" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
نقولا دروبي في الذاكرة

قد يجهل الكثيرون منا مكانة نقولا الدروبي في الحركة. ذلك لأنهم لم يشاهدوه، في الفترة الأخيرة من حياته، يتردد على بيتها ويشارك في اجتماعاتها ونشاطاتها. ولربما كانت بعض المسؤولية في ذلك تقع علينا لأننا لم نبدِ له بما فيه الكفاية أننا كنا لا نزال نحتاج إليه ولم نوفّر له فرص تواجد معنا تناسب تقدّمه في السن.

 إلا أنه كان يشعر، رغم انقطاعه الجسدي عن الحركة، أنّه منها في الصميم. لذا كان ينتظر منا أن ندعوه إلى إحتفالات عيدها السنوي، على أنه من أهل البيت. وقد شكا لي أكثر من مرة أنه لم يُدعَ إلى الاحتفال بعيد الحركة، وكنت عند ذاك أقرأ الأسى على وجهه وفي نبرات صوته. وكان يبتّني ما يعتريه من شعور بأن ما قدمه من مساهمة في البناء الحركيّ قد اصبح منسيًّا. فكنت أطيّب خاطره ما استطعت. لذا أنا فَرِح اليوم بالمشاركة بهذه الندوة التي نظمهِا مجلس فرع الميناء بناء على اقتراح رئيسه، الأخ فرح أنطون، وفَرِح بالعنوان الذي أطلق عليها والذي يثبت أن نقولا الدروبي كان ولا يزال في صلب الذاكرة الحركية ولو قصّرنا مرارًا في التعبير عن ذلك.
كان لقائي الأخير بنقولا بضعة أيام قبل وفاته. صادفته قرب مدرسة راهبات القلبين الأقدسين يسعى بهمته المعتادة، متوكئًا على عصاه، مقاومًا بشجاعة عبء السنين. حيّيته وقبّلته كعادتي وسألته عن أحواله. نظر إليّ بوجهه الودود ودعا لي بالصحة. وبعد أيام إنطفأ بهدوء كما عاش وكأن حدسه قد تحقق بأنه سوف ينتقل إنتقالاً كما قال مرة لإحدى بنات أخيه. وأسدل الستار على صداقة بيننا دامت نحو نصف قرن وترسّخت في الأسبوعين المأساويين من خريف 1985 اللذين قضيناهما معًا وحدنا في بيت أخيه، في ميناء تحوّل إلى مدينة أشباح، تحت القنابل المنهمرة في ما سمي بـ "حرب التوحيد"، وفي ظلّ الموت. أنني اليوم، باسم هذه الصداقة، أتحدث عنه. فيقيني أن الصديق وحده يمكنه أن يتكلم بإنصاف عن إنسان ايأ كان، لأن مودة الصديق وحدها قادرة أن تذهب إلى أبعد من المظاهر لتلامس جوهر الكيان.

صداقتنا كانت لحمتها معيتنا الحركية التي سبقت بكثير ارتباطي به بالقربى فنقولا الدروبي ينتمي إلى جذور الحركة في هذا الميناء. فمنذ إنتسبت أنا إليها سنة 1944، وكان لي من العمر آنذاك 18 سنة، صادفت وجهه الأنيس كأحد وجوهها البارزة. كان من دعائم "فرقة الموظفين" (كما كانت تُدعى في تلك الأيام، مما يعني فرقة العاملين، كما نقول اليوم) التي أسسها أخي وصديقي ديمتري كوتيا والتي سبق ظهورها ظهور فرق الطلاب التي عُنيتُ أنا بتأسيسها. ولفتني فيه منذ البدء متانته وإخلاصه مضافَين إلى حلاوة معشره، وعلمت منه أنه كان صديقًا لوالدي، الذي كان من جيله ولكنه خُطف عنا منذ 53 عامًا، وهو في عزّ عطائه، تاركًا في نفسي فراغًا لا يُعوّض. وعرفت أنه كان وإياه في جمعية سميت "روضة الآداب"،، كانت تُعنى، فيما تُعنى به، بإقامة المسرحيات، مساهمة بذلك في النهضة الأدبية والاجتماعية التي كانت قائمة على قدم وساق في العالم العربي في تلك الحقبة، والتي طالما تمنيت أن تجد أصداؤها في الميناء في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن، من يؤَرّخ لها. أخبرني أن والدي (الذي قيل لي أنه كان موهوبًا جدًا للتمثيل) كان رئيسًا لهذه الجمعية وأنه هو، نقولا، كان أمين سرّها. ومن بضع سنوات أهداني تذكارًا ثمينًا ما زلت أحتفظ به بحرص شديد، وهو قطعة معدنية متواضعة كانت تستعمل شارة للجمعية. وقد حُفرت عليها هذه العبارات جمعية روضة الآداب الأرثوذكسية – اسكلة طرابلس – تأسست سنة 1910.

