" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الطاعة والفداء

هذه أسئلة طرحتها عليّ فرقة جامعية حركية، بالغة الحيوية، في فرع طرابلس – الميناء لحركة الشبيبة الأرثوذكسية، أطلقت على نفسها هذا الاسم المعبّر، وهو “فرقة الإنسان الجديد”. وقد أجبتها عليها في اجتماعين عقدتهما الفرقة، الأول في 22/4/1989، والثاني في 6/5/1989. وقد سجّل كلماتي أحد أعضاء الفرقة، خريستو المرّ (وهو حاليًا، الأستاذ الجامعّي الدكتور خريستو المرّ) ثم راجعت أنا المذكّرات الخطيّة التي أتيح له أن يسجّلها فكان هذا النص الذي أنقله هنا مع تعديل وتنقيح.
11/2/2006

السؤال: حول الطاعة
نصّ السؤال: كيف نوفّق بين الطاعة في الكنيسة وبين التغيير؟


الإجابة
قبل الإجابة لا بدّ من توضيح معنى الكلمات، إذ كثيرًا ما يحصل تشويش بسبب غموض يحيط بما يُقصَد بها.
التباس في مفهوم الطاعة
ما مفهوم الطاعة مسيحيًا؟ الطاعة مكتَنَفة بالالتباس، ويمكن أن تفهَم بمعنى أبعد ما يكون عن الإنجيل. فبقدر ما يجرَّب الإنسان بأن يخالف من أجل المخالفة، أي لأجل أن يُعرف عِبْرَ المخالفة، فانه مجرّب بالقدر عينه بان ينصاع للقويّ لمجرد كونه قويًا، وبأن بنقاد إلى رأي الجماعة لمجرد كونه ينتمي إليها، سواءً كان هذا القويّ على حقّ أم لا، سواء كانت هذه الجماعة على صواب أم لا. في هاتين الحالتين يطيع المرء لأنه يهاب المواجهة، لأنه يخشى التفرّد، ولو كان تفرّدًا في الحقّ. يخشى أن يسبح عكس التيار لأنها سباحة شاقة. يرهب الوحدة، فيفضّل الخطأ مع الجماعة على أن يبقى وحيدًا في الحقّ.

ليست الطاعة إذًا هذا الأمر البديهي، المفروغ منه. فالكلمة تتطلب نقدًا لها، يبيّن ما هو موطن الأصالة فيها وموطن الزيف.ليست كل طاعة، طاعة إنجيلية. إنما الطاعة التي أسلفنا ذكرها هي على نقيض الإنجيل. لأن الإنجيل كلّه مواجهة وكلّه سباحة ضد التيّار. هناك نوع من التمرّد الإنجيلي. ليس هو تمرّدًا من أجل لذة التمرّد لأن هذا انحراف إلى الفردانية (والفرد لا يصبح شخصًا إلا إذا تخطى ذاته بالمشاركة)، ولكنه تمرّد من اجل الحقّ مع تحمّل ما يحمله هذا التمرّد لصاحبه من شعور مضنٍ بالعزلة أحيانًا. أما الطاعة فكثيرًا ما تؤدي إلى سلوك أبعد ما يكون عن الحقّ.

هناك طاعة على نقيض الإنجيل
لدينا نماذج مرعبة عن مساوئ الطاعة في عالمنا الحديث. ففي العهد النازي وفي العهد الستاليني، قُتل ملايين من الناس في معسكرات الاعتقال، والذين نفّذوا الأوامر بقتلهم كانوا أناسًا لا يمكن نعتهم بالوحوش كما قد نتصور، كانوا أناسًا عاديين لا يختلفون عنا. ولكن هؤلاء، لما حُوكموا على ما ارتكبوه، قالوا، للدفاع عن أنفسهم، إنهم نفّذوا الأوامر التي أُصدرت إليهم، وإن كان عليهم أن يطيعوا. لقد قرأتُ بهذا الصدد مذكرات قائد معتَقَل أوشفيتز، ذلك المعتقل الرهيب الذي أقامه النازيون في بولونيا أثناء الحرب العالمية الثانية والذي صُفّي فيه ملايين البشر. كان قائد المعتقل يُدعى رودولف هسّ. بعد هزيمة النازيين، حوكم هذا القائد وحُكم عليه بالإعدام.
أثناء محاكمته كتب مذكراته التي صدرت بعنوان “قائد أوشفيتز يتكلم” . لدى مطالعتي الكتاب، بدا لي أن ذلك الرجل لم يكن يتّسم بالوحشية، ولكنه تربّى على إطاعة السلطات بدون مناقشة. هكذا نشأ، وبالفعل تقيّد، عندما وصل إلى مركزه الخطير، بالنهج الذي اعتاد عليه، فنفّذ بشكل أعمى، كمواطن صالح برأيه، الأوامر اللاإنسانية التي كانت تأتيه من الإدارة النازية. ما أرعبني بشكل أخصّ، قوله إنه تربّى تربية مسيحية أنشأته على الطاعة. راعني أن أرى بأمّ العين أن الإنجيل نفسه يمكن إذًا استعماله لمقاومة الإنجيل، وأن من الممكن تزويره لينقلب على حقيقة الإنجيل.

