" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
التربية في فكر كوستي بندلي

التربية في فكر كوستي بندلي


"التربويّ" أو "المُربّي" صفة ملازمة لكوستي بندلي مُلازمة النعت لمنعوته، فكأنّ بينهما تماهيًا. فالرجل مُربٍّ بالفطرة، والتربية عنده حِسّ وذوق قبل أن تكون علمًا وتِقانة أكاديميّة. ذلك بأنّها موهبة خصّه اللَّه بها أو، قُلْ، هي عنده فيض ناسوت مفطور على الحبّ، مرهف، وحسّاس للإنسان، كلّ إنسان، في أحواله جميعًا. ولما جعل التربية رسالته المهنيّة، صقلها بالعلم وأرساها على قواعد المنهجيّة الأكاديميّة، لكنّه لم يكفّ عن تطعيمها بذوقه الخاصّ وإحساسه، فلم تغب عنها نكهته الشخصيّة وفرادته. وإنّك لتجد الحسّ التربويّ مبثوثًا في تآليفه جميعًا، وليس فقط في ما اتّصل منها بالشّأن التربويّ بمدلوله التقنيّ الخاصّ. فالرجل مُربٍّ وتربويّ في كلّ ما كتب.

يَعسُر علينا، في هذه العجالة، أن نُحيط بالفكر التربويّ الذي يختزنه بندلي، وهو ما هو في عمقه وسعته، ذلك بأنّ الإحاطة بهذا الفكر تقتضي منّا بحثًا علميًّا مطوّلًا، لا تتّسع له المساحة المخصّصة لهذا المقال. لذا نكتفي ببعض الإضاءات.

صحيح أنّ فكر كاتبنا التربويّ هو، كما أسلفنا، مبثوث في تآليفه جميعًا، بيد أنّه يبقى مبسوطًا، بصورة خاصّة، على صفحات من نور ضمّنها كتب له غنيّة جدًّا، تُعنى بالشأن التربويّ على نحو مباشر.

ظهرت هذه الكتب في منشورات النور الصادرة عن حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وهي موزّعة على سلسلتين: "نحن وأولادنا" و "مع تساؤلات الشباب". تضمّ السلسلة الأولى مجموعة عناوين شيّقة جدًّا، يخاطب فيها الكاتب الأبناء والآباء معًا وكأنّه، بهذا، يحذو حذو يوحنّا الرسول الذي يخاطب، في رسالته الأولى، الأبناء قائلًا لهم :" أكتب إليكم، يا أبنائي الصغار، لأنّ خطاياكم غُفرت بفضل اسمه ... ولأنّكم تعرفون الآب" (12:2-14)، وكذلك الآباء قائلًا لهم: "أكتب إليكم، أيّها الآباء، لأنّكم تعرفون ذاك الذي كان منذ البدء..." (13:2). وإذا كان بندلي، في سياق عنايته بالأبناء، لا يُهمل الآباء، فلأنّه يدرك تمامًا أنّ الولد ينمو نموًّا صحيحًا وصحيًّا بقدر ما تكون علاقته بأبَويه صحيحة وصحّيّة. فللولد، على حدّ تعبير المطران جورج (خضر)، "شخصيّة يجب أن تُراعى، وله الحقّ بنموّ غير قهّار" ("رعيّتي" العدد 29، الأحد 16 تمّوز 2006)- ولأنّه (أي بندلي) يعرف أيضًا، وبالمقابل، أنّ علاقة الولد باللَّه لا تستقيم إلّا إذا استقامت علاقته بوالديه. ذلك بأنّ الإبن يحبّ أبويه أولًا. وإذا أحبّهما، فإنّه يحبّ اللَّه من أجلهما أو بسببهما. وإذا أحسّ نفسه محبوبًا من أبويه، فإنّه يُحسّ أنّ اللَّه يحبّه. ولعلّ هذا ما يعبّر عنه، أيضًا، المطران جورج (خضر) حيث يقول :"يجب على الأولاد أن يحبّوا أهلهم وليس فقط أنّ يكرّموهم إكرام خوف. فالسيّد يأبى الخوف الذي يُضرّ بكلّ إنسان صغيرًا كان أو كبيرًا. لا يُريد قصاصًا جسديًّا مُبرِّحًا لأنّ الولد بهذا يكره أهله. وإذا فعل، فغالبًا ما يكره اللَّه الذي يصوّرونه له أبًا. أمّا أنت، إذا كنت أبًا عطوفًا أو أمًّا حنونًا، فغالبًا ما يحسّ ولدك بأنّ اللَّه عطوف حنون. وداعة الأهل هي التي تكشف وداعة اللَّه" ("رعيّتي" العدد 29، الأحد 16 تمّوز 2006).