صداقة نقولا لوالدي انسحبت على العلاقة التي نشأت بيني وبينه والتي صارت، إلى حد ما، امتدادًا لتلك الصداقة الأولى واستمدت من حرارتها. كان يعطف عليّ عطف الأب على ولده وكنت أجد فيه صورة بديلة عن الأب الذي حُرمتُ منه قبل الأوان، أستمد منها ارتياحًا وأمانًا في مواجهة المسؤوليات التي ألقتها الحياة على عاتقي وأنا لم أكد أتجاوز الطفولة.

نفس الدعم المعنوي لقيته منه عندما أسندت إليّ، وأنا في حوالي العشرين من عمري، المسؤولية الحركية الأولى في منطقتنا. مسؤولية رئيس مركز طرابلس (الذي كان عمليًا بآن رئيس فرع الميناء، إذ لم يكن نظام الفروع الحاضر، الذي أقرّ في أوائل السبعينات، معمولاً به بعد). فقد كنت، مع الفريق من الشباب الذي يشاركني القيادة، نشعر أن المهمة تفوق ما لدينا من معرفة وخبرة. لكن لم يكن لنا الخيار. قدرنا كان أن نتسلم مهمة لم يكن سوانا يتقدم إليها، وكانت صورة المسيح، التي تزداد اكتشافًا لها يومًا بعد يوم، تسحرنا وتغزينا بالاستمرار. وجود نقولا الدروبي إلى جانبي في القيادة كان، والحالة هذه، يشجعني وينعش ثقتي بنفسي ويوفّر لي شعورًا بالطمأنينة. إلى جانب هذا الدعم النفسي، كنت، أنا والشباب الذين كنا نؤلف في ذلك الحين السواد الأعظم من الجماعة الحركية في الميناء، بحاجة ملحّة إلى دعم اجتماعي. فالمحيط كان إجمالاً ينظر إلينا دون عداء، وحتى بشيء من التعاطف المشوب بالاستغراب، ولكنه، وهو مجتمع تقليدي يسوده كبار السنّ ويتأثرون فيه بالاعتبار. كانا يرانا، باستعلاء لا ينفي اللطف، "أولادًا" (وكنا نردد في ما بيننا جملة مأثورة لأحد المطارنة. "الحركة حركة أولاد"). في هذا الوضع كان وجود نقولا دروبي أولاً، ثم رمزا مروه التي انضمت على يده إلى الحركة، ثم فرقة السيدات (التي تأسست سنة 1947)، بما له ولهنّ من مركز معروف ومعترف به في المجتمع، ومن صلات واسعة بالناس وكلمة مسموعة بينهم، كان هذا الوجود ضروريًا لإعطاء الحركة في الميناء القاعدة الاجتماعية التي تسمح لها بأن تقبل من محيطها وتؤثر فيه.

هذه القاعدة الاجتماعية كان يجسّدها دكّان نقولا الدروبي الكائن قرب ساحة "التُرب"، قلب الميناء، في الوقت الذي لم يكن لنا بعد فيه بيت للحركة، بل كنا نعقد اجتماعاتنا في البيوت، وأحيانًا في غرفة الجمعية قرب الكنيسة، حيث لم نكن دائمًا مرغوبين، كان دكان نقولا الدروبي مركزًا للحركة ومقرًا لها. ولكم زرته في دكّانه الصغير، الذي كان يشعّ بحضوره الخَفِر والأنيس وجلست أمام طاولته بين لوازم الخياطة والألبسة الداخلية التي كان يبيعها، أتحدث معه، بين مشترية وأخرى، عن قضايا الحركة وهواجسها. وكان دكّانه بالضبط مقابل بيت رمزا وتوفيق مروه، الذي صار هو أيضًا، وبنوع خاص غرفة الخياطة فيه، "مقرًا" للحركة، وبنوع خاص للعاملين والعاملات من أفرادها في حقل الطفولة.