إيجابية التمرّد
هناك دراسات في علم النفس الاجتماعي تبيّن كم النزعة إلى الإنصياع إلى الأوامر منتشرة ومتأصلة عند الناس. وبأية سهولة تدفعهم إلى تعدّي المحرمات والقبول بالاقدام على أعمال تمجّها الإنسانية، إن كانت هذه الأوامر صادرة عن أناس يتمتعون، في أعينهم، بسلطان (راجع الاختبارات المذهلة التي قادها Stanley Milgram في جامعة Yale في الولايات المتحدة بين 1960 و1963).

بالمقابل، فإن كلّ الذين دفعوا بالبشرية إلى الأمام في كلّ الميادين، هؤلاء اضطروا للتمرّد، للخروج عن الطاعة. لو أطاعوا لكانوا رضخوا لمقاييس المجتمع الذي كانوا فيه ولبَقي هذا المجتمع على عتاقته ولم يتغيّر. هؤلاء تجرأوا على السباحة بعكس التيّار ودفعوا ثمن ذلك غاليًا وغاليًا جدًا.

أذكر هنا قصة لم يعلّمونا إياها في المدارس، وما سوف أذكره ينطبق على المبتكرين في حقل العلم بوجه عامّ. فكلّ هؤلاء حوربوا، ليس من الجهّال فحسب، بل من أصحاب العلم في زمانهم، الذين لم يكن بوسعهم أن يقبلوا مَن كان يخالف ما اعتادوا عليه من المسلّمات وبنوا عليه سلوكهم العلمي كلّه. كان يصعب عليهم أن يعترفوا بأن ما اعتقدوه حقًا راسخًا إنما تشوبه حدود وثغرات.

نضال سمّلوايس ومعاناته المريرة:
واحد من أشهر هؤلاء المتمرّدين كان Ignace Semmelweiss وهو طبيب مَجَريّ. عاش أيام كانت المَجَر جزءًا من دولة كانت تسمّى بالامبراطورية النمسوية – المجرية. تخرج في الطبّ عام 1844 ولم تكن الجراثيم قد اكتشفت آنذاك. لذا كان التلوث يأخذ مجراه دون منازع فيميت كثيرين من الناس إثر العمليات الجراحية التي تُجرى لهم أو بعد التوليد، فقد كان التوليد في ذلك الحين مجازفة حقيقية تتعرض خلالها الأمهات لخطر مميت، إذ كانت نسبة 25 % من النساء اللواتي يلدنَ يتوفين بعد الولادة من جراء اصابتهن بحمّى تدعى حمّى الولاّدات. في هذه الأجواء عُيّن الطبيب الشاب في دار للتوليد في فيينا تابعة للدولة.

كان في ذلك المستشفى جناحان. لاحظ سمّلوايس أن نسبة الوفيّات بين ولادات أحد الجناحين ترتفع إلى 86% في حين أن النسبة كانت أقلّ بكثير في الجناح الآخر. تساءَل ما السبب. فقارن بين الأساليب المتّبعة في التوليد في كلّ من الجناحّين. اكتشف عند ذاك أن الفارق الوحيد الملفت للنظر هو أنه، في الجناح الذي تميّز بنسبة وفيات منخفضة كانت قابلات نظيفات يقمن بالتوليد. في حين أن في الجناح الآخر كان المولّدون طلاب طبّ مستهترين يقومون بالتوليد بعد إجرائهم عمليات تشريح ودون اكتراث بالنظافة.