أمّا السلسلة الثانية "مع تساؤلات الشباب"، وتضمّ هي الأخرى مجموعة عناوين شيّقة، فيبدو فيها بندلي مؤمنًا بقدرات الشباب وطاقاتهم ومواهبهم، بل وموقظًا هذه الطاقات والمواهب. لذلك هو يكتب إليهم ككاملي السنّ، ويُنبّه إلى خطر التعامل معهم كقاصرين، لأن هذا النمط من التعامل يُحدّ من تطلّعاتهم، وهي مُثرية جدًّا، ويُطفئ فيهم جذوة العطاء والإبداع التي يختزلونها. في هذا الخطّ، يبدو كاتبنا، مرّة أخرى، حاذيًا حَذوَ يوحنّا الرسول في رسالته الأولى حيث يخاطب الشباب قائلًا لهم :" أكتب إليكم أيّها الشبّان لأنّكم قهرتم الشرّير" (13:2). وقد بلغت محبّة بندلي للشباب وتقديره لتطلّعاتهم وطاقاتهم الإبداعيّة حدّ الشهادة لهم بأنّهم كانوا ملهميه في الكثير ممّا كتبه، بل وشركاءَه أحيانًا. فهو، مثلًا، لا يجد حرجًا في الإعتراف لهم بهذا الفضل في كتابه "فتات من نور". فقد كتب في مقدّمة الكتاب ما حرفيّته: "... هذه اللحظات المميّزة التي عشناها في كنف الربّ وحنانه، سجّلتها بحبّ ... وها إنّني أقدمها أوّلًا لأعضاء فرقة "نور الراعي الصالح" على صفحات هذا الكتاب الذي وضعناه بالفعل معًا، وإن أخذتُ على نفسي مسؤوليّة صياغته. أرجو أن تذكّرهم فصولُه ... بالمعيّة المباركة التي أعطِنا أن نحياها. كما أتمنّى أن تكون لهم بمثابة مرجع ساهموا في وضعه ..." (فتات من نور، كوستي بندلي، منشورات النور 2001، ص 12).

يكتشف من يتتبّع فكر كوستي بندلي التربويّ، وصولًا إلى جذوره، أنّ هذا الأخير قد وَطّن نفسه ومسيرته التربويّة كلّها على همّ واحد وحيد، وهو أن يقود من عُهِدَ إليه إرشادهم وتلمذتهم إلى من قادته إليه " الكنيسة التي في بيته"، أي إلى يسوع الناصريّ المصلوب والقائم من بين الأموات خلاصًا للعالمين وحياة. ولا غَروَ، فقد نشأ كاتبنا في بيت "مثبّت على صخرة الإيمان"، وفي هذا البيت ذاق حلاوة يسوع وعاش، بالخبرة اليوميّة، كيف يكون المسيح حياة للذين يؤمنون به. عاش بالخبرة اليوميّة محبّة يسوع وكيف تُترجم هذه المحبّة مواظبة على الصلاة وقراءة الكلمة، وتوبة مستمرّة وعطاء مجّانيًا لا يعرف الحدود. في هذا البيت، كان بندلي يأخذ أُطعوم المسيح جرعات يوميّة حتّى، إذا ما تكرّس يومًا لخدمته مع نفر من أترابه في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، عكف على نقل هذا الأطعوم الى شبيبة تعهّدها بالإرشاد والتّلمذة، وسار معها دروب الحبّ العيسويّ المحفوفة بالفرح والرجاء قدر ما هي محفوفة بالتعب، وربّما أكثر. كوستي بندلي تلميذ ليسوع المسيح أمين، صرف عمره يتتلمذ عليه ويُتلمذ له كثيرين. ولعلّ هذا ما جعل كاتبًا كالأب بولس (طرزي) يُصدر كتابه "الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكية" بإهداء خاصّ "إلى كوستي بندلي تلميذ يسوع المسيح ومعلّم الكثيرين" (سلسلة "دراسات كتابيّة"، الرسالة الأولى إلى تسالونيكية، منشورات النور 1983).

