" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
مجالس الرعايا وبعض متطلبات النهضة الأنطاكية
لكي ندرك أهمية قانون مجالس الرعايا الذي أصدره المجمع المقدس الإنطاكي في 28 تموز 1973، ينبغي ان نعود الى المفهوم الكنسي الأصيل كما تسلمناه من الإنجيل ومن التراث الأرثوذكسي المترسخ في الإنجيل، فندرك عند ذاك ان القانون المذكور انما هو محاولة لاحياء هذا المفهوم الصحيح وتنقيته مما اعتراه من شوائب من جراء ظروف التاريخ وخطايا البشر. بموجب هذا المفهوم تُعتبر الكنيسة عائلة واحدة، هي عائلة المسيح. أعضاؤها كلهم اخوة في المسيح الذي يقول عنه يوحنا الإنجيلي انه "مات ليجمع أبناء الله المتفرقين الى واحد" (يوحنا 11: 51 و52 ). في هذه العائلة كل شيء يجري بالتفاهم والتشاور. صحيح أن في الكنيسة رعاة، هم المطارنة ومن ينتدبوهم من الكهنة. هؤلاء الرعاة لهم مسؤولية خاصة في الكنيسة ومقام خاص أيضاً. انهم بموجب إيماننا خلفاء المسيح والرسل فيما بيننا. بهم يُناط بشكل خاص السهر على سلامة الإيمان والعمل على نشره، كما أنهم مكلفون بإقامة الأسرار التي بها يستمر بيننا حضور المسيح المحيي. ولكنهم، مع ذلك، ليسوا وحدهم الكنيسة. الكنيسة مؤلفة منهم ومنا، من الرعاة ومن الشعب المؤمن. هذا الشعب ليس، في الرؤية الأرثوذكسية، مجرد متقبل للتعليم والإرشاد الصادرين عن الرعاة، انه أيضاً مساهم كل المساهمة في كل ما يتعلق بإيمان الكنيسة وحياتها ورسالتها. انه مناط به أن يشارك الرعاة في حفظ الإيمان ونشره وترجمته حياة وأعمالاً. يطيع الرعاة على قدر طاعتهم للإنجيل ويحاسبهم ان شذوا عنه في التعليم أو السلوك. تلك المشاركة الصميمية بين الرعاة والشعب، تعبّر عنها قاعدة ذهبية اعتمدت في كنيستنا الأرثوذكسية ألا وهي "ان لا يفعل الأخوة (أي المؤمنون) شيئاً دون الأسقف ولا يفعل الأسقف شيئاً دون الأخوة"....
المرأة في موقعها ومرتجاها
"دراسات مسكونية" – منشورات النور – الطبعة الثانية-2000 ملخص الكتاب الحاضر، الذي نرجو أن يكون الأوّل في سلسلة تستمدّ عناصرها من “ندوة الثلاثاء” هذه، يجمع مواضيع تمحورت حول المرأة. ولا عجب أن نرى هذا الموضوع يتكرّر، بأشكال ومن زوايا مختلفة، بين الأسئلة التي طرحها الشباب. فموضوع المرأة من مواضيع الساعة. ولا بدّ للشباب الذين هم، بطبيعة عمرهم، منفتحون على كلّ جديد، من أن يتحسسوه، بخاصّة في مجتمع إنتقاليّ كمجتمعنا حيث تتصادم بحدّة وصخب المواقف التقليديّة الموروثة وتيّارات الحداثة. وليس بالأمر المستغرب أن يحتدم هذا التصادم بنوع خاصّ في موضوع المرأة، لأنّه موضوع يمسّ كلّ إنسان في صميم كيانه- إذ يضع على المحكّ تصوّره لجنسه وللجنس الآخر وللعلاقة بينهما، علمًا بأنّ الجنس يمتدّ إلى جذور الشخصيّة ويطبع كلّ أبعادها – ولأنّه محاط بهالة من القدسيّة بسبب تداخله مع الأعراف الحضاريّة والمعتقدات الدينيّة. من هنا اقتضى بحث الموضوع بأقصى درجة ممكنة من الصفاء والموضوعيّة، خوفًا من الانزلاق وراء الأفكار المسبقة والانفعالات والتشنّجات – وما أكثر احتمال حدوثها في هذا المضمار – ممّا لا يعني أن يبقى المرء “محايدًا”. إذ لا قَبِلَ له أن “يعلو” فوق صراع يمسّه بالحقيقة، شاء أو أبى، في صميم إنسانيّته، ولا بدّ له تاليًا من أن يتّخذ فيه موقفًا، إنّما مع الحرص الشديد على أن يأتي هذا الموقف واعيًا ومسؤولاً ومنفتحًا ومتّزنًا. طبعات أخرى: مجلس كنائس الشرق الأوسط ، القاهرة -الطبعة الأولى ...