أدرك الطبيب الشاب بحدسه الارتباط بين درجة النظافة ونسبة الوفيات. فصار يطلب من المولّدين أن يغسلوا أيديهم بسائل مطهّر بسيط هو chlorure de chaux وبالفعل خفّت كثيرًا، بفعل ذلك التدبير، نسبة الوفيات. ولكن ذلك أثار حفيظة رئيس دار التوليد لأن ما طلبه سمّلوايس خرج عن كل المفاهيم المعروفة آنذاك، وكأنه، بإقدامه على إدخال هذا التجديد، كان يتحدى سلطة رئيسه بتحدّيه كل المفاهيم التي كان يمارس الرئيس بموجبها سلطته الطبيّة. وهو ما أدى إلى طرده سمّلوايس من الدار دون إقامة أي وزن لإنجازاته. بعد ذلك حاول سمّلوايس أن يذيع اكتشافه في الأوساط الطبيّة ولكنه لقي منها اضطهادًا مركّزًا حكم عليه بعزلة تامة آلت به إلى الجنون. وقد مات مجنونًا ولم يتعدَّ 47 سنة من العمر.

بعد فترة وجيزة أتى باستور Pasteur، فاكتشف الجراثيم وبرهن علميًا عن وجودها باختبارات شهيرة، مؤيدًا بذلك حدس سابقه سمّلوايس، ورغم المقاومة الضارية التي واجهته كان لديه الطاقة الكافية لمقاومة خصومه ونشر اكتشافه، فأثبت، بصورة غير مباشرة، ما كان سمّلوايس، السابق لزمنه، قد قاله ودفع غاليًا ثمن المجاهرة به في وجه أطباء عصره.

تدقيق في فحوى الطاعة
هذا التضارب بين طاعة مدمّرة وتمرّد محيٍ من شأنه أن يدفعنا إلى كثير من الدقّة في حديثنا عن الطاعة.
في آخر المطاف الطاعة هي لله وحده. عندما نطيع في الكنيسة، فنحن لا نطيع إلا الله ولا نطيع إنسانًا ما إلا على قدر طاعته هو لله. ما عدا ذلك تصفعنا كلمة الرسل: “أفضل أن يطاع الله من أن يطاع الناس” (أعمال الرسل 5: 29)، التي واجهوا بها الكهنة وغيرهم من القادة، الذين ادّعوا تمثيل الله وكانوا في الظاهر على حق لأنهم كانوا يشكّلون السلطة الدينية الرسمية لشعب الله في ذلك الحين.

بالطبع يوجد في الكنيسة أناس يمارسون القيادة كما في كلّ مؤسسة إنسانية. لهؤلاء تتوجب الطاعة التي تقتضيها المسؤولية الموكلة إليهم: “أطيعوا رؤساءكم واخضعوا لهم، لأنهم يسهرون على نفوسكم سهر من يُحاسَب عليها…” (عبرانيين 13: 17), ولكن ليس لهم الطاعة المطلقة. اعتياديًا نطيعهم. ولكن إذا تعلق الأمر بإرادة الله، ورأيناهم في هذا الظرف حادوا عن تمثيل إرادة الله، توجّب علينا أن لا نطيعهم. هذا ينطبق على سلوكنا حيال المسؤولين في الكنيسة أو في أية جماعة بشرية. تذكرون المسيح الطفل كيف خالف والديه وتركهما وبقي في أورشليم، وكيف أنه، لما أنّبته مريم على تصرفه هذا، افهمها ان الطاعة الأولى إنما هي لله. ومع ذلك فقد عاد مع أبويه إلى المسكن العائلي في الناصرة “وكان طائعًا لهما” كما يروي الإنجيلي لوقا (لوقا 2: 51). هكذا نراه، بعد أن خالفهما من أجل تتميم مشيئة أبيه السماوي، يقدم لهما من جديد الطاعة التي تقتضيها، في عاديّات الأمور، وظيفتهما الوالديّة.

