تغيب عنا يا معلّم، جسمًا وجسدًا، وتحضر فينا روحًا وفكرًا. ما حسبنا موتك إلاّ سفرًا في الأبديّة، أنت الذي كنت تشخص إلى المطلق صباحًا ومساءً، بين صلاة وتأمّل وتفكّر.
عرفنا فيك المسيحيّ الحقّ الصالح المحبّ، فرشفنا من معين محبّتك التي لا تنضب ومن جوهر طبيعتك الملأى تواضعًا وزهدًا ومودّة: «ولتجدنّ أقرب الناس مودّةً للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون». صفات قلّ نظيرها بين البشر، تعمّقت في أغوار نفسك وتصعّدت في أوتار وجودك فتوحّد فيك اللاهوت والناسوت، فلم تعرف ازدواجيّة الشخصيّة فكان مسلكك واحدًا طيّبًا في كلّ أحوالك.
من أين أتاك كلّ هذا الإخلاص فأخلصت وجهك لله ربّ العالمين، فإذا هو في قلبك المؤمن نبع نمير، ركّز فيه فصيّرك تقيًّا نقيًّا، ويا معلّم لا يبارح طيفك ذاكرتي فأستشعر أنسًا يملأ عليّ كياني.
نحن طلاّبك جيل الخمسينيّات من القرن العشرين الملتهب وطنيًّا وقوميًّا عربيًّا، تذوّقنا جمالات لغة كورناي وموليير وراسين لأنّ معلّمنا كان اسمه كوستي بندلي.
على أنّنا مدينون لك بأكثر من ذلك، لأنّك علّمتنا ما وراء الحرف قيمًا كنت تجسّدها إنسانًا يطأ الأرض، فلا تحسّ بوقع خطواته لفرط حساسيّته.
وها طرابلس التراث والقيم والسماحة الوطنيّة والاعتدال تقيم لك احتفالاً تأبينيًّا يليق بك، وهي التي كما عرفت تأبى أن تموت فيها وطنيّتها اللبنانيّة وعروبتها المنفتحة وإسلامها السمح ومسيحيّتها المحبّة.
تجتمع في مدينتك التي تقدّرك أقانيم الرحمة والمحبّة والعدل والحرّيّة، وهي في عرفك، كما علّمتنا، قيم غير متناقضة بل هي مثال القيم المتكاملة.
لمّا بلغني نعيك يا معلّم، عادت بي الذكرى أدراجًا إلى الوراء. فانفطر قلبي وأيقنت أنّ مثلك لا يعوّض ولفتني موتك إلى أسرار الوجود والحياة وما وراءها، فانكفأت يوم جنازتك على ذات نفسي خاشعًا متأمّلاً وردّدت في سرّي: «كلّ من عليها فانٍ ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرام»، وطفقت أحدّث ذاتي قائلاً لها: لو أعطي للناس أن يلتقطوا النور الذي يغمر هذا الكون كما أعطي لكوستي بندلي أن يلتقط، لأصبحت الجنان في الأرض، الله نور السموات والأرض، هذا النور الذي غمرك جعل لديك معاني التقوى أسلوب حياة ونعومة روح، وتجلّى ذلك كلّه في وجهك عذوبة واضحة، فسبحان العليّ العظيم الذي ميّز شخصًا عن شخص وإنسانًا عن إنسان، وسبحان الذي جعل أفعالك صلاة دائمة وخشوعًا متّصلاً وقداسة لا تنضب وعيسويّة مجسّدة.
فسلام لك وسلام عليك وعلى والدتك وشقيقك وشقيقتك وجميع أسرتك، فقد كنتم مرسومين بريشة القدر أتقياء محبّين للفضيلة مؤمنين بصدق وعفويّة نادرين.
وختامًا تحتفظ زوجتي بنصّ كتاب غالٍ وجّهته إليها يا صاحب الذكرى، في السابع من نوار من عام ألفين لمناسبة صدور كتابها المعنون «أحمل في أوراقي الدعاء»، فيه ما يعبّر عن نفسك أجمل تعبير إذ قلت ما نصّه: «أطلّت عبر سطورها، نفس مرهفة المشاعر متوثّبة الوجدان بلوريّة الصفاء مجنّحة بثقة المؤمنة ورجائها الذي لا يخيب إلى ينابيع الأصالة والسلام والتجدّد والانفتاح، تلتمس مصالحة مع الذات في خلوة أعماق الصمت، وتسعى إلى تخطّي الحواجز التي تباعد بين البشر في قسوة عالمنا الممزّق البائس».
ولعلك في هذا النصّ الرائع، الذي نحتفظ به في بيتنا بقيّة أيقونة منك، كنت تعبّر بأشدّ الكلمات إخلاصًا عن مكنون صفاتك. إرقد في سلام، سلام الله عليك.