نضال عنفي او لاعنفي لاحقاق العدالة
“الإنجيل على دروب العصر”- منشورات النور – الطبعة الأولى- 1988 ملخص سؤال الشباب يتركّز كما هو ظاهر على موضوعين: موضوع العدالة وموضوع العنف، وعلى الارتباط بينهما. فقضية العدالة والتحرّر وحقوق الإنسان على أشكالها وضرورة النضال من أجل إحقاق ذلك كلّه، قضية تحتل مكانة مميزة في عالم اليوم الذي كثيرًا ما يعكس الشباب هواجسه. وإنّهم يلاحظون ولا شك أن الوجه الأبرز الذي يتخذه النضال من أجل العدالة، أو بالأحرى الوجه الذي يغلب ظهوره لهم عبر وسائل الإعلام، إنّما هو الوجه العنفي، من عمليات مسلحة وحروب تحرير وأعمال إرهابية. ويُهيَّأ لي أنه قد بدا لهم وكأن هناك تلازمًا بين النضال العنفيّ وبين إحقاق العدالة. ولا يغيب عن البال أن السؤال طُرح، كما سبقت الإشارة، سنة 1981، أي في وقت كانت الحرب اللبنانية مستمرة فيه منذ ستة أعوام. ولا بدّ أن الشباب طارحي السؤال كانوا يلاحظون أن الفئات المسلحة المتصارعة آنذاك “على الساحة اللبنانية” كانت تقول كلها بالنضال المسلح طريقًا إلى الحقوق المشروعة التي تقتضيها العدالة.ولا بدّ أن هذا الارتباط الراهن بين الدعوة إلى العدالة واعتماد العنف وسيلة لها، قد أثار تساؤلاً وجدانيًا لدى الشباب نابعًا من قناعاتهم الإيمانية. فهم يفهمون أن الانجيل يدعو إلى العدالة من جهة وإلى السلام من جهة أخرى. وكان لا بدّ لهم بالتالي أن يتساءلوا عن كيفية التوفيق بين هذه الدعوة وتلك. من هنا السؤال الذي طرحوه والذي انطلقت منه هذه الدراسة...
العائلة … كنيسة
بين التحيات التي يرسلها بولس الرسول إلى أهل كورنثس في آخر رسالته الأولى لهم، سلام لكنيستيّ اكيلاس وبريسيلا "المنزليتين"، مما يجعلنا نميز دون شك وجود مؤسسة "كنسية " في المنزل أو في العائلة. وهذا الدليل قد أعطاه القديس اغناطيوس إذ قال: "حيث يوجد المسيح هناك تكون الكنيسة". إن وجود المسيح حقيقة يجعل من كل وحدة ثابتة (ومنها العائلة)، كنيسة. وهكذا يدعو القديس يوحنا الذهبي الفم العائلة "كنيسة صغيرة". إننا لنجد هنا علاقة تتعدى التشابه والمجاز. لأن رموز الكتاب المقدس والأمثال الانجيلية ليست طارئة لكنها تعبّر عن علاقة حقيقية وتماثل بين أمور هي بالحقيقة تعابير مختلفة لفكرة الخالق الواحدة. إن الزواج يشكل قسماً أساسياً من الكنيسة وهو في الوقت نفسه رمزاً لها. كل ما تتصف به الكنيسة ينطبق على الزواج، لأن الزواج هو اتحاد مؤمنين في وحدة المحبة والإيمان والأسرار للحياة الأبدية. هو بحد ذاته سرٌ حيّ، سر المحبة المتزايدة المتكاملة أبداً، والكنيسة هي سلم يعقوب ونقطة تلاقي البشرية التي تحيا الحياة الإلهية والإله الذي يحيا حياة البشر، هي الثالوث يتجلى في البشري. والأمر الذي يخص الزواج ويشكل أساس سره وروحه، قد أعلن عنه الذهبي الفم بقوة لا تقارنها قوة قائلاً أن اتحاد الزوجين ليس صورة لأوضاع أرضية بشرية بل هو صورة الله ذاته. ...