 ليس هناك إذًا من إنسان، مهما سما، تنبغي له الطاعة المطلقة، بل هناك أناس تتوجّب لهم عادة الطاعة التي يقتضيها حسن ممارسة مسؤوليتهم. الطاعة، في الكنيسة، ليست مرتهنة بوظيفة أو مقام أو عمر معيّن. ليس من الضروري فيها أن يطيع الصغير الكبير وذلك لمجرد كونه الأصغر سنًا. صحيح أن الصغير يطيع عادة الكبير لكونه مسؤولاً عن رعايته، ولكن هذه القاعدة المألوفة ليست بحال من الأحوال مبدأً مطلقًا. لا الوظيفة ولا السنّ يشكلان في الكنيسة مقياسًا مطلقًا للطاعة. فالآباء الشيوخ كانوا يستشارون من قِبَل المطارنة والبطاركة مع أنهم لم يكونوا أصلاً سوى رهبان أي علمانيين لم يتلقوا سيامة كهنوتية. هذا من حيث الوظيفة والمقام. أما من حيث السنّ، فيُحكى أن الأب موسى، من كبار الآباء الشيوخ، توجّه ذات يوم إلى الأخ زكريا، وكان راهبًا صغير العمر لا يزال يتدرّج في النسك، قائلاً له: قُل لي ما ينبغي أن أفعل. فصُدم زكريا وأجاب: ماذا تطلب يا أبتِ! أجابه الأب موسى: رأيت الروح القدس يحلّ عليك، ولذلك، من الآن فصاعدًا، سوف أطلب منك ما سمعتني أطلبه. بعبارة أخرى فإن الشيخ المتقدم في الأيام والخبرة الروحية رأى الله يشعّ في هذا الشاب المتدرّج، رأى فيه نور الله فأراد أن يسترشده ولو أنه كان يخرج بذلك عن القاعدة المألوفة. هذا هو موقف الكنيسة الأرثوذكسية في أصالته.

الطاعة الحقيقيّة خلاّقة
لنعد الآن إلى سؤالنا. إذا كنا فعلاً نطيع الله، إذا كانت طاعتنا تتجه فعلاً إليه وليس إلى بديلٍ له ألبسناه زورًا اسمه، فيجب أن نعي أن الله لا يحتويه أي إنسان أيًا كان، مهما بلغ عمره وامتدّت خبرته وعلا شأنه لا بل ومهما سَمَت قداسته. الله لا يُحتوى. الله يبقى أوسع وأرحب من كل إنسان ومن كل جماعة إنسانية، حتى تلك التي تتسمّى باسمه. وإلا لما كان هو الله. إنه النبع والمصدر ونحن نتلقى منه على قدر طاقتنا واستعدادنا، وهذان ناقصان دائمًا في كل فرد وجماعة. “الله أعظم من قلوبنا” (1 يوحنا 3 : 20). فإذا كان الله لا يُحدّ ولا يُحصر، إذًا ليس ما نعرفه عنه في حقبة ما من الدهر الحاضر، سوى جزءٍ من الحقيقة. كما يقول الرسول: “فنحن اليوم نرى في مرآة ( وكانت المرآة في تلك الأيام مصنوعة من المعدن المصقول: ك. ب.) رؤيا ملتبسة (…) اليوم أعرف معرفة ناقصة…” (1 كورنثوس 13: 12). علينا بالتالي أن نتعلّم دومًا من الله. ولكن كيف يعلّمنا الله؟

من الوسائل التي يُعلّمنا بها، هناك كلّ ما نصادفه في حياتنا وتاريخنا من أوضاع ومعطيات جديدة لم تكن تعرفها العصور التي سبقتنا. هذه العناصر الجديدة تنبّهنا إلى نواحٍ من الله لم تنتبه لها الأجيال السابقة، فتتكشّف لنا بإلهام الروم القدس الذي وعدنا المسيح أنّه “يرشدنا إلى الحقّ كلّه” (يوحنا 16: 13). الله يخاطبنا مثلاً من خلال المكاسب والاكتشافات التي يحقّقها الفكر البشري فيظهر لنا أشياءً لم يعرفها سابقونا. ليس لأننا أعظم منهم، ولكن كما قال كلود برنار: “قدامى العلماء جبابرة ونحن لا نبلغ قامتهم ولكننا نستطيع أن نرى أبعد مما رأوا لأننا واقفون على أكتافهم”. هذا الكلام هو بآن قمة في التواضع وقمة في الطموح.