في هذه اللوحة البندليّة المشرقة، يمكننا أن نميّز علامتين فارقتين:

الأولى: أنّ كاتبنا يتحاشى، في معالجته المسائل التربويّة وما إليها، الإملاء وما فيه من فوقيّة. إنّه يتجنّب التربية الإملائية ويحرص على أن تأتي مقارباته التربويّة إجابات عن تساؤلات، واستجابة لخواطر إنسانيّة ملحّة عند أصحابها. ذلك بأنّه يحترم الآخر، ويعتبر أنّ هذا الآخر لا ينتظر منه، مربيًّا، إملاءات تربويّة بقدر ما ينتظر منه آراء تربويّة وأفكارًا يُشركه ببلورتها، وذلك عبر حوار إنسانيّ يحترم فيه رشد هذا الآخر بحيث يبدو وإيّاه ندًّا يواجه ندّه.

الثانية: أنّ كوستي بندلي مُربٍّ بالقدوة مثلما هو مُربٍّ بالفكر والقول. إنّه يُثريك بسلوكه قَدْرَ ما يُثريك بفكره، وربّما أكثر. فإذا علّم في الصلاة مثلًا، تراه في كلّ أحد في طليعة الساعين الى بيت الربّ، المبتكرة أرواحهم إليه، ليكون إلى الجماعة حيث الجماعة هي، لا يُقعِدُه عن شركتها والصلاة معها سبب. وإذا علّم في الصوم، كان من الملتزمين به، المنضبطين فيه بما تعلّمه الكنيسة، فلا استنساب ولا تهاون مع النفس، فهو يعرف أن للنفس في شهواتها ما لها، ويعرف تاليًا أنّ الصوم إنّما جهاد النفس ضدّ شهواتها الضارّة، لتكون مع اللَّه في ما يشتهيه هو منها ولها ... إلى ما هنالك من أمثلة يصعب حصرها في هذا المجال، وخلاصتها أنّ كاتبنا يجتهد، باستمرار، كيما تتقلّص عنده المسافة بين ما يقول وما يفعل. فالكلمة عنده فعل يفرضه على نفسه ولا يفرضه على الآخرين، وهؤلاء يتعلّمون ليس ممّا يقرأونه له أو يسمعونه منه وحَسب، بل وأيضًا ممّا يلمسونه في شخصه من انسجام رائع بين القول والفعل. لذلك، كثيرًا ما بدا لمعارفه على رهبانيّة غير ديريّة إذا جاز الوصف.

ختامًا نقول، لا تكفيك قراءة كوستي بندلي، لتعرفه. فالرجل لا تختزله كتاباته. عليك أن تُعاشره، أن تُحاوره، أو أن تُصغي إلى صمته ربّما، لتعرف ما يختزنه هذا المعلّم من الغنى الفكريّ. كوستي بندلي، المتّشح بتواضعه، عنده الكثير ممّا كَتَب والكثير ممّا لم يكتب. ولربّما كان ما لم يكتب أبلغ ممّا كَتَبَه وأغنى