من الصعب جدًّا أن يُقوّم العمل الجبّار الذي حقّقه كوستي بندلي في وريقات ... بل تلك المكتبة المتكاملة التي سعى إلى تأليفها منذ سنين عدّة، ساهرًا منقّبًا مستطلعًا منصتًا إلى مشاكل الشباب لكي يقدّم لهم الحلول والإرشاد والتوجيه إلى من قال: "أنا هو النور والحقّ والحياة". ولذلك هذا المقال أردته شهادة صادقة لمن كان بالنسبة إليّ المعلّم والقدوة، الذي استفدت جدًّا من تعليمه والذي حثّني على الكتابة بالتشجيع والشرح في شتّى المجالات: الأدب الفرنسيّ وعلم النفس والفلسفة وكيفيّة التعامل مع المراهقين، عندما كنّا نعمل في فرق "طلائع النور"، والتعليق على الإنجيل وشرح العهد القديم، إلى ما هنالك من مواضيع كنت متشوّقة لمعرفتها بخاصّة موضوع التربية الذي برع به.
عندما سمعت كوستي بندلي لأوّل مرّة، كان يفسّر الإنجيل لسيّدات في العقد السادس من عمرهنّ في طرابلس، وكان ذلك في أواسط الخمسينات. ذُهلت بهذا الشّرح من حيث الدقّة والمنطق والعمق الروحيّ والعلم، وكلّ هذا موجّه إلى سيّدات من مستوى ثقافيّ متواضع، ومع هذا كان يتحدّث إليهنّ بكلّ صبر ومحبّة. اكتشفت مجالات جديدة وممتعة للعقل والروح. يومها كنت أظنّ أنّ العلم والثقافة واللاهوت محتكر بالغرب، إذ إنّ كنيستنا كانت تفتقر إلى أناس من هذا المعيار، لا سيّما أنّه لم يكن كاهنًا ولا من سلك الكهنوت. قلت في نفسي إنّ العلمانيّ له دور في الكنيسة ولم لا المرأة؟
الجديد عند كوستي بندلي أنّه كان يحلّل المشاكل، مشاكل العصر على ضوء الإنجيل إذ كان يجمع بين العلم والمعرفة مع إيمان راسخ ينتقل مباشرة إلى قلوب السّامعين. زد على ذلك الصدق الذي يتحلّى به، إذ أيّ كلام جميل منمّق ما لم يُسبك بصدق يبقى سطحيًّا ولا يتغلغل إلى الأعماق.
اللافت في فكر كوستي بندلي هو نظرته إلى المرأة وتقويمه لها. يحثّها على تحقيق ذاتها، يريد على غرار معلّمه أن يعيد إلى المرأة كرامتها وملء دورها الاجتماعيّ والإنسانيّ. يؤكّد المساواة بينها وبين الرجل رغم الحواجز التي أقامها المجتمع من أجل تحقيرها، وفرض السلطة الذكوريّة على النساء والحكم عليهنّ بالدونيّة. تسلّح بعلم النفس والثقافة الواسعة التي نلحظها في المراجع العديدة التي يلجأ إليها في كتبه، ليثبت نظريّاته. مع هذا كان يتفهّم العبء الذي تعانيه المرأة من جرّاء تعدّد أدوارها في المجتمع، وبخاصّة عندما باشرت بالعمل خارج المنزل. وكأنّي به يتفهّم خفايا النفس الأنثويّة، يستطيع أن يدخل فكرَها، ويقرأ ما يختلج فيه من شعور وأحاسيس. إنّه يريد أن تعمل المرأة، لتستقلّ نوعًا ما عن زوجها من حيث التبعيّة المادّيّة، ولكي تشارك زوجها في تكاليف الحياة التي تفرضها العائلة، ولكنّه يضيف أنّ عمل المرأة داخل المنزل هو أيضًا عمل بالمعنى الصّحيح، لأنّ العمل المنزليّ النسائيّ له قيمة اقتصاديّة لا يستهان بها علاوة على قيمته التّربويّة.
