" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
الأستاذ شفيق حيدر- تواضع العارف وتواري الرسول

ماذا تقول حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في كوستي بندلي اليوم؟

وقبل أن أستمع إليها أتوجّه إلى راحلنا العزيز وأقول له: «عذرًا لأنّني ها أنا فاعل، في كلامي فيك، ما لم ترده في حياتك كلّها، ولم تسمح به سحابة عمرك. فعذرًا وألف عذر».

أنا لا أمدحك ولكن أقف لأتعلّم منك. جئناك اليوم، كعادتنا، لنستمع إلى حديثك الباني، كما كنّا نقصدك حاملين إليك الهواجس والمسائل لنغرف من معين علمك الغزير وفيض إخلاصك الكبير.

لمّا تتحدّث الحركة عن العزيز الراقد تتحدّث عن ذاتها وتبوح ببعض من جوهرها، بقدر ما تسعف اللغة، الحركة حالة وحياة نعرفها بالذوق، بالقلب والوجدان والخبرة.

فعسى، أيّها الراحل المقيم والغائب الحاضر، أن أنجح في محاولتي الكلام فيك باسم الحركة التي رعيتها ورعتك منذ مطلع شبابك حتّى لحظة رقادك. وأجتهد كي أتحرّر من عواطف شخصيّة وربط متينة حارّة متشبّثًا بالموضوعيّة قدر المستطاع.

كوستي بندلي ثمرة يانعة من ثمرات النهضة الدينيّة التي ابتغتها الحركة، منذ أربعينيّات القرن الماضي، يوم سمح الله بتأسيسها. والدعوة إلى تلك النهضة هي، لعمري، الترياق الشافي من شرّ التعصّب والتشرذم، إذ الإيمان الأصيل الصادق بربّ العباد يوحّد البشر، ويزرع في ربوعهم الحبّ والسلام، العدل والأمان، العقلانيّة والبهاء. وقف كوستي بندلي حياته يكتب ويعلّم أن التعصّب صنم ومن واجبات المؤمنين تحطيمه. التديّن، يا سادة، مغبوط والتعصّب الطائفيّ ممقوت، لأنّه يشوّه الإيمان بالزيف والزيّغان.

نشأنا على هذا الفكر المستنير واليوم، فيما رياح التطرّف تعصف وتلفح المجتمعات بلظى الحقد والإلغاء والموت، لا بدّ من الدعوة، وبإلحاح، إلى صحوة دينيّة مستقيمة تعمّ الأديان والمذاهب، وبدونها الأديان عشائر غيتويّة، والمذاهب قبائل متناحرة، والأمم والأوطان ممزّقة مشتّتة.

نقرأ في حياتك فضائل جمّة ولكن حسبنا ملاحظة اثنتين منها: تواضعك ورسوليّتك، عسانا نتخلّق بهما لتستقيم حياتنا أفرادًا وجماعات.

اقترن تواضع كوستي بندلي باللطف الذي أتاه من الله. تواضعه نتيجة علم أصيل ومعرفة مستنيرة، هو تواضع المؤمن العارف. لم يدن أحدًا ولم يحتقر جاهلاً. طفا هذا التواضع على معدن من الاحترام. ما عرفناه ساخرًا من جاهل، بل مقدّر عنده الرغبة في المعرفة. ولم نعهده إلاّ مسلّطًا الضوء على بعض من ظلال الحقيقة عند أيّ إنسان. فلنتعلّم من راحلنا أنّ الديّان واحد أحد، فلا ننصّبنّ أنفسنا ديّانين وقضاة. جعله تواضعه يفرح ويغتبط بحقّ يظهر على يد أيّ كان. وجعله أيضًا يوزّع المعرفة الرفيعة، بسهولة فائقة، على طلاّبه والشباب والعائلات. إنّ أدقّ النظريّات عرضها معلّمنا وأفاد منها العامّة من الناس. لم يحصر معارفة العلميّة الحديثة الصعبة بالنخبة الخاصّة وإنّما هي عنده من حقّ العامّة أيضًا. هكذا ظهر في كتاباته وكتبه، وفي أحاديثه ومحاضراته، في ندواته ومداخلاته. سرّ البلاغة عنده بساطته التي أملت عليه أسلوبًا سهلاً لا تصنّع فيه ولا تقعّر، بل وضوح مضيء.

ومرّة كنت أتحدّث إلى الدكتور كوستي، عبّر عن اغتباطه بساعات اقتطعت من دوامه الأسبوعيّ في ثانويّة المربّي الدكتور حسن الحجّة ليساعد التلامذة، مراهقين ويافعين، على اختيار كتب يستعيرونها من مكتبة المدرسة. تعجّبت: دكتور طاعن في السن يعنى بفتية صغار! وسرعان ما تبدّد تعجّبي لمّا وعيت أنّ محدّثي هو كوستي بندلي.