الله يكشف لنا، من خلال تقدّم الفكر البشري الذي هو في الأساس هبة منه، ما لم يفطن إليه أسلافنا، ليس عن الكون والإنسان وحسب، بل، وعبر ذلك، عن حقيقته نفسها وعن حقيقة علاقتنا به. في علم النفس وعلم الاجتماع مثلاً، نعرف ما يفوق بكثير ما كان يعرفه كبار العلماء السابقين، وذلك من أجل السبب الذي ذكره كلود برنار وأسلفناه. ومن خلال تقدمنا هذا في معرفة ذلك الواقع النفسي والاجتماعي الذي نحياه، لا بدّ أن تتكشف لنا ايضًا نواح جديدة في علاقتنا بالله ينبغي أن نلتقطها بحرص ونستنير بها. ولنأخذ، على سبيل المثال، ما حكيناه عن الأضواء التي يلقيها التحليل النفسي على الصوم وأبعاد عيشه. إنها أضواء لا يسعنا إلا أن نجدّد بها رؤيتنا للصوم ولطريقة التعامل معه. وإلا نكون في الظاهر مطيعين للتقليد الكنسي ولكننا بالفعل مهملون لما يسمح بإخصاب هذا التقليد وتجديد حيويته وترسيخ أصالة عيشه.

وإذا كانت طاعتنا للآباء تقتصر على مجرد اجترار أقوالهم، نكون، بالفعل، خائنين لفكرهم ومسعاهم، لأنهم هم لم يتورّعوا من الدخول في حوار جريء مع فكر عصرهم وثقافته. فكانوا يلتقطون الحقيقة من جهتين، من الإعلان الإلهي ومن أفضل ما أنتجه الفكر البشري في حضارتهم، ويحيون بصدق وعمق توترًا خلاّقًا بين هذين الولائين يثرون به الإيمان ويعمّدون الفكر، مسترشدين في خوضهم هذه المغامرة، لمجد الله وحياة الإنسان، ذلك الحسّ الإلهيّ الذي ألقاه الروح في قلوبهم. فإذا شئنا أن نكون طائعين لهم، بالفعل لا بالشكل، فلنكن مثلهم أناس حوار، ولنتعلم منهم أن نجمع بين الرسوخ في الإيمان من جهة والإخلاص لكل ما هو خيّر ونيّر في عصرنا، ولو اختلط بكثير من الزؤان. وإلا كنا خائنين لهم ولما كانوا عليه ولو جاهرنا بالتعصّب لما أورثونا إياه. الاجترار خيانة. وحدها الأمانة الخلاّقة للتراث، طاعة حقيقية.

سؤال تلا الحديث
لماذا نحن نطيع الله كليًا أو من المفترض أن نطيعه كليًا؟
الإجابة
لأنه يُحبّنا أكثر مما نحب أنفسنا. غاية الإنسان الأخيرة أن يُحقق ملء ذاته، ولا يستطيع تحقيق ذاته كليًا إلا بتحقيق إرادة الله فيه. تلك الإرادة التي لا همّ لها سوى خيره وبناؤه واكتماله وأن تفيض الحياة فيه (يوحنا 10: 10). في حين أن الإنسان كثيرًا ما يكون عدوًا لنفسه. أحيانًا كثيرة يعتقد أنه يحب نفسه بينما هو يسعى بالفعل إلى تدميرها. طاعتنا لله هي إذًا طاعتنا للحياة. بطاعتنا لله لا نُستَلَب بل نكون.

