" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
حوار مع فرويد الله والإنسان في فكر كوستي بندلي

حوار مع فرويد

الله والإنسان في فكر كوستي بندلي

البروفسور نجيب جهشان***

*** إستاذ جراحة الأورام والإحصائيات الطبية والجراحة، كلية الطب، جامعة القديس يوسف

مدير طبّي، مستشفى أوتيل ديو الجامعي، بيروت، لبنان

رئيس سابق للجمعية اللبنانية للجراحة العامة، جرّاح لبنان المميَّز سنة 2012

رئيس الجمعية الثقافية الروميَّة


أيها الحضورُ الكريم

لقد كُلفتُ ، في هذه الندوةِ القيّمة ، المخصصةِ لمؤلفات الدكتور كوستي بندلي والمتمثلةِ بأطروحتِه ذاتِ الثلاثة أجزاء وبكتابَين مُنحدرَين منها ، كُلفت مقاربةَ موضوعٍ دُعي "الله والإنسان في فكر كوستي بندلي" . كيفَ لي وأنا الطبيبَ الذي يتعاطى ، في صِلبِ مهنتِه، شؤونَ الجسدِ وشجونَه ، وأنا الجراحَ أيضاً الذي تقتصرُ مداخلاتُه على مادةِ الجسدِ وعاهاتِه ، كيفَ لي أنْ أقاربَ موضوعاً كهذا ينظرُ إلى الإنسانِ ككائنٍ أعظمَ من جسدِه ، ويبحثُ عن اللهِ في فكر أديبٍ وفيلسوفٍ وعالم نفسٍ عظيمٍ ، دونَ أن ألهثَ مقصِّراً في إدائي، فلا أُعطي صاحبَ الحقِّ حقَّهُ ولا أتعسّرَ في سَبرِ أعماقِ نبوغِه. أخافُ بالفعل أن أقصّرَ وأتعثَّرَ. غيرَ أني سأبذلُ جهدي وأتخطّى قيودي البشريَّةَ لألامِسَ، قدرَ استطاعتي، أعماقَ هذا الفكرِ البندليِّ .

كلفت أن أبحث عن الله والإنسان في فكر كوستي بندلي . وُضع اللهُ في مقدمةِ هذا العنوان وأُلحِقَ به الإنسان . وهذا بالطبع تقليدٌ عفويٌّ يعودُ إلى تعريفِنا لله بأنه الخالقُ لكلِّ شيءٍ ولكلِّ وجود . هو في كُلِّ شيءٍ وخارجَ كلِّ شيء . أما الإنسانُ فمن ثِمار الله ، مخلوقٌ محدودٌ لا يُقارنُ بالله ، ولذا يأتي بعدَه في كلِّ شيءٍ وكلِّ أمر . لكِني إنْ رغبتُ في التطرُّقِ إلى هذَين الوجودَين في فكر كوستي بندلي، لقلَبْتُ العنوانَ وقلتُ "الإنسان والله في فكر كوستي بندلي" ، مشيراً إلى انطلاقِه في أطروحتِه وكتابَيهِ اللاحقَين ، وكعالم نفسٍ ، من الوجودِ الإنساني الباكر والبدائيِّ غيرِ المدرك لله أولاً ، ليصيرَ وجوداً "واعياً" يستشفُّ اللهَ فيحِلُّ اللهُ فيه ثانيةً . ففي التحليلِ النفسيِّ الذي انطلقَ به فرويد وحاورَه فيه بندلي ، مُعتمِداً بالطبع جدليَّتَهُ الشهيرة ، يأتي الإنسانُ قبلَ الله ، ويتكوَّنُ وجودُه الواعي قبلَ إدراكِه للوجودِ الألهي.


لذلكَ، سيتضمَّنُ بحثي فصولاً ثلاثة تتضمَّنُ الطفولةَ البيولوجية والبلوغَ البيولوجي والعودةَ الضرورية إلى روحِ الطفولة.

الفصل الأول: الطفولة البيولوجية

يبدأ الإنسانُ حياتَهُ جنيناً في أحشاءِ أمه ، حيثُ يأتيه كلُّ غذاءٍ ضروريٍّ في وقتِه وحينِه وبالكميَّةِ اللازمة . في هذه الفترةِ الزمنيَّةِ التي تسبِقُ الولادةَ الطبيعية، لا يفتقرُ الإنسانُ إلى أيِّ شيءٍ ولا يعرفُ الشعورَ بالحاجة ، وبالتالي لا يفرِّقُ في عالمِه الجنيني هذا بين وجودِه ووُجودِ أمِّه مصدرِ غِذائه . إنَّه في وضعٍ لا يفرِّقُ فيه بين ذاتِه والعالم ، إنه في عالمٍ كلّيّ .

