، على وجه العموم، لكي تتوفّر لها فرص النجاح والإثمار وتجنُّب الأذى لمن يخوضها ولمحيطه، أن تندرج في اطار كنسيّ يحتضنها ويُساعدها ويحميها من المخاطر. لقد فتّشت ماري عن هذا الإطار في الرهبنة، وكانت، في القدس أولاً ثمَّ في لبنان، من الفتيات اللواتي أسّسن الرهبنة النسائية المنبثقة عن الحركة. ولكنها ما لبثت أن اكتشفت أن الدير لا يوفِّر لها المناخ المطلوب لتحقيق دعوتها الفريدة إلى التكريس. فاضطرت، مُرغَمَة، إلى مغادرته، وهي كسيرة القلب. ولكنه لم يُتَح لها أن تَجد عنه بديلاً، فوجدت نفسها مُكرَهة، منذ ذلك الحين، على أن تعيش كراهبة بلا دير. فكان لا بدّ لها أن تعاني من التمزّق الناتج من هذا الوضع المتناقض المبتور. فكنت تراها تتردد إلى الأديار، هنا وفي الخارج، لعلّها بذلك تسدّ فراغها وتداري إحباطها. أو كنت تراها في الفترة الأخيرة، ترافق الأب باسيليوس (كافأه ربنا عما قدّمه لها، عبر ذلك، من تعزية) في حمله القربان إلى المرضى، فتصعد معه أحياناً بقدميها المتعبتين، سلالم عسيرة (كسلّم منزلي ذات يوم ليس ببعيد)، وكأنها بذلك تحاول بلهفة تذوّق طعم رتبة كنسية تهواها ولكن لا يمنحها اياها أحد. شعوري أن ماري عانت، من جراء وضعها الشاذ هذا، الأمَرّين، إنما بصمت على عادتها، ما خلا حالات نادرة كان يتصاعد فيها البوح إلى شفتيها، وأن هذه المعاناة تركت بصماتها على وضعها النفسيّ والجسديّ.
الشموسية النسائية، لو وُجدت، كانت حريّة بأن تخفف معاناة ماري
أتصورُكم تقولون في سرّكم: إن ما رويتَه لنا لمحزن حقاً، ولكن ما شأننا به؟
قبل أن أجيب على تساؤلكم المشروع، أود أن أعلمكم أو أذكرّكم أن كنيستنا الأرثوذكسية عرفت منذ عهد الرسل على الأرجح، مؤسسة استمرت فيها حتى القرن الثاني عشر ثم انقرضت للأسف، وأضيف: إن هذه المؤسسة، لو كانت قائمة في أيامنا كما قامت في القديم، لوفّرت ولا شك على عزيزتنا ماري ما عانت من تمزّق وإحباط، لأنها بقناعتي، كانت حريّة بأن تشكل الإطار الذي كانت ماري تحتاج اليه لتحقّق ملء دعوتها. هذه المؤسسة هي مؤسسة "الشماسات" اللواتي كنَّ يجمعن في الكنيسة القديمة، الخدمة الليتورجية إلى العمل الاجتماعي. بقناعتي أن ماري، لو تسنّى لها أن تُرسم شماسة، كانت وجدت في الكنيسة موقعها الطبيعي الصحيح ولَعاشت بانسجام تام مع ذاتها وتطلعاتها الصميمة.
ملحاحية إحياء شموسية النساء
ولكن أين نحن اليوم من هذا الموضوع؟ إنه منذ أكثر من ثلاثين عاماً، يطرح نفسه كموضوع الساعة في القطاعات الحيّة من الكنيسة الأرثوذكسية، تلك التي تقرأ، كما يوصي الربّ، "علامات الأزمنة" وتطالب بوحي من تلك القراءة بإحياء مؤسسة شموسية النساء، تلبية لحاجة ملحّة من حاجات عصرنا. ولكن الكنيسة "الرسمية"، نقولها بحسرة، لم تولِ إلى الآن الموضوع ما يستحقه من اهتمام.
وقد برز هذا الطلب للمرة الأولى في "اللقاء التشاوري الأول للنساء الأرثوذكسيات"، الذي عُقد في دير أغابيا في رومانيا، وترأسه وقتها أساقفة مثّلوا بطركيات القسطنطنية وأنطاكية ورومانيا، ثم استعاده اللقاء التشاوري الأرثوذكسي المنعقد في رودس سنة 1988 والذي شارك فيه 66 اسقفاً ولاهوتياً منهم 18 امرأة، وبعده "اللقاء التشاوري الثاني للنساء الأرثوذكسيات" المنعقد في كريت سنة 1990، ثم المؤتمر حول النساء الأرثوذكسيات في أوروبا الذي التئم في ليفاديا Levadia في اليونان سنة 1994، ثم اللقاء التشاوري بين الكنائس الأرثوذكسية المنعقد في دمشق في تشرين الأول 1996، ثمّ اللقاء التشاوري المماثل المنعقد في اسطنبول في أيار 1997. ولكن توصيات هذه اللقاءات كلّها لم تسفر، للأسف، عن أية نتيجة عملية.