***

السؤال الثالث: حول الفداء
نص السؤال: لماذا لا يقام قدّاس خلال الأسبوع في الصوم؟
الإجابة
كل قداس إنما هو احتفال بالفصح
ننطلق من مسلّمة، وهي أن كل قداس إنما هو احتفال بالقيامة. كل قداس هو فصح لأننا فيه نلتقي بالمسيح الحيّ، بالمسيح الناهض من بين الأموات، عبر المناولة. نتحد به فتسري حياته فينا وتقيمنا نحن أيضًا معه. ومن مؤشرات هذه القيامة، الشركة التي تنشأ بين بعضنا البعض: فكل قداس مناسبة لكي نلتقي بالعمق ونحقق كوننا جسد المسيح: “أليس الخبز الذي نكسره مشاركةً في جسد المسيح؟ فنحن جسد واحد لأنه ليس هناك إلا خبز واحد، ونحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك في هذا الخبز الواحد” (1 كورنثوس10: 16-17). وبهذا الحبّ الذي يتجدّد فينا ويوّحدنا في المسيح، نؤكّد أننا ننتمي إلى عالم القيامة، أننا قياميّون، لأن من يحبّ فقد انتصر على الموت: “نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة لأننا نحبّ الاخوة” (1 يوحنا 3: 14). لذا ففي القدّاس يتلو الكاهن قبل أن يناول المؤمنين قطعًا فصحية (لا نسمعها، للأسف، لأن العادة جرت بأن تُتلى بصوت خافت!). يقول: “إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرب القدوس، يسوع البريء من الخطأ وحده. لصليبك أيها المسيح، نسجد ولقيامتك المقدسة نسبّح ونمجّد إلخ…”، وأيضًا: “أيها المسيح، الفصح العظيم الأقدس، يا حكمة الله وكلمته وقدرته، امنحنا الاشتراك بك بأجلى بيان في نهار ملكك الذي لا يغرب أبدًا”. تُقال هذه القِطَع تعبيرًا عن الطابع الفصحي الذي يتّسم به كل قدّاس. فإذا كان كلّ قدّاس، بطبيعته، احتفالاً فصحيًا، نفهم لماذا لا يُقام في الصوم. ذلك أن الصوم الأربعيني احتفال بآلام المسيح ومشاركة بها.
وجها السرّ الفصحيّ: الآلام والقيامة

ولكن التمييز الذي أتينا على ذكره ليس بالبساطة التي قد نظنّها. فهناك توضيح لا بدّ منه لوضع الأمور في نصابها الحقيقي، وهو أن الآلام والقيامة وجهان لسرّ واحد، وجهان لا ينفصلان للسرّ الفصحيّ الذي هو قلب إيماننا.
ومن أجل جلاء هذا الأمر بشكل أوضح ينبغي أن نحاول الغوص إلى عمق سرّ الفداء ونتساءِل: متى وكيف أتمّ المسيح الفصح في ذاته أولاً، لكي يتاح له أن يشركنا نحن به؟ وبعبارة أخرى، يوحنّائية: متى وكيف “مُجِّد” المسيح؟ في إنجيل يوحنا نجد توازيًا مذهلاً بين المجد والصليب، يتجلى مثلاً في هذا القول الذي يرد على لسان يسوع: “فإذا رُفعت من هذه الأرض، جذبت إليّ الناس أجمعين” (يوحنا 12: 32). هذا الارتفاع يشير لأول وهلة إلى الصَلب القريب، ولذا أضاف الإنجيلي: “وأشار بذلك إلى الحال التي عليها سيموت” (يوحنا 12: 33) (وبهذا المعنى أيضًا تخاطب طقوسنا السيّد هاتفة: “يا من ارتفعت على الصليب مختارًا…”) ولكن سياق الجملة يفيد بأن الارتفاع هنا يشير أيضًا إلى الاقتدار: “جَذَبت إليّ الناس أجمعين”. الارتفاع المذكور في هذا النص يعني إذًا، بآن معًا، منتهى الإذلال وذروة الرِفعَة. فكيف نفهم هذا التلازم الغريب بين الصليب والمجد؟
بوسعنا أن نفهمه إذا أدركنا أن اللحظة التي تمجّد فيها المسيح، أي اللحظة التي امتلأت فيها إنسانيته بالحضور الإلهي (فالمجد، في الكتاب، هو كثافة الحضور الإلهي)، هذه اللحظة هي بالذات تلك التي مات فيها يسوع على الصليب بعد أن قال: “قد تمّ كلّ شيء” (يوحنا 19: 30).