بعد حينٍ، تُشكِّلُ الولادةُ حقبةً "مفصليةً" في وجودِ الإنسان ، إذ بها ينتقلُ ، وهو الطفلُ الذي يبقى بيولوجياً "جنيناً قاصراً" ، إلى حالٍ من المُجابهة مع مُحيطِه . يشعرُ، للوهلةِ الأولى، بأنَّه محتاجٌ إلى الغذاء. وغذاؤه يأتيه بالفم ، فيصيرُ فمُه وسيلتَه الأولى والوحيدةَ للإتِّصال بالعالم ، ولاستكشافِ هذا العالم . أمُّه التي سريعاً ما يبدأُ بالشخوص إلى عينَيها ، هي مصدرُ هذا الغذاء ومصدرُ الإكتفاءِ والراحةِ الكُلية التي يحصلُ عليها بأبتلاعِه ما يأتي من ثديَيها. إنَّه، في هذه المرحلةِ البدائية ، يكتشِفُ العالمَ عبرَ عينَي أمِّه ووجهِها، أمِّه التي هي مصدرُ تأمينِ حاجتِه .

الأيامُ تتوالى، وهي طويلةٌ وعديدةٌ عند فصيلةِ الإنسان ، بخلافِ المخلوقاتِ الحيَّةِ الأخرى، والثديياتِ بالتحديد. روَيدأً روَيداً، يكتشفُ الرضيعُ بأنَّ أمَّه لا تلبّي حاجاتِه دوماً وحالاً. يتولَّدُ لديه شعورٌ بالإحباطِ عندَ تقصيرِ أمِّه، ثم شعورٌ بالفرح عند وصولِ الغذاء . هذه الحالُ من القطيعةِ المتواترة بينَه وبينَ مصدرِ غذائِه ، تبدأُ بالتفريقِ وجوديا" بينَه وبين أمِّه، وبالتالي لاحقاً، بينَه وبين العالم الخارجي . يكتشفُ الطفلُ الرضيعُ حينذاك بأنَّهُ كيانٌ مستقلٌّ، لكنَّ ضعفَه المتمثلَ بعدم قدرتِه بالحصولِ على الغذاءِ، وبالتالي عدمِ قدرتِه على تأمين حمايتِه الذاتية، يوَلدُ الشعورَ بحاجتِه الدائمةِ إلى أمِّه وبالتالي إلى العالم الخارجي.

أمُّه تصيرُ مصدرَ غذائِه وتصيرُ الحاجةُ إليها مصدرَ حبِّه. ثمَّ تنفصلُ حاجتُه للغذاء تدريجياً عن هذا الحبِّ ، لتتولدَّ مكانَ الحاجة، أو إلى جانبِها، علاقة حميميَّةٌ مع الأم ، ولاحقاً مع العالم ، مبنيَّةٌ على شعورِ الرغبة .

هذه الرغبةُ البدائية، الناشئةُ أصلاً من الحاجةِ للغذاء ، تتطوَّرُ تدريجياً لتفصِلَ بين الإنسان والكائناتِ الأخرى، فيعترفُ الطفلُ لتلك الكائنات بوجودٍ مستقلٍ، ويشعرُ بعدَها بالحبِّ نحوها . هذا الحبُّ هو الرغبة في لقاءِ الآخر والتواصلِ معه. هذا الآخرُ المتميِّزُ المرغوبُ فيه مستقلٌ، حرٌ، وكاملُ الوجود، لذا فالتعاملُ معه يصيرُ خاضعاً لشروطٍ جديدةٍ تتعدّى الحاجةَ البدائيةَ واللذَّةَ الشخصية .

وبالنتيجة، فهذا الطفلُ الذي تحرِّكُه الرغبةُ وتشتعلُ فيه نارُ الحب ، هو بئرُ الكائنِ البشري كما يسمّيها كوستي بندلي نقلاً عن باشلار. يرى بندلي هذه البئرَ متوافرةً لذاتِ الإنسانِ في كلِّ مكانٍ وحينٍ، ساعيةً وراءَ رغبتِها بتأنٍ وصبرٍ وكلّيةٍ .

