كاهن ملوكيّ
نقرأ في سفر الخروج: «تكونون لي كهنوتًا ملوكيًّا وشعبًا مقدّسًا» (19: 6). من يعرف كيف عاش هذا الرجل عضويّته في الكنيسة، يفهم هذا القول الكتابيّ. لا تفهم هذه الآية إلاّ بإطار الوحدة العضويّة التي تجمع الله بأبنائه وأعضاء الجسد بالرأس، ورأسنا هو المسيح الملك والكاهن. «فمن الضروريّ- يقول أحد المفسّرين القدماء- أن تكون لهم هم المولودون من الملك، الملوكيّة، وهو المولودون من الكاهن الكهنوت». كوستي بندلي كاهن وملك. لمن لا يفقه شيئًا عن الكهنوت الملوكيّ أقول: إقرأ سيرة كوستي بندلي في رعيّته فتغدو لا عارفًا لهذا الكهنوت وحسب بل معلّمًا فيه.
الكنيسة المحلّيّة، رعيّة الميناء هذه، كانت معراجه إلى الله وكنيسته الجامعة. أكّد، عبر التزامه هموم شعبه في الميناء، أنّه لن يكون في حضرة الله وعضوًا في جسد المسيح إن لم يكن حاضرًا، بالكلّيّة، في رعيّته. ما ترفّع عن ملاقاة الفقراء والبسطاء، وهم أغلب من لاقاهم أمام مذبح الربّ. ما كانت رعيّته محطّةً لمرمًى آخر. كانت مطرحه والعجينة التي رماه الله فيها ليكون لها خميرة الروح. لقد أثبت لنا أنّ الكبر والسعة لن يكونا لأيّ إنسان إلاّ إذا تأصّل في المحلّة التي يلقيه فيها الربّ. فكان لنا شجرةً باسقةً رحبةً غرست جذورها في تربة الميناء لتمتدّ فروعها إلى حيث يشاء الله لها ومحبّوه.
قد تظنّ أنّك ترهب رعاية هامة كبيرة ككوستي بندلي يسرة ومفرحة رعايته. كان عالمًا محبًّا، ما فتنته معرفة عن محبّته. رعاية أمثاله «نيرها لطيف وحملها خفيف» (متّى 11: 29). رعاية الجهّال المدّعين تثقلك، رعاية الكبار المتواضعين ترفعك، تزيد من هامتك وتدفعك إلى درجات من ترعاه. كم مرّةً كتب أو قال شاكرًا لي ما لفته من بعض معرفتي الضحلة. كان يستقي من ضحالة معرفتي ليرفدها غزارة علمه ودفق لطفه ومحبّته.
أكثر ما لفتني في رعايتي له رعايته لي. لقد جعلني أدرك أنّ رتبتي الكهنوتيّة هي ثمر من ثمار كهنوتي الملوكيّ الذي وهبه الله لكلّ مؤمن يعترف بأنّ «لله الأرض بكمالها، المسكونة وجميع الساكنين فيها»، وله أن يقدّمها لله قربانًا. رعايته لي يوم كنت علمانيًّا أيقظت فيّ هذه الهبة الإلهيّة وقادتني إلى رتبة الكهنوت المقدّسة. حضوره في حياتي نبّهني إلى ألاّ أسكر بنعمة الكهنوت الخاصّ غافلاً عن كهنوتي الملوكيّ. ألاّ أظنّ أنّ ما قرئ على رأسي يوم رسامتي يجعلني فوق البشر. سموّ درجة الكهنوت لا يحطّ من شأن من أرعاهم فأتسلّط عليهم تحت ستار النعمة الكهنوتيّة. أدركت أنّ علمانيّين كثر قد يفوقونني معرفةً وفضيلةً وأن أجعل من إدراكي هذا منطلقًا لأستزيد منهما، لا أن أكتفي من كهنوتي «بالأهداب الطويلة والمقعد الأوّل في المآدب وصدور المجالس في المجامع وتلقّي التحيّات في الأسواق» (متّى 23: 5-7).
