" الفكر عطية كبرى من الله وأحد عناصر الصورة في الإنسان، لذا لا يجوز الكفر به بحجة ما قد يقع فيه من شطط وغرور"
الرجوع الى القائمة
الدكتور نيقولا لوقا- كلمة أصدقاء كوستي بندلي

كلمة أصدقاء كوستي بندلي في لقاء ذكراه


نجتمع اليوم لذكرى كوستي الحبيب، ولنسترجع معًا بعض ما اختبرناه معه من حياة.

نجتمع اليوم، لنستعيد بعضًا ممّا عكسته حياة كوستي علينا من نور.

نجتمع اليوم أيضًا، كيلا ننسى وعدنا الصعب له ... وعدنا الصعب لك يا كوستي. ذاك الوعد الذي قطعناه، أمام أنفسنا وأمام الله، بأن نبقى نتحرّك وأن نحافظ على الحركة فينا، وأن نبقى منحازين للحياة والحقّ وسالكين الطريق.

صديقي الحبيب كوستي، في الحقيقة أنا أخجل من أن أتحدّث عنك، فأنا على يقين أنّني مهما قلت لن أفيك القليل من محبّتك وجمالك وصداقتك.

صديقي، أنا أخجل من أن أتكلّم عليك بعد أن أمضينا أيّامًا طويلةً لا نتكلّم ... ولكن، كنّا نقول الشيء الكثير.

أفضّل عزيزي أن أتكلّم معك وليس عليك، ففي حديثي معك لم أكن لأقول إلاّ الحقّ والصدق.

أيّها الحبيب، نحن هنا لنستعيد بعضًا من تأثيرك المباشر وغير المباشر في حياتنا.

بعضًا ممّا كنت عليه أنت، وما صيّرتنا إليه.

كنت تعلّمنا بالمثل الحيّ.

كنت تحبّ، وكنّا نستدفئ بنور محبّتك.

كنت تناجي الربّ، وكنّا نتعلّم معنى الصلاة.

كنت تناجي الربّ، وكنّا نمتلئ من الكسرات، وكان الخبز يكثر، وكان بحر الميناء يفيض بالسمك.

كنت تقرأ الإنجيل بيننا، وكنّا ندرك أنّه كتاب حياتنا وأنّ بنوره نبصر النور.

كنت تحيا أمامنا ببساطة وتواضع، وكنّا نرى تباشير الملكوت.

كنت تبذل نفسك، وكانت بشائر الخلاص تلوح أمامنا.

كنت تحيينا كمن يمجّد الخالق ... كيف لا، وأنت تعلم أنّ «مجد الله أن يحيا الإنسان».

كنت تحبّنا وتحترمنا وتأخذنا على محمل الجدّ أكثر من أنفسنا، وترى فينا ما لم نعه نحن.

كنت هادئًا وأشعلتنا بالحياة ... والنار ناره.

كنت تناضل، وكنّا نتعلّم التزام قضايا الإنسان والأرض.

كنت تناضل، وكنّا نعي أنّه لا مكان لنا بجانب الحبيب إلاّ إذا كنّا منحازين إلى إخوته الصغار.

كنت دائم التواري خلف وجه السيّد، فلم نكن نبصر عند لقائك سوى وجهه،

كنت خفرًا، وعرفنا معك أنّ الله خفر، ولا يقتحمنا وأنّه لا يصنع ما يبهرنا كيلا ننساق كمن لا بصيرة له.

كنت صبورًا، ولم تكن لتحمّلنا فوق طاقتنا، ولو بدا أنّ في ذلك خيرًا لنا ... كنت تؤمن بحرّيّتنا وتتعهّدها.

وبالحديث عن خفرك وصبرك يحضرني قول فيك، لصديقنا المشترك خريستو المرّ يوم انتقالك إذ قال:

تركتنا ولم تتركنا. ومسيحك رافقنا. والرفقة غدت حبًّا. والحبّ صار حياةً ... وكنت تزرع. لا تقهر بذورًا بماء، ولا غرسةً بنور؛ وكنت تنام وكنت تقوم، ولا تعرف كيف ينمو من ينمو. وكان الصبية يفرحون، وكانت الصبايا يفرحن ... وكانت صلباننا ثقيلةً، ومراهقتنا مليئةً بالله وبالمسامير، وأنت تسمع وتشير إلى الدروب. وكانت الدروب مرسومةً في وجوهنا، وتنضح بياسمين غريب.