رحلة في فكر ونهج
تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع م.م. - 2013 في 24 آب 1991، دُعيت إلى إلقاء حديث في لقاء للشباب الجامعيّين نظّمته حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، كعادتها آنذاك، في دير القدّيس جاورجيوس الحميراء. في حديثي أجبت عن أسئلة كان الشباب قد طرحوها عليّ ووردتني مسبقًا. ولفت نظري أنّ الأسئلة الواردة ركّزت، هذه المرّة، على نظرة شاملة إلى فحوى كتبي، كما أنّها اتّسمت بموقف نقديّ صريح من منهجيّتي وطروحاتي. حاولت أن أتجاوب بكلّيّتي مع هذا النقد، وأن أنفتح في أعماقي إلى تحدّيه وأن أعيد، في ضوئه، قراءة فكري ونهجي، وأن أقدّم عنه تاليًا إجابة تُشعر طارحي الأسئلة أنّ انتقادهم أُخذ على محمل الجدّ كلّ الجدّ، وتسمح لهم ولسواهم من الشباب بأن يعيدوا، في ضوئها، قراءة ما كتبته، بعيدًا عن كلّ التباس، وأن يتّخذوا منه، تاليًا، موقفًا أكثر دقّة ووعيًا ومسؤوليّة
الولد الخجول وتربية الثقة بالنفس – “نحن وأولادنا”-الجزء الرابع
"سلسلة نحن وأولادنا"- الجزء الرابع - تعاونية النور الأرثوذكسية للنشر والتوزيع م.م الطبعة الرابعة 2013 الولد الخجول ولد وَجِل، يفقد إمكانيّاته حالما يوجَد أمام الغير، فيرتبك محاولاً بكافّة الوسائل أن يصرف الانتباه عنه وأن يحتجب عن الأنظار. إنّ القيام يأيّة مهمّة يصبح لديه صعباً أو مستحيلاً حالما يجد نفسه في جماعة. يتّصف إذاً موقف الولد الخجول بتردّد وعدم ثقة بالنفس، ويعبّر هذا الموقف عن ذاته بمظاهر شتّى تُظهره بادياً للعيان وتزيد بالتالي من تأزّم نفسيّة صاحبه، ومنها: احمرار الوجه، اضطرابات في الأحاسيس والنطق والذاكرة ، التهرّب من العلاقات الاجتماعيّة، وغيرها ... وللخجل أسباب متعدّدة منها ما يعود إلى المزاج، المرتبط بتكوين الولد، ومنها ما يعود إلى مرحلة النموّ التي يجتازها الولد. أمّا أهم الأسباب فهي تلك التي تعود إلى علاقات الولد بمحيطه العائلي وبنوع خاص بوالديه. ويفصّل الكاتب بعض الأسباب العلائقيّة الأسريّة للخجل، نذكر منها: - شعور الولد بأنّه غير مرغوب به - التربية المتسلّطة الساحقة - الاستهزاء بالولد والاستخفاف بقدراته - الاحتضان المفرَط - الاهتمام المفرط لدى الأهل برأي الناس - ... أما في الفصل الثالث، فينتقل الكاتب إلى كيفيّة معالجة الخجل معالجةً جذريّة، بمعنى التركيز على جوهر المشكلة أي على التأزّم عينه، بدل المعالجة غير المجدية للأعراض! السلوك الخجول لا يؤلم الولد فحسب بل أهله أيضاً الذين يتضايقون لرؤية ولدهم عاجزاً، مكبّلاً، هامشيّاً ... من هنا معالجة الخجل - وما هو أفضل بكثير أي تلافيه - يفترضان أن يُدرِك الأهل نمط العلائق الذي من شأنه أن يقود إليه، وأن يراجعوا مواقفهم ويعيدوا النظر في مشروعيّتها على ضوء هذا الإدراك، وأن يسعوا بالتالي إلى تحقيق مناخ ينعش لدى الولد الثقة بالنفس بدل أن يقوّضها، ويجنّبه الخوف من الحياة ومن الآخرين. ...