 منذ أول عهدي بنقولا، سمعتهم ينادونه "أستاذ". وعرفت في ما بعد أن اصل هذا اللقب يعود إلى كونه مارس تعليم الرياضة في المدرسة الروسية حقبة من الزمن. منذ ذلك الحين اعتدت أن أدعوه بهذا اللقب (وفضّلته على لقب "الحج" الذي كان الكثيرون يدعونه به، جريًا على عرف إطلاق هذا اللقب على كل من تسمى نقولا) ومع أن نقولا لم يكن يتعاطى التعليم في أي حقل كان منذ زمن طويل، بقيت أرتاح إلى مناداته بـ"أستاذ" حتى لقائنا الأخير الذي أتيت على ذكره، أما تمسكي بهذه التسمية، فقد يعود إلى أنني ألفتها، أو لكونها تعبّر عن مكانته في نفسي، أو لكوني كنت أرى فيه أستاذًا لي في الإخلاص، أو لهذه الأسباب مجتمعة.

وعندما إنطلق العمل المنظم في حقل الطفولة سنة 1945، كان لنقولا الدروبي دورٌ مميزٌ فيه. ذلك أن سُرعان ما نُظمت للأطفال حفلات ميلادية كان يظهر فيها "بابا نويل" ويوزع الهدايا للأطفال بعد أن يتوجّه إليهم ببضع كلمات توجيهية لطيفة. هنا أرجو إخواني وأخواتي العاملين حاليًا في حقل الطفولة، الذين أفرح وأعتزّ بنشاطهم المتواصل والرصين والمبدع، والذين حافظوا على هذا التقليد الحركيّ القديم وطوّروه، أن يحفظوا دائمًا في ذاكرة قلبهم، أن "بابانويل" الأول، ولعدة سنوات، اتخذ وجه نقولا الدروبي، وكان معدًا لهذا الدور بعمره (فقد كان بمثابة جدّ لأطفالنا) ولطفه الجمّ وطيبته العظيمة وحتى باسمه نقولا (فالمعروف أن شخصية "بابا نويل" الأسطورية اشتقت في الغرب من شخصية مار نقولا الذي كان مشهورًا لدى الشعب على أنه صديق للأطفال ولذا كانوا يسندون إليه في توزيع الهدايا عليهم الدور الذي أُسند لاحقًا إلى "بابا نويل").

وعندما أَطلق مشروع بناء بيت للحركة (الذي أُنجز القسم الأول منه سنة 1951)، عندما أطلق من لا شيء (وضحك المثلث الرحمات المطران ثيودوسيوس أبو رجيلي عندما أعلن أمامه في لقاء نظمته الحركة أنها تنوي بناء بيت لها في حين لا يوجد في صندوقها سوى حوالي مائة ليرة لبنانية...)، كان نقولا الدروبي بين الذين تجنّدوا في سبيل تحقيق هذا المشروع وتحلقوا حول إبراهيم حاماتي الذي قاد بجدارة وإخلاص ورشة العمل التي أدت إلى تجسيد الحلم واقعًا ملموسًا على الأرض. وكان لنقولا وعلاقاته الاجتماعية واحترام الناس له وثقتهم به دور لا يُستهان به في استقطاب دعمهم المادي الذي بدونه لم يكن تشييد هذا البيت ممكنًا.
إلى جانب ذلك شغل نقولا مسؤولية بالغة الأهمية إذ بقي لسنوات وكيلاً لمجلة "النور" من منطقة الشمال، في وقت لم تكن فيه هذه المجلة معروفة كثيرًا لدى الناس, من هنا أن نقولا اضطلع بمهمة التعريف بها ونشرها. وأذكر أنني وضعت وإياه خطة بهذا الصدد. فاتفقنا أن ينظم قائمة بأسماء أشخاص يُحتمل أن همهم المجلة وأن يرسِل بالبريد عددًا لكل منهم يكون بمثابة عيّنة أو نموذج عن المجلة مرفقًا بقسيمة يملؤها ويعيدها إذا كان راغبًا في الاشتراك, وقد تلقى نقولا بالفعل عدة ردود إيجابية، ولكنني أذكر أنه ذات يوم أفضى إلي في دكّانه أنه تلقى قسيمة معادة إليه وهي محشوّة بالشتائم, أذكر أنه أخبرني بذلك دون اي انفعال، وكأنه يتحدث عن أمر عارض لا طائل له: فلم يكن من شأن هذه التصرفات الشائنة أن تضعضع صلابة نقولا أو أن تضعف عزيمته: "يا جبل لا يهزّك ريح"...