أمّا في كتابه "النضال اللاعنفيّ"، فقد اعتبر أنّ الحرب شرّ، وإن كانت أحيانًا شرًّا لا بدّ منه في ظلّ عالم ما تزال الأهواء متحكّمة فيه. ويستشهد بباسيليوس الكبير الذي أوصى بأن يُحرم المناولة، لمدّة ثلاث سنوات، الجنديّ الذي يقدم على القتل حتّى لو تمّ ذلك في إطار حرب دفاعيّة! وكم نحن بحاجة الى هذا التحليل في أيّامنا هذه!
مواضيع كتب كوستي بندلي ليست دراسات نظريّة، بل هي إجمالًا وليدة التّفاعل بينه وبين الشباب الذي كان يجتمع معهم ويقودهم بواسطة الإرشاد الروحيّ والفكريّ والتربويّ. النقاش الذي كان يحصل، في تلك الاجتماعات، هو الذي دفعه الى الكتابة. ونلحظ أنّه كان يسمع صوت المرأة مباشرة عبر رسائل، من بعض القارئات الشابّات، وهذا دليل على الصدى الإيجابيّ لمؤلّفاته لدى الجيل الجديد.
إذا كان هاجس كوستي بندلي هو كيف يترجم المرء تعاليم المسيح في حياته اليوميّة، فهذا لا يعني أنّه لم يكن منفتحًا على الأديان الأخرى. على العكس، كان يحترمها احترامًا كليًّا، يتقصّى الحقيقة أينما كانت، ينصت للآخر أيًّا كان مذهبه، والى أيّ معتقد انتمى. فالمؤمن الحقيقيّ عنده لا يتّخذ من دينه قوقعة تحجب عنه الإطّلاع على التيّارات الإنسانيّة على اختلافها من دينيّة وفكريّة وسياسيّة وغيرها ... إذ إنّ هذا الانفتاح من شأنه أن يجعل الإنسان أكثر تفهّمًا لدينه وأكثر تقديرًا لقيَمِه ومعتقداته.
قرأت بكلّ اهتمام صفحات النضال اللاعنفيّ في أميركا اللاتينيّة في كتابه "النضال اللاعنفيّ"، وكيف أنّ كنيستها حيّة شاهدة بمطران البرازيل عندما يقول "عندما أخفّف من جوع الفقراء، يدعونني قدّيسًا وعندما أحلّل أسباب الجوع، يتّهمونني بالشيوعيّة". مقولة تحثّنا على التّفكير العميق والتأمّل. وفي موضوع آخر، يقول الكاتب: "نافذتي على الله هو الآخر، فويل لي إن أغلقت هذه النافذة. لأنّني إن فعلت أكون قد أغلقت قلبي دون اللّه، وأقمت سدًّا بيني وبينه"...
أمّا الجديد الذي تطرّق له كوستي بندلي في اللغة العربيّة، فهو موضوع الجنس وهو حديث محرّم في مجتمعنا المشرقيّ. وقد خاض في هذا المجال على عادته بطريقة تعليميّة تربويّة شفّافة مستقاة من مبادئ التّعليم المسيحيّ. يتوجّه إلى الشباب لأنّ لديهم الكثير من الأسئلة في هذا المضمار. وقد بيّن في كتبه أهميّة الحياة الجنسيّة المتّزنة المبنيّة على الحبّ والاحترام المتبادلين. فالتحليل النفسيّ أظهر المكانة الأساسيّة التي يتمتّع بها الجنس في الحياة الإنسانيّة، ودوره المحوريّ فيها الذي يتعدّى وظيفة الإنجاب. ففي كتابه "الجنس في أنواره وظلاله" رؤية إنسانيّة وإيمانيّة، يدلّ عبرها كيف أنّ للجنس طاقة لا يمكن الإستخفاف بها أو القفز فوقها، بل هو مجال حيويّ من مجالات الحياة الإنسانيّة.