من يستطيع أن يتكلّم على سيرة هذا الرّجل؟ من يستطيع أن يتكلّم على كوستي بندلي؟ هذا المُربّي بكلِّ معنى الكلمة، هو المُعلّم لا بل الأب. كثيرون يتكلّمون على الكهنوت الملوكي لكن قليلون يعيشونه، كان هو الكاهنَ بامتياز. لماذا؟لأنّه كان صادقاً، إيمانُهُ كان حياتَهُ. هو المُصلّي.. هو الباحث.. لقد جمع بين العقل والقلب.. تكلّم على الأطفال لأنّه كان يحسّ معهم.. تكلّم على الشّباب لأنّه كان يعيش معهم.. لكن كيف عرف كلّ ذلك؟ كيف تممّم كلّ ذلك الإرث الضّخم الذي تَركهُ؟ أنا أقول لكم كيف: لقد حصل على نِعَمِ الله الغزيرة، لأنّه اكتسب فضيلةَ التّواضع. الكلّ يَشهدُ كيف تصرّف في الحرب الأهليّة..ويَعرفُ كيف حَرِصَ أن يبقى في بلدهِ في الأوقات العصيبة.. الكثيرون يعرفون كيف كان يعملُ عَمَلَ راعٍ في رعيّته. هو الذي أنشأ نظامَ الاِشتراكاتِ في الرّعيّة.. هو الذي شجّع السَّهراتِ والإجتماعاتِ الإنجيليّة.. كان أميناً لربِّه حتى النّهاية، مُنكبّاً على الدّراسة، ومُنكبّاً على العمل، مُجاهداً في ما بين شَعبهِ. أين الذين يُنادون بالعيشِ المُشتَرك؟ خُذُوا هذا الرَّجُلَ مِثالاً.
المطران أفرام كرياكوس
منذ شبابي، أكرمني الله بمحبة كوستي بندلي و نفعني بعلمه. قرأت كتبه، وفي مقدمها كتاب حياته وهو أجمل ما كتب وأغنى. وعرفت صفاءه الروحي ولطفه وتواضعه. لم تبعده سعة اطلاعه عن احد من خلاّنه او مريديه بل حمّلته اسئلتهم وهواجسهم. ولعله كان يبحث عنها لا في الحوار الدافئ فحسب بل في في عيون الشباب الحائرة وطرق البالغين المتعرّجة اوفي مساعي هولاء واولئك المتعثرة. رجل صلاة كان، اي رجل ايمان قويم. لم يحسب نفسه يوما حارسا للعقيدة وكأنها ملك يديه تسوّغ ادانة الغير، تقصي بدل ان تقرّب. بل دخل من الباب الضيق للسير نحو تجليّات الحق والخير والجمال حيث ما تكشّفت له، في الكنيسة وخارجها. وذهب من المعرفة، وهي عنده غزيرة، الى الحكمة. توسّل العلوم الانسانية طريقا الى مقاربة سر الانسان ومعها تنزيه الله عن الكثير مما يوصف به او يقال عنه. حمل الانجيل بيد وتواريخ الناس وقصصهم بيد أخرى. قرأ معاني الثانية حينا، ومراميها حين آخر، في مرآة الأول. وما ارتضى السهولة في كل ذلك. فبعض الأنجيل يحتجب وراء نواقص التفسير وتجمدّه خارج سياقات حيواتنا. لكن انواره تفتح امام الأعين احتمالات وفرص تمتحن الشهادة المسيحية، يوما بعد يوم، وتشقّ مسالك جديدة. رافقتني افكار كوستي بندلي. امسكت بي ولم افلت منها. حسبي ان أذكر منها مساهمتان