هذه بعض مآثر نقولا، بعض الثمار التي أعطته نعمة الله أن يؤتيها في مسيرته الطويلة مع الله وفي دربه. ما قلته لا يستنفذ بحال من الأحوال أعمال نقولا وجهوده وإنجازاته. وقد انطلقت في سردي من مجرد صور حفظتها ذاكرتي لا من مستندات مدوّنة . ولكن ما ذكرته كافٍ، كما أعتقد، على نقصه الكبير، لإعطاء لمحة عن النور الذي كان في نقولا والذي به استضأنا واستدفئنا.

والآن قد غاب عنا هذا الوجه الوديع الكريم، وخلّف فينا وحشة وأسى، ولكن الزمن يمضي بلا رحمة وسرعان ما يطوي موتانا، حتى أحبّهم إلينا. لذا أقمنا هذه الندوة سدًا، ولو واهيًا، في وجه زحف النسيان.
الموت مأساة في أي عمر حصل. صحيح أنه ظاهرة طبيعية ملازمة للحياة، خاصة إذا أتى في سن متقدمة. ولكن الإنسان، خلافًا للكائنات الحية الأخرى، ليس من الطبيعة وحسب. إنه على صورة الله مكوّن ولذا فهو معدّ لعلاقة حميمة مع الله تبدأ منذ هذه الدنيا التي جُعل الإنسان فيها كإبن في بيت أبيه، في هذا المنظار، لا يعود الموت، بالنسبة إليه، مجرد حدث بيولوجي. فبما أنه إنسلاخ عن الحياة، يختبره الإنسان إنقطاعًا وتغربًا عن الله مصدر الحياة ومعطيها، تلك هذ الخبرة المفجعة التي تتكرر تعابيرها في المزامير، مثلاً:

"هل تُعرف في الظلمة عجائبك وعدلك في الأرض المنسيّة؟" (أو أرض النسيان) تلك هي "ساعة الظلمة"، كما سماها الإنجيل، وكما اختبر يسوع مرارتها في بستان الجسمانية وعلى الصليب. ينبغي أن تُعطي هذه الظلمة حقّها، أن لا نتسرع بإنكار الموت لئلا يشعر الناس – خاصة المصابون منهم- أننا غرباء – وبالتالي أن المسيحية غريبة- عما يعانون. يجب أن نعطي الموت كلّ واقعه الرهيب، حتى تأخذ بشرى القيامة كل أبعادها، كل وقعها المذهل. فقط إذا ما تركنا للظلمة كل حجمها المأساوي، أدركنا كم هو عجيب النور الذي يلقيه الإيمان في غياهبها. هذا النور هو أن الله نفسه انحدر معنا حبًا، بيسوع المسيح، إلى أعماق غيابه، وذاق معنا في يسوع كل مرارة وقسوة هذا الغياب حتى الصيحة المفجعة، "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟" وهكذا، بمشاركته المذهلة لنا في مذاقة جحيم غيابه، لم يدعنا مرحيين وحدنا في هذا الجحيم، بل زرع فيه طاقة الحياة الظافرة لغمًا موقوتًا يفجّر جميع القبور.

هذا النور الذي يلقيه الإيمان لن يسطع طالما نحن لا نزال في "ارض غربة"، نرى فيها الله "في مرآة، في لغز"، كما يقول الرسول بولس. أنه، على حد تعبير رسالة بطرس الثانية، بمثابة "مصباح يضيء في مكان مظلم إلى أن ينفجر النهار ويشرق كوكب الصبح في قلوبنا)".

فبهذا الإيمان لنا يقين بأن نقولا، الأخ والصديق، الذي غاب عنا وراء حجاب السرّ، إنما أنضمّ من حيث لا ترى – ولكن القلب وحده، لا العيون، يرى ما هو جوهريّ، على حد تعبير سانتكزوبري – انضم إلى الرب الذي كان طيلة حياته عشيره وأليفه، وأصبح مساهمًا في إنتصار ذاك الذي شاركنا مأساتنا، وتجرع كأس بؤسنا حتى الثمالة، ليحوّل غروبنا إلى شروق.

24 و25 و26/7/1994
ك. ب.
ألقيت فحوى هذه الكلمة في ندوة عقدت في بيت
الحركة في طرابلس – الميناء في 27/7/1994
بعنوان: "نقولا الدروبي في الذاكرة".