هذا الطفلُ يراه بندلي فضولياً، محبّاً للإستطلاعِ دوماً يسألُ الكونَ ويسمحُ للكونِ بأنْ يسألُه. فهو جنينُ رجلِ العلم الباحث عن المعرفةِ في كلِّ زمنٍ وحينٍ .

هذا الطفلُ يراه بندلي أصيلَ الخميرةِ، مجّانيَّ العطاء، طاهراً لا يحسِبُ حسابَ الخسارةِ والربح ولا يُضمِرُ في ذاتِه شرّاً أو مصلَحَة .

هذا الطفلُ يراه بندلي عفوياً، وبعفويتِه قادراً على إجتراحِ تجاربَ جديدةٍ وإختبارِ إمكانياتٍ مختلفة، وتحديثِ نظرتٍه إلى عالمِه في كلِّ حين .

هذا الطفلُ يراهُ بندلي أيضاً قادراً على الإنِعجابِ والإنذهالِ بما حولِه من أشياءَ ومخلوقاتٍ، يراها في كلِّ حينٍ مستحدثةً ومتجدِّدَة ، ثريَّةً وتغتني ، نقيَّةً وتتنقّى. في كلِّ آنٍ، تتجدَّدُ رؤياهُ لها وكأنَّها تتكشَّفُ لبصيرتِه للمرَّةِ الأولى فيتعجَّبُ وينذهِلُ كمنْ هوَ أمامَ أعجوبةٍ باهرة .

هذا الطفلُ يراهُ بندلي كائناً خلاّقاً، يحملُ في ذاتِه قدرةَ التغييرِ والتحويلِ تحرِّكُه ديناميةٌ دائمةٌ لا حدَّ لها.

*********************

الفصل الثاني: البلوغ البيولوجي

وفي نموِّ النفس البشريةِ، تلي فترةَ الطفولة فترةُ البلوغِ البيولوجي. ينتهي الفصلُ الأوَّلُ بأفولِ هذه الميزاتِ العظيمةِ المذكورةِ أعلاه، ذلكَ أنَّ سنواتِ الطفولة البشريةِ لا تدومُ، وتلكَ الحال من الاستكشافِ والفضوليَّةِ والتساؤلِ والمجَّانيةِ والعفويةِ والذهولِ تتلاشى تدريجياً ليَبلغَ الإنسانُ حالَ النضوجِ والاستقراَر. بنظرةٍ موضوعيةٍ خالصةٍ، يرى بندلي ومعظمُ الذين نقلَ آراءَهم في كتُبِه بأنَّ النضوجَ الإنسانيَّ أو البلوغَ مرادفٌ لتحقيقِ الوعودِ وإنجازِ أعمالٍ بنّاءةٍ دائمةٍ ومتَماسكةٍ.

ماذا يبقى بعدَ الطفولة من تلك الرغبة البدائيةِ في الطعام التي أسَّسَت شخصية الإنسان وعواطفَه ؟ إنَّ التحليلَ النفسي أوسعَ درساً هذه الرغبةَ وبقاياها عندَ الإنسان الناضج. لكنْ ليسَ لموضوع بحثي علاقةٌ مباشرةٌ بهذه البقايا من فترةِ الطفولة، وهيَ خاصةٌ بعلمِ النفس. غيرَ أني مضطرٌّ لأنقلَ موقفَ فرويد وتلاميذِه منها، الذين يقولونَ بأنَّ كافةَ تصرفاتِ الإنسانِ البالغِ وأمراضِه غيرِ العُضوية ناتجةٌ عن هذه الطفولة، ومرتبطةٌ بها ارتباطاً وثيقاً.