أما على صعيد الشخصيات التي رفعت علم هذه المطالبة، فلا بدّ أولاً من التنويه بشهادة اللاهوتية الأرثوذكسية اللامعة اليزابيت بهر سيغل E. Behr-Sigel التي اشتهرت بين المسيحيين عموماً في الغرب والتي توفيت سنة 2005 عن عمر يناهز مائة عام ناضلت خلاله حتى الرمق الأخير من أجل ابراز موقع المرأة في الكنيسة واحياء رتبة الشماسات. هذه انضمت إلى اثني عشر شخصية أخرى يجمعها الالتزام في مختلف وجوه النشاط الأرثوذكسي في فرنسا ووقّعت معهم في 12 تشرين الثاني 2000 رسالة موجّهة إلى رؤساء أهمّ الكنائس الأرثوذكسية المستقلّة في العالم، يطلبون فيها إحياء رتبة الشموسية النسائية التي تثبت الدراسات التاريخية أنها كانت مزدهرة في عهد آباء الكنيسة، وأن يصار إلى تحديثها وفق الأطر الحضارية الحاضرة والحاجات المعاصرة، ويشيرون إلى أن كثيراً من المسؤوليات الكنسية مسندة حالياً إلى نساء وأن بعضاً من هؤلاء يمارس بالفعل خدمة شبه شموسية وأن رسامتهن شماسات لا تكون في تلك الحال سوى اعتراف وتكريس لواقع موجود على الأرض واستنزال الروح القدس عليه. وكان بين موقّعي الرسالة، إلى جانب اليزابيت بهر-سيغل، اللاهوتي الأرثوذكسي الذائع الصيت اوليفيه كليمان، والأب بوريس بوبرنسكوي عميد معهد اللاهوت الأرثوذكسي في باريس، والأرشمندريت سمعان رئيس دير القديس سلوان في فرنسا.
ولكن هذه الرسالة لم تلقَ إلى الآن أي جواب، ما عدا جواباً واحداً اقتصر على إشعار مهذّب بالاستلام!
دعوة
فما العمل والحالة هذه! باعتقادي الراسخ أن لا بدّ للحركة عندنا أن ترفع الصوت عالياً في وجه جدار الصمت القاتل هذا وأن تضمّ صوتها إلى صوت من سبقها من مؤتمرات وشخصيات. هذه مهمة نبوية بالمعنى الكتابي للكامة، أي انها تسمح لصوت الله أن يدوي في الظرف الحاضر.
وقد سمعتُ المطران جورج خضر يبيّن سنة 1962 أن جوهر الحركة أن تكون نبوية. ولكن الحركة هي، قبل كل شيء، أنتم وأنا. ففيما يخصني، رفعتُ في 22/12/2007 تقريراً موثَّقاً بهذا الشأن إلى الأمانة العامة. فإذا كنتم تحبّون ماري وتحبّون الكنيسة التي أحبتها حتى التفاني، وأنا لا أشكّ بذلك، أرجوكم بحرارة، باسمها، أن لا تترددوا بالصراخ في وجه العتمة الحاضرة لعلَّ بياضَ الفجر يلوح أخيراً. هكذا تكونون قد خدمتم الكنيسة وحققتم أمنية ماري الخفيّة...
دعاء
الا متّع ربنا ماري بحلاوة بهائه ووطّنها نوره وسلامه بعد ما عانته من عذاب، وخلّد رسالتها بكم كي تتمجّد محبته التي لا تُحدّ.
وبما أن تراثنا الأرثوذكسي لا يشترط اعلان قداسة المرء لاستمداد شفاعته، فبدالة الشركة التي أقامها يسوع الناهض من الموت بين أحبائه الأحياء والراقدين على حد سواء، اسألها، وهي القائمة الآن في حضرته، أن تلتمس منه النور والعضد للحركة التي احبتها، ولفرع الميناء بالذات الذي يُقيم اليوم ذكراها والذي ساهمت هي في إنشائه.
في ضياء الأسبوع العظيم
21-23 نيسان 2008
ك.ب.