" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
المطران جورج خضر

كوستي بندلي


كوستي بندلي مهما بلغ من مراتب العقل يبقى الرسول. فقد كان قلبه أوسع من تأمّلاته العقليّة ورسالته أقوى من كتاب. كانت العلاقات الوجدانيّة مسراه وما كان مسراه يحدّه الانتقال من عقله إلى العقول وحسب بل من قلبه إلى القلوب، ذلك بأنّه كان رسالي المنشأ والمعشر. هو من قوم هادين. ولعلّ كنيسته لا تعرف المواقف العقليّة البحتة لكون فكرها دائمًا ملتزمًا. نحن في هذه الكنيسة ما كنّا يومًا مفكّرين ذهنيّين وحسب بل عمّال للكلمة الذي كان من البدء. لذلك أمكن قومًا أن يروا الرجل مجرّد مبشّر وكيف يأتي الكلام في الله غير بشارة تؤدّى في الفرح.

لم ير كوستي بندلي يومًا أنّ العقل قابل الفصل عن الله مصدره. لم يكن يؤمن بأنّ ثمّة عقلاً محضًا ليس إشعاعًا للحضرة الإلهيّة فينا. ولذلك كان المفكّر المؤمن واحدًا إذا صلّى أو كتب أو صمت لكونه متجلّى الله. قد يأمرك ربّك بأن تكتب وقد يأمرك بأن تصمت وفي الحالتين أنت خاضع له.

علمت دائمًا أنّ كوستي بندلي ما كان يعرف نفسه شيئًا، ويدرك أنّه مجرّد ناقل لكلمة إلهيّة تفوقه. ما كان من نذكر اليوم كاتبًا إلاّ لأنّه كان من العابدين وسرّه في عبوديّته لله، أي في محو نفسه عند عتبات الحقّ. كلّ ناسوته أنّه كان إلهيًّا، ذائقًا مجد ربّه منذ هذا الوجود ومقيمًا إذًا في الحقيقة. كانت وحدها تهمه حتّى باتت عروسه الفتيّة المتوثّبة أبدًا. ليس لك أن تسعى إلى كوستي في مجال الزائل لأنّه يقيم في الثابت، في ما يذاق ولا يوصف. هو انفصل عن الزائلات التي فيه ولم ينفصل عن القوّام الذي لا يزول.

لا تسأل كوستي عن العابرات. سله عن الدائم وبهذا يخاطبك لأنّه يعرف. ما كتب لكونه كان مجرّد قارئ للتراث، كتب بما أوحي به له من فوق. كتب من قلب الله. كان كاتبًا عند ربّه، وكنّا نحن نعلم أنّ ما كان يخاطبنا به كان نازلاً عليه. اللاهوتيّون يعرفون ما جاءهم من إلهام وما ابتدعوه. كوستي ما كان يعرف أنّه أتى بشيء. نحن كنّا نعلم. هو احتسب أنّه كان يرى نفسه لا شيء، يدوّن ذلك الفكر الذي نزل مرّة واحدة على القدّيسين. ما كان يعرف أنّه كان له في ما قاله شيء له خاصّ وشيء آخر جاءه من القدّيسين. كان يظنّ أنّه مجرّد مستظهر لما قاله عظام القلوب المطهّرة وأنّه يكسر تواضعه لو خرج عن رؤية نفسه أنّه لا شيء. كلّ شيء ينزل إلينا من طعام القيامة لأنّنا أموات بالخطيئة. كوستي بندلي، لأنّه ذاق الخطيئة قليلاً، كان يذوق البرّ ويطعمه. قال لي أحد الإخوة مرّة إذا جاءتني الخطيئة لتجرّبني كنت أذكر كوستي وأعفّ. إذا كان كوستي مبطلاً للخطيئة فلأنّه كان أوّلاً مبطلاً لكذب الفكر وكذب القول. أظنّ أنّ من أعظم ما حقّقته الحركة أنّها كانت مدرسة للبلوريّة في بلد ركيك في الحقّ.