لقد مارس كوستي بندلي كهنوتًا ملوكيًّا أيقظه في شعب رعيّة الميناء إحساسًا بكبر إنسانيّتهم وعظم مسؤوليّاتهم في كنيسة الله، بعد أن كانوا مقتنعين لسنين طوال أنّ الكنيسة هي لرجال الدين والوجهاء والأغنياء. كانوا يخجلون في قول كلمتهم في ما يرونه من شؤون رعيّتهم. حمل قانون مجالس الرعايا الصادر العام 73 ونثره، بمشاركة شقيقه الأب بولس وإخوة لهما آخرين، بين الشعب داعيًا إيّاهم إلى المشاركة في إدارة شؤون كنيستهم، موضحًا لهم «أنّ عضويّتهم فيها لا تقتصر على تلقّي التعليم والإرشاد الصادرين عن الرعاة بل هم مساهمون كلّ المساهمة في كلّ ما يتعلّق بإيمان الكنيسة وحياتها ورسالتها». لقد دعاهم ليكونوا وإيّاه «مملكةً من الكهنة لإلهنا» (رؤيا 5: 10) و«حجارةً حيّة تقدّم نفسها لبناء بيت روحيّ لكهنوت مقدّس» (1بطرس 2: 5). لقد حلم برعيّة تكون «كهنوتًا ملوكيًّا وأمّةً مقدّسةً» (1بطرس 2: 9). قال عنه «حلمًا جميلاً» لكنّه لم يعتبره أبدًا «وهمًا». كان أمله في قانون 73 كبيرًا «شرط أن يطبّق لا بنصّه وحسب بل بروحه أيضًا».
ثمّ أطلق كوستي بندلي في رعيّته مشروع الاشتراكات «ليواكب تفريغ بعض شبّان الميناء ليتعلّموا اللاهوت استعدادًا لرسامتهم كهنةً لرعيّة الميناء». كان طرحه لهذا المشروع منطلقًا من رأيه «في النظام الماليّ المتّبع الذي يطبع العلاقة بين الراعي ورعيّته بشوائب عدّة... ويضفي على العمل الرعائيّ الذي يقوم به الكاهن طابعًا غريبًا عن طبيعته الأصيلة ويشوّه رؤية الناس له».
كانت رعيّته سبّاقةً في تطبيق قانون 73 والنضال من أجله والتيقّظ تجاه محاولة تقزيمه وإفراغه من روحه الإنجيليّة، وفي إطلاق مشروع الاشتراكات. الفضل في هذا يعود إلى كاهن ملوكيّ اسمه كوستي بندلي وكاهن مواهبيّ خادم للمذبح اسمه بولس بندلي ولإخوة لهما في الميناء. لقد لمسنا، عبر هذا التزاوج بين الشقيقين «أنّ الكهنوت الملوكيّ لا يعطّل الكهنوت الخاصّ ولا يتصارع معه، بأيّ حال من الأحوال، ولا يحلّ محلّه»، بل يضرم كلّ منهما شعلة الروح بالآخر ليحوّلا شعب الله «حجارةً حيّةً لبناء هيكل الله الروحيّ».
لاقى كوستي بندلي في إطلاق هذين المشروعين تجاوبًا من الشعب دفعه للاستبشار بمستقبل مشرق. لم يكن الشعب، بالنسبة إليه، مستودعًا يرمي فيه أفكاره لتنفّذ بل مختبر حوار ومشاركة تعلّم فيه بقدر ما علّم.
وماذا بعد؟ لقد أصيب بخيبة كبرى تجاه ما كان يحلم به رغم ما حقّق منه لحين. لكنّه لم يغرق يومًا بخيبة، بل كان، برغم ضعف جسده، يسخّر قلبه وعقله ولسانه المتثاقل، لينبّه من عتاقة ما زالت مستشريةً في بنية الإدارة الكنسيّة، وفي رعاية لا ترى من الأصالة والروحانيّة إلا استنساخًا لما سلف، من دون بذل أيّ جهد لتفحّص فاعليّته وموافقته للحاضر واستشرافه للمستقبل.
إحياء الذكرى عندنا ليست رصفًا لكلمات ودفقًا لمشاعر وحسب. إنّه عيد والعيد في حياتنا امتداد لفاعليّة صاحب الذكرى في الحاضر وعيش لها. على رعيّة الميناء أن تحيا ذكراه عبر إصرارها على تنفيذ قانون المجالس بنصّه وروحه، وإعادة إطلاق مشروع الاشتراكات وتعميمه في كلّ الرعايا والأبرشيّات، حتّى يتحرّر رعاتنا من «التحيّز والمحاباة»، ونبني إرهاصات نظام ماليّ جديد يحرّر الإدارة الكنسيّة، قدر الإمكان، من إملاءات آلهة السلطة والمال. وباسم رعيّة الميناء أدعو آباءنا في المجمع المقدّس إلى استكمال تنفيذ قانون 73 وتعديلاته، واضعين نصب أعينهم ضرورة مشاركة الشعب المؤمن بإدارة شؤون كنيسته.
كثرت دموع كوستي بندلي في سنوات عمره الأخيرة. نحن واثقون بأنّ الربّ سيمسح كلّ دمعة من عينيه، لكن له علينا حقّ أن نشارك الربّ في مسح بعض من هذه الدموع عبر الوفاء له ولفكره.
كلمة الأب ميخائيل (الدبس) في إحياء ذكرى كوستي بندلي.