ففي عصر تفشّى تيّار "الحرّيّة الجنسيّة" في المجتمع الشبابيّ، عرف كوستي بندلي أن يتوجّه إلى الشباب، وهم وثقوا به وعرضوا عليه مشاكلهم، واستفسروا منه عن وسائل حلّها. ومن بعض أقواله في وصف القاعدة الإنجيلية للسلوك الجنسيّ كمعبر الى الآخر "إنّها مكان تُعاش فيه المحبّة بشكلها الأكثر تجسيدًا، بحيث يصبح فيه التحام الأجساد لغة تعبّر بصدق عن التحام حقيقيّ بين كيانين، عن تواصل صميم بينهما، به يهب كلّ منهما ذاته إلى الآخر ويتقبّله بآن". ومن هذا المنطق يربط المؤلّف الحبّ الإنسانيّ بالحبّ الإلهيّ، ويقول إنّ الحبّ الزوجيّ هو صورة حبّ اللَّه للإنسان، وبحسب أنبياء العهد القديم الخطيئة تبدو زنى وانعدام محبّة، وفي العهد الجديد ألم يظهر المسيح في الأمثال بصورة العريس والختن؟
الكلام يكثر عن مؤلّفات كوستي بندلي، التي لم تفتر رغم الشدّة والمرض الذي انتابه وأرهقه، وعن ذلك الكاتب المثابر الذي لا يعرف الكلل ولا الملل. مترفّع عن المادّة، لم يبغِ لا مالًا ولا جاهًا، كان يرفض كل محاولة لإبرازه وتكريمه. لِمَ لا نتكلّم عن كوستي الإنسان؟ إنّه ذلك الإنسان الرّصين المسؤول التقيّ المؤمن، مسامح لا يعرف للحقد معنًى، لا يحكم على الآخر، يجد دائمًا وسيلة لتبريره إن أخطأ ولإصلاحه إن استمرّ في الخطأ. وعلاوة على كلّ هذا، يتّصف بتواضع نادر. كم من إنسان لا يملك ثلث ثقافة كوستي يتبجّح ويفاخر ويتعالى ويبسط معلوماته على الملأ! أمّا هو، فيتكلّم بشيء من الخفر لا يستخدم علمه إلّا للتعليم والإرشاد بطريقة تربويّة رائعة، معتمدًا التحليل والمنطق والأدلّة لا يهدأ إلّا إذا استوعب سامعوه أقواله.
قد ينجرح تواضعه إن تطرّقنا إلى المديح إنّما الحقيقة يجب أن تقال. فنحن نفتخر بأنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تحضن كاتبًا بهذا الغنى الروحيّ والعلميّ والثقافيّ والإيمانيّ، الحائز شهادة دكتورا بتفوّق، والذي لم يبخل لا من وقته ولا من راحته من أجل العمل والبشارة ضمن فرقها وأعضائها. أجل إنّه ذلك الإنسان المرهف الإحساس المحبّ الذي يشعر مع قريبه ولا يتأخّر عن مساعدته بقدر استطاعته. وقد استمرّ عطاؤه بفضل الجوّ العائليّ الذي وفّرته له رفيقة عمره "كاتي" التي يعترف لها في مقدّمة أحد كتبه، من أجل العمل بهدوء وأمان، وقد أجادت تربية أولادها الذين أفعموا قلبه محبّة وإخلاصًا.
وأختم قائلة إنّ كوستي بندلي تحمّل المسؤولية منذ نعومة أظفاره، إذ توفّي والده باكرًا تاركًا يتامى وأرملة مفجوعة، كان هو السند لها في تربية إخوته الذين ناضلوا من أجل نيل شهادات عليا. وكم من مرّة سمعت، في طرابلس، إطراء على تلك العائلة "المباركة"، وبخاصّة عندما رسم الأخ قيصر مطرانّا على أبرشيّة عكار. ولا يسعني عندما أتكلّم على كوستي إلّا أن أذكر الأخ الحبيب مرسال الذي توفّي فجأة والذي جرح العائلة في الصميم ذلك الطبيب الشابّ المؤمن المحبّ لبلده و"مينته" كما كان يسمّيها. وكم استفقدنا كلّنا لوجهه البشوش وروحه المرحة. إلّا أنّ كوستي تجاوز المحنة وتابع المسيرة والكفاح والعمل الدؤوب مؤمنًا بقوّة بقول السيّد "من آمن بي وإن مات فسيحيا"، وبقي مرسال حيًّا قي قلبه وفي قلوب أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة عائلته الكبيرة.
إيمّا خوري