يقول فرويد، هذا العالمُ النفسيُّ الكبير، الذي سبقَ إلحادُه اكتشافَه للتحليلِ النفسيّ، بأنَّ الظاهرةَ الدينيّة ليست سوى فَصلٍ من فصول اللاوعي في علم النفس. إنَّها من بقايا الطفولة ونزاعاتها الدفينة، ناتجةٌ عن سوءِ علاقةِ الطفل بأهلِه حيث تشذُّ الرغباتُ وتتفاعلُ المخاوفُ لتجِدَ لذاتِها ملجأً في الوهمِ الدينيِّ، فيظنُّ الإنسانُ البالغُ الباحثُ عن ملجأٍ أمينٍ بأنَّ الكونَ خُلِقَ على مِثالِه العائليِّ، وبأنَّ الآلهةَ تلعبُ دورَ الأبوَين الذَين يَحميان الحِمى، وبأنَّ الصلاحَ والحقَّ وكلَّ حسنةٍ أخلاقيَّةٍ يُبشِّرُ بها الدينُ هيَ على صورةِ الأخلاقِياتِ التي أمرَ بها الأهلُ صغيرَهم. يرى فرويد الظاهرةَ الدينيَّةَ وهماً لا أساسَ له في المنطقِ العقلانيِّ، بلْ هو نِتاجُ الرغبةِ الدفينة في أعماقِ البالغِ، متبقّيةٌ في لاوعيِه منذ حداثةِ طفولتِه. لا يقتصرُ هذا الوهمُ الدينيُّ فحسبْ على الفردِ الواحدِ الواصلِ إلى حالِ البلوغ ، بلْ هو متجذِّرٌ أيضاً في الجماعةِ الإنسانيةِ التي عبرَت في تاريخِها فصولاً متتاليةً شبيهةً بالطفولة الفرديةِ قبلَ أنْ تصِلَ إلى حالِها المُعاصرة .

ففي هذا الإطار الفكري، ينبري كوستي بندلي بروحٍ ومنهجيةٍ علميتَين الى تَفنيدِ هذا الرأي الذي اعتقدَ به سيغموند فرويد، مشدِّداً على أنَّ التحليلَ النفسيَّ ليسَ سوى وسيلةٍ لإستكشافِ النفسِ البشرية دونَ أنْ يكونَ حكماً يقيِّمُ غايةَ هذه النفس. ويُبرهنُ، في نصٍّ مُطوَّلٍ، بأنَّ الأيمانَ هو جزءٌ من الرغبة الإنسانية الصحيحة غيرِ المَرَضيَّةِ؛ هو تعبيرٌ عنها وبُرهانٌ لصدقيتِها .

ما من إنسان بالغٍ إلاَ وتولَّدَت لديه هذه الرغبةُ الإنسانيةُ الطبيعيَّ ، ووصَلَت به إلى موقفٍ دينيٍّ، يعبِّرُ بشكلٍ أو بآخرَ عن الوجودِ الإلهي، أو بالأحرى عن وجودٍ مقدَّس. الملحدُ المُفرغُ الكونَ من الله هوَ أيضاً يقدِّسُ الكونَ بدلَ الله إذ يراهُ مذهِلاً بذاتِه. العالمُ المؤمنُ بقدرةِ العلم غيرِ المتناهِية يقدِّسَ هذا العلم لأجلِ ذاتِه. الأرواحيُّ، الجاهلُ للهِ الواحد، يقدِّسُ الأرواحَ التي تملأُ الكونَ. الوثنيُّ، في عبادتِه للشمسِ أو للقمرِ أو للأصنام، يقدِّسُها لذاتِها كآلهةٍ جبّارة. أمّا الموحِّدُ لله فيقدِّسُ اللهَ ويؤمنُ بأنَّ كلَّ شيءٍ وكلَّ كائنٍ في هذا الكون من عملِه .

إنَّ رغبةَ الإنسانِ البالغِ تصلُ به إلى وضعٍ يفصِلُ فيه ما بينَ ذاتِه وبينَ المقدّس الذي يبقى مميَّزاً عنه، مستقلاً متسامياً فوق حالِه. هذا المقدس هوَ سرّيٌ، غريبٌ، عظيمٌ، مخيفٌ، يتوقُ إليه الإنسانُ ليحتويه، وفي الوقتِ عينِه ليذوبَ فيه. هذا المقدَّسُ هو القيِّمُ الأعلى في الكون، تزولُ أمامَه قِيَمُ الإنسانِ الفرديَّةِ الخاصة. هذا المقدَّسُ هو قمَّةُ الصلاحِ الذي يكشفُ للإنسانِ خطاياه.