ما كان لك أن تخرج من لقاء مع كوستي إلاّ مزوّدًا بالحقّ، أي بما هو أبقى فيك من عقلك لأنّه كان يساكن اليقين. تهرب منك هشاشتك فتكتشف قوّامًا ومعه تغدو إنسانًا جديدًا. الذين اصطبغوا بالله يصيرون لابسي الله حتّى لا يبدو منهم إلاّ الله. هذا معنى التوحّد بالله.

مع أمثال الرجل تفهم أنّ صحّة القول عندهم تأتيهم من سلامة القلب وطهارته. ليس في كلّ من هؤلاء إنسان عقل وإنسان قلب وإنسان عمل. كلّ من هؤلاء يأتي من الوجود الروحيّ الذي يعلونا فيكتسب كلّ منّا كيانه من وحدانيّة الله. وحدانيّة الله في كلّ منّا تجعلنا مجتمعين واحدًا. وإذا غدا الله همّك لا تسعى إلى فرديّة تمتاز بها. همّك انتشار الله في الخلائق العاقلة والمعنى أنّ لا إله إلاّ الله في الناس.

كان كوستي بندلي يعامل الناس جميعًا على أنّهم متساوون بالكرامة، فلا يميّز بالعطاء ولو ميّز بالعقل. يعطي كلاًّ منّا بالمقدار الذي يستحقّ ولكن بمحبّة واحدة. هكذا تستطيع أن تحبّ الجميع محبّة واحدة ولو تمايزت المقادير. المحبّة لا تنقسم ولكن لها حصّة عند هذا وحصّة عند ذاك على قدر ما يستوعبون.

المفكّر العاقل يبقى محبًّا ولو ميّز بين الوجوه. العقل والقلب كفّتان في ميزان واحد. المحبّة تسعف العقل، تمدّه بالحرارة حتّى لا يجف. لك أن تكون عظيم العاطفة ومتين العقل معًا. هذان إذا تعاطفا يتوازن المرء.

غير أنّ كوستي كان في مهنته معلّمًا، أي كان يوزّع على الناس بمقادير حتّى يبقى كلّ منهم إلى الحقيقة قريبًا بمقدار رؤيته. والمعلّم يبدّد المعرفة ويحجبها حسب ظروف التعليم ومقادير الاستيعاب. ولم ينس يومًا أنّ المعلّم كاد أن يكون رسولاً لأنّ العقل لا يخلص إلاّ بخلاص النفس. ليس التعليم مجرّد سكب كتب في العقول. هو انفتاح نفس على نفوس، أي أنّه في صميمه حبّ. هذه كانت عند أفلاطون علاقة المعلّم بتلميذه.

العالم من علم أنّه مجرّد ناقل لحقيقة إلهيّة تسكنه يؤدّيها ويؤدّي لها حسابًا. العالم خفيّ عن نفسه، يرى نفسه مرآة حتّى يبدو فقط خالق السماء والأرض. على ضوء هذا ما كان كوستي بندلي يعرف نفسه إلاّ مبلّغًا. لذلك ما كان ينظر إلى ذاته في مرآة إذ كان يلتمس الله في كلّ الوجوه. كان يتعب إذا أردت أن تبديه. يختفي وراء كلمة فوّض تبليغها لأنّ الكلمة كان عنده في البدء. كان في المسار وفي المنتهى. الله لا يرضى كلمة ليس هو ملهمها. والمؤمنون الصادقون لاهون عن كلماتهم العابرة. فإن أخصبتنا الكلمة الإلهيّة لا نلهو عنها إذ نكون قد غدونا إلهيّين.

نذكر الذي كان لا يرى إلاّ إلى وجه الله ويوجد به. كان كوستي مثاليًّا على رؤية الواقع. يحبّ ويقول بآن معًا. يخدم ويستقل. يعلو ويتواضع. يعلو بالعقل ويتواضع بالقلب، راهبًا غير منعزل، معطاء، خادمًا، محجوبًا وعيناه إلى محتاجيها. كوستي لم يترك لنا ذاته. أودعنا الله الذي كان ساكنه فالسلام عليه إلى أن يبعثه الله والسلام عليكم في رحمة الله ورضاه.


كلمة المطران جورج (خضر) في ذكرى إحياء الدكتور كوستي بندلي.