ولنتوّسع في الأمر بعض الشيء. حين بلغ التأزم بين يسوع ورؤساء شعبه أشدّه واتضح له أنهم مقدمون على قتله لا محالة بسبب مجاهرته أمامهم بحقيقة الله، وجد نفسه أمام خيار بين احتمالين. فإما أن يسخّر الله لكي ينجّي نفسه، وقد جُرّب فعلاً بذلك: “يا أبتا، إنك على كل شيء قدير، فاصرف عني هذه الكأس” (مرقس 14: 36). وإما أن يقبل بأن يصبح مرميًّا بالكلية في جحيم المأساة البشرية وكأن الله تخلّى عنه، محققًا بذلك كليًا مشيئة الله (“لكن لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء”: مرقس 14: 36)، أي مشيئة محبته التي تريد أن تشارك الإنسان عمق مأساته. فالله، الذي، بطبيعته، لا يموت، اراد حبًا بالإنسان (حبًا جنونيًا، كما وصفه الآباء)، أن يشاركه في ذروة مأساته التي هي الموت. ولم يكن ذلك ممكنًا إلا من خلال إنسان مائت، من خلال يسوع. ولكن، حتى يحقق الله أمنيته “الجنونيّة” تلك، كان لا بدّ للإنسان يسوع أن يرتضي بأن يكون ذلك الوسيط، أن يقبل بأن تحطّمه المأساة البشرية لكي، عَبر جسده المكسور ودمه المهراق ونفسه “الحزينة حتى الموت” (مرقس 14: 34)، يذوق الله كل طعم مرارة هذه المأساة، حبًا بالإنسان.
كان على يسوع إذًا أن يقبل بأن يكون وكأن الله أهمله وتخلّى عنه. وهذا ما حصل بالفعل، إذ أرتضى أن يشرب الكأس حتى الثمالة، حتى تلك الصرخة الرهيبة التي أطلقها على الصليب: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (مرقس 15: 34). ولكنه، في تلك اللحظة عينها التي تحقق فيها قبوله بأن يكون مرميًا في المأساة البشرية حتى أسفل دركاتها، مسحوقًا منها جسدًا ونفسًا، ارتفع بحبّه المبذول إلى مستوى الله، إذ صار الحب الإلهي هو المسيّر الوحيد لبشريته. إنسانيته ارتفعت إلى مستوى حب الله “الجنونيّ”، للبشر، فحصل إذ ذاك التطابق التام بينها وبين الله. هذا التطابق كان موجودًا بالطبع منذ الأزل بين الآب والابن، ولكنه في تلك اللحظة، ارتسم كليًا في تلك الإنسانية التي اتخذها الابن لذاته.

عندئذ، هذا الجسد النازف والمختنق عل الصليب، والذي أضحى “لا صورة له ولا بهاء” كما تنبأ أشعيا (53: 2)، صار، بكل معنى الكلمة، جسد الله، أي صار الحضور الإلهي مالئًا لهذا الجسد، منتشرًا في كل ذرّة من ذرّاته. صحيح أنه كان، منذ لحظة التجسد، جسد الله، ولكنه كان ذلك بالقوة، بالطاقة en puissance. أما الآن فقد صار جسد الله بالفعل en acte. ولما صار هذا الجسد جسد الله فعلاً، لما ملأه الحضور الإلهي الذي لا يقوى الموت عليه، أصبح هذا الجسد، بطبيعة الحال، غالبًا للموت، وذلك في اللحظة عينها التي ارتضى فيها أن يرتمي في الموت حبًّا. فكانت القيامة.

من هنا أن التقليد القديم، الذي يعود إلى يوحنا الإنجيلي، كان يعيَّد للفصح بموجبه يوم الجمعة العظيمة اعترافًا بهذا التطابق بين الصليب والقيامة. كلّ ما في الأمر أن ذلك الانتصار الذي تحقق لحظة الموت، لم يُعلن عنه في تلك اللحظة عينها، بل أرجئ إعلانه إلى اليوم الثالث. إلى فجر أحد الفصح.
في الصيام تركيز على الآلام على خلفيّة القيامة

هناك إذًا توازٍ بين الآلام والقيامة، إنما، مثلما امتدت تاريخيًا مسافة بين الصلب وإعلان القيامة، ولأجل اعتبارات رعائية وتربوية، ورحمة بالذهن الإنساني الذي يصعب عليه أن يجمع المتناقضات ويحتوي الأضداد في رؤية واحدة، من أجل كل ذلك جرت العادة أن يُفصل بين الاحتفال بالآلام والاحتفال بالقيامة. وصار الصوم مكرسًا للاحتفال بالآلام بالدرجة الأولى.