المقدَّسُ الإلهي بعيدٌ غيرُ مدرَكٍ بالحواس، لكنَّه، في الوقت ذاته، حَميميٌّ يدخلُ أعماقَ أحشاءِ الإنسان. هو قادرٌ أنْ يُعبِّرَ عن ذاتِه، كالرموز، في كُلِّ شيءٍ، في الطبيعةِ الجامدةِ، في الطبيعةِ الحيَّةِ، وفي الإنسانِ عينِه، لِيصُحَّ ما قيلَ في الكتابِ المقدَّسِ بأنَّ اللهَ خلقَ الإنسانَ على صورتِه ومثالِه.

تطوُّرُ الإنسانِ، إذن، عبرَ بلوغِه البيولوجيِّ، يصلُ إلى إكتشافِ الوجودِ المقدَّسِ، إلى إكتشافِ عالمٍ غيرِ عالمِه، وجودٍ قريبٍ كلَّ القُربِ وبعيدٍ كلَّ البُعدِ من نفسِه. قريبٌ لأنَّه يتجلّى في كلِّ شيءٍ دونَ أنْ يفقِدَ ذاتَه ووحدانيتَه. بعيدٌ لأنَّ كلَّ كلمةٍ، وكلَّ صورةٍ وكلَّ رمزٍ يتسوَّلُها الإنسانُ لِيَعبُرَ إلى هذا الوجودِ غيرُ قادرةٍ أبداً من الوصولِ إليهِ واحتوائِه.

لكنَّ الإنسانَ غالباً ما يقصِّرُ في البقاءِ دَوماً على إتصالٍ حميميٍّ بهذا الوجود المقدَّس، متيقِّناً بأنَّهُ غريبٌ عنه مُقيمٌ في عالمٍ آخرَ ، وبأنَّه أيضاً قريبٌ يحتويه. إنَّ هذا التقصيرَ هو سببٌ في انحدارِ التجربةِ الدينية وشُذوذِها حيثُ تتحوَّلُ رُموزُها المرئيَّةُ والمسموعةُ والمدرَكَةُ إلى عبادةِ أوثانٍ أو إلى عبادةِ الذاتِ الإنسانية .

وإذ ينقضي الفصلُ الثاني بهذا التقصيرِ الشائِعِ عندَ البالغين، تتبيَّنُ الحاجةُ الماسَّةُ للعودةِ إلى الطفولةِ ومزاياها الباهرةِ المفقودَة.

********************

الفصل الثالث: العودة الى روح الطفولة

يعتقِدُ كوستي بندلي بأنَّ توازنَ الإنسانِ البالغ مُهدَّدٌ بالتحَوُّلِ إلى حالٍ من الجُمودِ والرتابةِ والموتِ إذا تنَكَّرَ لروح الطفولةِ التي تعيدُ للبالغ الوحيّ والانطلاقَ. تمثِّلُ روحُ الطفولةِ إنفتاحاً مُجدَّداً على الحياة، وانتصاراً مجدَّداً على الموت. إنْ تفلَّتَت روحُ الطفولةِ الذاخرةُ بالطاقاتِ من الكبْتِ الذي يمثِّلُه، عند البالغ، التأقلمُ مع الواقع، ذهبَت بالإنسانِ إلى حدِّ إكتمالِ ذاتِه، وإدراكِه لهذا الإكتمال، نافضاً عنه زَيفَ نُضوجِه الوهميِّ واكتفائِه الذاتيِّ. روحُ الطفولةِ هذه تصلُ به إلى الجنَّةِ حيث يكتَشفُ بقُدُراتِه الذاتيَّةِ الوجودَ المقدَّس .

يبلغُ الإنسانُ إذاً هذا الوجودَ المقدَّسَ بذاتِ قُدُراتِه إذْ يستعيدُ صفاتَ الطفولةِ وروحَها، فيستقبلُ هذا الوجودَ المقدسَ الذي يتجلّى ويستوعِبُ كلَّ أبعاده. في هذه الحالِ المتساميةِ، تحصلُ ولادةٌ جديدةٌ يستقبلُ خِلالَها الكائنُ البشريُّ نعمةً إلهيَّة متجدِّدة، فيدرِكَ الله. إنَّ هذا التحوُّلَ عملٌ فصحيُّ يُعبِّرُ عن موتِ القديمِ ، وقيامةِ الإنسانِ المخلَّص .