ولا يظنّنّ أحد أنّ التواضع اللاّفت عنده قلّل من صلابته. أتذكّره يوم أغلقت في وجهنا أبواب الكنيسة في قرية من قرانا قصدناها لنصلّي فيها في مستهلّ الستّينيّات، تحوّل الشاب اللطيف والهادئ المتواضع إلى ناشط عنيد حمس، هبّ يدعو شباب القرية من بيوتهم لإقامة الصلاة ورفع الابتهالات في منزل أحد المؤمنين.

أمّا رسوليّة كوستي فتتلخّص في محبّته لربّه والبشر. محبّة الله لا تكون إلاّ بمحبّة الإنسان، كلّ إنسان، وإلاّ هي كذب وهراء.

سلوكه في حياته العاديّة، المهنيّة والعلميّة، ونشاطه في المدى المشرقيّ أكّد أنّ أهمّ رسوليّة وأنصعها وأجداها هي التي تتجسّد في الحياة والمسلك، وبخاصّة في العزوف عن المطامع والمغانم والمصالح والزهد في المال ومقتنيات الدهر.

لم يكتف بالمثال وسيلة للرسوليّة وإنّما أفصح عنها أيضًا في الكتب والمقالات والدراسات التي تميّزت كلّها بالتوفيق بين الإيمان الصحيح ونتاج العقل الوقّاد من علوم طبيعيّة وفلسفات إنسانيّة. هو المؤمن الذي ألهمه الروح الإلهيّ أن يحاور، بنجاح، العلوم الحديثة. فصحّ فيه الوصف أنّه الكاهن المكرّس لرفع العقل الحرّ إلى مذبح الله الأزليّ. لم يشأ من اجتمعنا إليه اليوم أن يبقى الإيمان أسير قوالب جامدة تغرّبه عن الراهن، بينما يريده فاعلاً وملهمًا في فلك علوم العصر ودروب سياسته واجتماعه.

هو رسول لمّا نزّه الإيمان عمّا علق به من تشويه أتاه من خطايا المؤمنين عبر التاريخ، وهي كثيرة!

لن أنسى الاجتماع التأسيسيّ للتجمّع الوطنيّ للعمل الاجتماعيّ الذي دعتنا إليه الرابطة الثقافيّة في طرابلس في العام 1975، في مستهلّ الحرب اللبنانيّة القذرة. يومها كان لي شرف مرافقته كمندوبين عن الحركة. أذكره، وسط ممثّلي النقابات والهيئات الثقافيّة والاجتماعيّة، واقفًا يقرأ كلمة يفنّد فيها شطط حمّى الطائفيّة البغيضة، ويظهر ابتعاد هذه الآفة عن التديّن، وتاليًا يوصي بضرورة التصدّي لها تمسّكًا بالإيمان ودرءًا لمخاطر التشتّت والتفتّت.

وتطول السبحة وتطول. أمّا الغاية من الرسوليّة عند فقيدنا فهي في رسم السبيل الموصل إلى الله، حتّى إذا ما سلكناه نبلغ إلى حضنه تعالى وتغمرنا محبّته. كوستي بندلي أرشد وتوارى. كان وما زال الشاهد الحقّ الذي لا يطلب لنفسه لا شيئًا ولا شخصًا. مبتغاه أن يدرك الناس الحقّ فيحرّرهم من تأليه أيّ شخص.

أحبّائي إذا أردت أن أوجز كوستي بندلي بقليل من الكلام أقول إنّه يمثّل تواضع العارف العالم وتواري الرسول الكلّيّ. واليوم، في الكنيسة والعالم، ما أحوجنا إلى شهود متوارين وعلماء متواضعين. يتوارون ليظهر الحقّ وحده، ويتواضعون ليخدموا.

إنعم أيّها الراقد الحبيب إذ بلغت عرش الحبّ، واحملنا معك بالتضرّعات حتّى نبقى أمناء على الرسالة، وتتوارى أشخاصنا تواريًا كلّيًّا حتى لا يتعلّق الناس إلاّ بالله وحده، ولا يرتبطون «ببولس أو أبولس».

علّمتنا الكثير في حياتك، وبنيتنا على صخرة الحقيقة وتركت لنا ميراثًا غنيًّا يشهد ألاّ عتاقة في الإيمان. الحداثة والتحديث من ضرورات الشهادة وهما من نتاج الخضوع لإلهامات الروح ألذي ألهم ويلهم وسيلهم لأنّ الله حيّ. كتابات كوستي بندلي تعبير عن التقليد الذي لا نعرفه إلاّ حيًّا، وكلّ تحنيط للتقليد يغرّبنا عن الواقع ويرصفنا في عداد الموتى ويصمّ آذان قلوبنا. التمسّك بالأصيل شيء ضروريّ ونافع، أمّا التقليد الأعمى للسلف فشرّ مستطير.

أخيرًا أشكر العليّ القدير على القامات الروحيّة والفكريّة التي منّ بها علينا فعاصرناها وعلّمتنا ومنهم كوستي بندلي. فليكن ذكره مؤبّدًا.