. و ما زال أحد الأعمدة دراسة أوّلية حول المفكّر كوستي بندلي مقدمة منذ خمسينات القرن العشرين، وبحماس وإصرار قلّ نظيرهما، وغيرة على شعب يصلّي بصمت وشغف تراتيل ليتورجيّة علّمته إياها كنيسة غنيّة بتراثها وآبائها، وقف "رجل" ليقول إنّ هذا الشعب، الذي رزح لزمن طويل تحت ظروف تاريخيّة سياسيّة صعبة، تُرك وحيداً بسبب ندرة الرعاة الحقيقيّين وصراعات طبقيّة محلّيّة وعائليّة متحكّمة في توجهات الكنيسة، بقي على إيمانه الصّادق والعميق، لكن بسكون تامّ. إنّ لهذا الشعب الحقّ في أن يتعلّم عمق أرثوذكسيّته ويتذوّق بمعرفة حلاوة هذا التراث، بعد معايشته الداخليّة أو الضمنيّة له زمناً طويلاﹰﹰ. هذا الرجل "كوستي بندلي" أستاذي[1] وهبه الله من نعمه الكثير ومنها "نعمة التعليم". فاستحقّ بجدارة "لقب المعلـّم" أي معلـّم الأجيال، نظرا ً إلى ما قام به من تعليم مباشر عبر ندوات وسهرات ذات طابع دينيّ توجيهيّ ورعائيّ، وعبر ما كتبه ونشره بتوقيعه كشخص بارز له وزنه العلميّ، من حيث ثقافته الدينيّة الأرثوذكسيّة الواسعة. ولا بدّ لي أن أشير إلى تعليم غير مباشر يتمثّل بسلوكيّة هذا الرّجل وتصرّفاته ومواقفه المستوحاة من فهم عميق للكتاب المقدّس، سواء كانت مزامير أو حكمة الأمثال أو البشرى السارّة أو حكمة الأنبياء أو الآباء. فأغن...
كوستي بندلي: كتاب … بأقلام الشّباب الدكتور جان عبدالله توما قد يكون من الصعب أن تقرأ كوستي بندلي دون العودة إلى حضوره الشخصيّ في حياة الشباب والاستماع إليهم، في مشاكلهم وقضاياهم، بإصغاء قد لا يتوافر لكثيرين. ولعلّ كوستي بندلي يملك القدرة على الصّبر والأناة في حواراته مع الشّباب متجاوبًا مع معاناتـهم في تركيز واضح على رغبته في ألاّ يكسر أغصانـهم الفتيّة، بل يعمل على تشذيبها بأناة وتواضع. ربّما استمع كوستي بندلي إلى مئات، بل آلاف من الشباب يبسطون أمامه مأزقهم اليوميّ، في تعاملهم مع "السّلطة" الأبويّة منها أو الأمويّة أو المدرسيّة، أو توتّر العلاقة بين الإخوة أو الأصدقاء. وكان هو، بالمقابل، يبسط أمامهم ما تناوله من الكتاب المقدّس وحياة يسوع الشخصيّة، وما غرفه من أمّهات الكتب باللغتين العربيّة والفرنسيّة، ليطلق الشّباب من محدوديّة منطقهم ومنطقتهم أو بلدهم أو فكرهم، إلى عولمة إيجابيّة تأخذ ما هو مفيد، وترذل ما قد يسيء إلى إنسانيّة الإنسان واستعادة دوره النّورانيّ في العلاقة السّويّة القائمة على البيان والتبيين والفهم والإفهام والوضوح والإيضاح. من علائم الكتابة الموضوعيّة أن يترك الكاتب بينه وبين الموضوع مساحة، ليحافظ على الخطّ العلمي. ولعلّ كوستي بندلي