يؤمنُ كوستي بندلي، كما الدياناتُ السماويَّةُ، بأنَّ النفسَ الإنسانية البالغةَ المتجدِّدَة بروحِ الطفولةِ تستقبلُ بكلِّ وعيٍ وتصميمٍ الذاتَ الإلهية التي تتجَلى بكلِّ بهائِها في المسيح المتجسِّد. لقد تكشَّفَ اللهُ كاملاً في المسيح وصارَ قريباً جداً منا، دونَ أن يخسرَ بُعدَه الإلهي. بتجسُّدِه، قدّسَ الوجودَ الماديَّ الذي لبِسَه، وأعطانا إيّاه نتصرَّفُ به بكلِّ حكمةٍ وقدرةٍ ممكنتَين، نكتشفُ فيه بهاءَ الله وعظمتَه وطاقاتِه. يتقدَّسُ كلُّ هذا الكون بالله المتجسِّدِ بالمسيح والمتجسِّدِ فينا عندَما تعودُ نفوسُنا وتتَشَبَّعُ بروح الطفولة. يصيرُ كلُّ هذا الكون أيقونةً تشيرُ إلى الله دون أن تتحوَّل إلَهاً، تتكلَّمُ عن الله دونَ أن تحتَويه، تمجِّدُ لعظمتِه غير المتناهية دونَ أن تتماهى وإياه.

وقد يكونُ الإنسانُ نفسُه الأيقونةَ الأسمى في هذا العالم. فهو كونٌ مصغَّرٌ، جسرٌ إلى السماءِ، نقطةُ لقاءِ كلِّ خليقةِ الله. هذه الأيقونةُ البشريَّة تتألَّهُ، حسبَ اللاهوت الأرثوذكسي، دونَ أن تصيرَ إلهاً. بلقاءِ اللهِ الذي يحلُّ فيه، يصبحُ الإنسانُ كَوناً متكاملاً، فيه كلُّ منظورٍ وغيرِ منظور. نبصِرُ عبرَه اللهَ ونكتشفُ عملَه الخالقَ ومرامِيَه.

بالإنسانِ تكتمِلُ غايةُ الله، الذي أذِنَ له بأنْ يتألَّهَ ويُؤلِّهَ فيه الروحَ والجسد، فيتقدسَ العالمُ والكونُ. وهذا الإنسانُ المتكاملُ باللهِ أكرمُ من الشيروبيم وأرفعُ مجداً من السيرافيم لأنه سَما على الملائكةِ في اقتبالِه للهِ في أحشائِه وتقديسِه الكونَ بشموليَّتِه.

النعمةُ الإلهيَّةُ العائدةُ إلينا بروحِ الطفولة تكمِلُ كلَّ نقصٍ، وتصلحُ كلَّ خطأٍ، وتوهِجُ كلَّ نورٍ، وتلهِجُ كلَّ حاسةٍ، وتكْشِفُ كلَّ موهبةٍ، فيستسلمُ الكونُ لنا صائِعأ مُطيعاً.

****************

عندَ هذا المستوى ، تكتمِلُ العلاقةُ الحميمة بين اللهِ والإنسان.

وهكذا يكتملُ فكرُ كوستي بندلي الذي انطلقَ من مُعطياتِ التحليل النفسي العلميِّ ليبلغَ مدىً يستوعبُ ذلك السرَّ العظيم المتمثِّلَ بالإنسان، الكائنِ الوحيدِ القادر أنْ يصلَ إلى الله، بلْ أن يستقبلَ اللهَ في ذاتِه. لقد شرحَ لنا الطفولة ، بدايةَ بدائيةً متمَحوِرةً حولَ حاجةٍ ماديَّةٍ تتلقى الغذاءَ الترابيَّ، ونهايةَ مَصقولَةً ساميةً تكتملً بتلقّي الغذاءِ الروحيِّ وهو النعمةُ الإلهية. يبكي الطفلُ ليحصلَ على غذائِه من أحَبِّ الناس إليه، أما البالغُ المتألِّهُ فينادي: أفتحُ فمي فيمتلأَ روحاً، فتأتيهِ النعمةُ وتكونُ الكلمةُ فيه.

فصولٌ ثلاثة لا تكتملُ إلاّ في الإنسانِ المتألِّه. علَّني نقلتُ إليكم هذه الفصول كاشِفاً أصالةَ فكرِ كوستي بندلي في الإنسان والله. إنْ نجَحْتُ، أكونُ فخوراً بإدراكيَ إياه، وإن قصّرْتُ أعترفُ له بسموِّ فكرِه، معتذِراً لتقصيريَ في بُلوغِه، وطارحاً عليه وعليكم السلام.