في الصوم نعيش رحيل السيد وغيابه عنّا، وبذلك نحقق كلمة يسوع: “أيستطيع أهل العرس أن يصوموا والعريس بينهم؟ فما دام العريس بينهم، لا يستطيعون أن يصوموا. ولكن سيأتي زمن فيه يرتفع العريس من بينهم، ففي ذلك اليوم يصومون” (مرقس 2: 19-20). ولأن فترة الصوم مخصصة لعيش غياب المسيح، فإننا نحيا هذا الغياب في أجسادنا عبر الحرمان الطوعيّ الذي به نحجب بعض عطايا الله عنّا، فيعترينا شيء من الحزن لإفتقادنا ما تمنحه هذه العطايا من انتعاش، ويؤهلنا هذا الحزن للمشاركة روحيًا في آلام المسيح. من هنا تتردّد فكرة الحزن في الصوم: “يا ربّ القوّات كن معنا، فإن ما لنا في الأحزان معينٌ سواك …”. (خدمة صلاة النوم الكبرى)، “لا تصرف وجهك عن عبدك، إني حزين…” (خدمة غروب آحاد الصوم).

ولكن الحقيقة الإيمانية لا بدّ أن تجتمع فيها الأضداد، مهما بسّطنا الأمور. فالصوم الأرثوذكسي لا تختزله الكآبة، إنه يحويها ويتجاوزها بآن. فهو فترة حزن يلطّفه الفرح، فترة نور يتألق وسط ظلمة الحزن. ذلك لأننا، عبر هذا الحرمان الذي به نحجب عنا اختياريًا بعض عطايا الله، يتاح لنا أن نتبتّل إليه تعالى، فنفرّغ إليه ونعلن بصورة معيوشة تفضيلنا له على هباته. وبالتالي فصحيح إننا نحزن لغياب العريس، ولكوننا في غربة عنه (2كورنثوس 5: 6)، ولكننا، عبر الحرمان الذي يتجسد به هذا الحزن، نتوق إلى استعادة العريس. فنحن ساعون إليه عبر الانقطاع عن رغائبنا، وفي السعي إليه نجد فرحًا ونورًا. ولهذا تصرّ الكنيسة الأرثوذكسية على أن ترتّل في فترة الصوم عبارة “هللويا” (هلّلوا لله) التي هي هتاف فرح. ويقول المطران جورج خضر في كتابه عن الصوم (المطران جورج خضر: الصوم، منشورات النور، طبعة ثانية، 1971) أن من أسباب الخلاف الذي أدّى إلى التباعد بين الكنيستين الغربية والشرقية – وهو سبب تمّ تضخيمه بإفراط غير مبرّر، ولكنه مع ذلك يشير إلى حساسية الكنيسة الأرثوذكسية لهذا الموضوع – أن الكنيسة الغربية تنقطع عن ترتيل “هلليلويا” في حقبة الصوم، في حين أن الأرثوذكسية تعتبر تلك الحقبة مجالاً بامتياز لتلك الترتيلة. بالطبع كان ينبغي أن لا يُتخذ هذا الخلاف حجّة للقطيعة كما حصل، بل أن يكون موضوع حوار في مناخ محبة، ولكن وراء رعونة التصرّف نلمس تمسّك الأرثوذكسية بعنصر ثمين من تراثها وخبرتها الروحية، وهو اقتران حزن الصوم بفرح ارتقاب لقاء العريس، والصليب بالقيامة، لأن “النور يضيء في الظلمة” (يوحنا 5: 1)، وصحراء الصوم تخضرّ منبئة بوثبة الحياة المتجددة (ليتورجيًا يُسمى الصوم “ربيع النفس”). تلك الأجواء القيامية التي لا تزال تخيّم على فترة الصيام، ولو بشيء من الخفر، تتجلى بكون الاحتفال بالفصح يستمر في كل سبت وأحد من أسابيع الصوم، فيقام القداس في هذين اليومين ويبطل فيهما الصوم من حيث هو انقطاع كامل عن الطعام حتى الظهر. وبالروح نفسها، ومن أجل أن لا يحرم المؤمنون من المناولة في غير الأيام الآنفة الذكر، يقام في بحر الأسبوع، في زمن الصوم، قداس غير كامل معروف بقداس البروجيازميني أو القداس السابق تقديسه.

هكذا نرى الكنيسة، مع حرصها على التمييز، رعائيًا وتربويًا، بين الآلام والقيامة، تحافظ يوحنائيًا (أي بروح إنجيل يوحنا) على التزامن بين هذين الوجهين للسرّ الفصحيّ الواحد.

22/4/1989-6/5/1989
27/2/2006
ك. ب.