القيت هذه الكلمة في لقاء اقامه فرع الميناء لحركة الشبيبة الارثوذكسية في ١ اذار ٢٠١٤ ماذا تقول حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في كوستي بندلي اليوم؟ وقبل أن أستمع إليها أتوجّه إلى راحلنا العزيز وأقول له: «عذرًا لأنّني ها أنا فاعل، في كلامي فيك، ما لم ترده في حياتك كلّها، ولم تسمح به سحابة عمرك. فعذرًا وألف عذر». أنا لا أمدحك ولكن أقف لأتعلّم منك. جئناك اليوم، كعادتنا، لنستمع إلى حديثك الباني، كما كنّا نقصدك حاملين إليك الهواجس والمسائل لنغرف من معين علمك الغزير وفيض إخلاصك الكبير. لمّا تتحدّث الحركة عن العزيز الراقد تتحدّث عن ذاتها وتبوح ببعض من جوهرها، بقدر ما تسعف اللغة، الحركة حالة وحياة نعرفها بالذوق، بالقلب والوجدان والخبرة. فعسى، أيّها الراحل المقيم والغائب الحاضر، أن أنجح
كوستي بندلي كأيقونة صامتة لمّا طُلب إليّ أن أكتب عن كوستي بندلي، تردّدت كثيرًا، ليس لأنّي لا أعرف الرجل، بل ربّما لأنّي أعرفه كثيرًا، وما أريد أن أقوله عنه يجرح تواضعه لأنّ المديح يجرح المتواضعين. لخمس وعشرين سنة مضت، وقف كوستي بندلي أمامي في القدّاس الإلهيّ في كنيسة النبي الياس – الميناء كأيقونة صامتة، ولكن معبّرة جدّاً. كنت تقرأ في وجهه كيف يصلّي الإنسان، كيف يرتّل صامتًا والفرح بادٍ على محيّاه، تفجّره دمعة تسيل بهدوء من عينه وهو شاخص إلى وجه السيّد في الأيقونة. وحيث إنّ أولاد الرعيّة والصغار منهم يجلسون أيضًا أمام الباب الملوكيّ، كان كوستي بينهم كراعٍ، قلْ كطفل منهم، لا ينزعج من حركاتهم ولا يتضايق، بل كان ذلك يزيده فرحًا لأنّهم استمراريّة الكنيسة الحيّة. وأعود إلى الوراء أيضًا يوم كنت عضوًا في فرقة القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم، وكان مرشدنا.
من الصعب جدًّا أن يُقوّم العمل الجبّار الذي حقّقه كوستي بندلي في وريقات ... بل تلك المكتبة المتكاملة التي سعى إلى تأليفها منذ سنين عدّة، ساهرًا منقّبًا مستطلعًا منصتًا إلى مشاكل الشباب لكي يقدّم لهم الحلول والإرشاد والتوجيه إلى من قال: "أنا هو النور والحقّ والحياة". ولذلك هذا المقال أردته شهادة صادقة لمن كان بالنسبة إليّ المعلّم والقدوة، الذي استفدت جدًّا من تعليمه والذي حثّني على الكتابة بالتشجيع والشرح في شتّى المجالات: الأدب الفرنسيّ وعلم النفس والفلسفة وكيفيّة التعامل مع المراهقين، عندما كنّا نعمل في فرق "طلائع النور"، والتعليق على الإنجيل وشرح العهد القديم، إلى ما هنالك من مواضيع كنت متشوّقة لمعرفتها بخاصّة موضوع التربية الذي برع به. عندما سمعت كوستي بندلي لأوّل مرّة