وكنّا فرادى، وصرنا واحدًا، وصرنا أصدقاء، وصرنا بشرًا، فوقع الحصى من القلب، وذاب جليد الاختباء، ونبض التراب عن نبع عميق».

هذا ما أوحيت به لصديق صلاتنا.


حملت صليبك وتبعت المعلّم فكانت بينكما وحدة حال.

فأنت أيضًا كمعلّمك كنت تصنع العجائب.

كنّا مخلّعين فشدّدتنا ومتأرجحين فثبّتّنا.

كانت أحمالنا ثقيلةً، وكنّا نأتيك بها فتعيلنا.

كانت المسامير صدئةً في أيدينا، فصببت خمرك وزيتك عليها ... ودعوتنا إلى اقتلاعها.

كنّا نتألّم، وكنت تترجم الإنجيل زيتًا وخمرًا تسكبه في أرواحنا.

كنّا نعاني جهلاً، فكان فكرك يفيض كتبًا تردم الجهل فينا.

كنت تكتب حروفًا، وكنّا نبعث أرواحًا.

كنّا نستغيث، فتفيض علينا من حبّك وحنانك، فتشعّ وجوهنا.

كنّا معصوبي الأعين، فنفخت فينا من روح الربّ، فأصبح باستطاعتنا أن نرى ... حتمًا إن أردنا.

كانت جبال وصخور تربض على صدورنا، فأريتنا أنّنا أكبر من الجبال وأنّه لو أردنا لرميناها في البحر، وما جزر الميناء إلاً بعضًا منها.

عزيزي، غالبًا ما كنت وحيدًا ولم تكن أبدًا في عزلة،

كنت في العالم ولم تكن منه، «كنت طائرًا يغرّد خارج سربه، فهاجرت إليك أسراب الشباب.

كنّا نرمي تساؤلاتنا وهواجسنا عندك ونرحل، وكنت تبحث وتدرس وتحلّل وتصلّي وتعود وتلقانا، وتنقل لنا ما توصّلت إليه وتشكرنا ... لأنّنا وجدنا الإجابة.

كنت العالم والدارس والمبتكر ذا الذكاء الحادّ وكنت تشعرنا أنّك هنا لتتعلّم منّا.

كنّا ننذهل أمام محبّتك وعلمك والتزامك، وكنت في كلّ مرّة تفكّك الأسطورة التي ننسج حولك.

لم تدعنا لحظةً واحدةً ننبهر بما لك وبما عندك، لأنّك كنت تحيا أنّه ليس لك إلاّ ما أنزل عليك من عل.

كنت تتواضع وكنّا نرتقي.

كنت تتواضع وكنّا نرتفع وكلّما ارتفعنا كنّا نجدك أمامنا.

كنت ذاك الباب الذي يفتح في الاتّجاهين: فإذا ما قرعناه، يفتح لنا الرب فننذهل، وكان الربّ واقفًا في الجانب الآخر يقرع وينتظر بحنان أن نفتح. فإذا لبّينا النداء كانت تنساب إلينا أشعّة من ملكوت، وكانت تدبّ فينا حياة ويغمرنا فرح.


كان كلّ هذا، وفي كلّ مرّة كنت تؤكّد أنّنا نحن من يصنع العجائب.

كنت يا صديقي دائمًا تترجّى أن تكون قصبةً تنفخ فيها الألحان السماويّة فنبعث.

لم نكن نعلم من يصنع الأعاجيب ولكنّك جعلتنا على يقين من أنّ لكل منّا دوره، إرادتنا والقصبة والروح النافخ فيها ... نحن والباب والذي يقف خلف الباب بثبات وحنان.


حاربت الطائفيّة وأظهرتها ورمًا في جسد الإنسانيّة.

حاربت الطائفيّة، وعرفنا أنّه علينا أن نختار بين يسوع المحبّة ويسوع الأمم والإجرام والتقوقع.

فتشّت عن الله في كلّ مكان وصقع وكم صرخت أنّه مالئ الكلّ.

بحثت عنه في العلوم الإنسانيّة والعلوم البحتة، بحثت عنه في الإنجيل وفي كتب العهد القديم وفي القرآن وفي كتابات طاغور ومواقف غاندي ولاهوت التحرير وفهمنا معنى أنّ «الروح يهبّ حيث يشاء».


أحببت الفقراء، فأزهرت الحركة مشاريع محبّة للقريب وكسوةً للعيد وهيئة طوارئ وإغاثة، ونجومًا ذهبيّةً توزّع بتساوٍ على كلّ من قبل الدخول في كوكبة الحبّ.

كنت ترى الحركة كخليّة حياة ملكوتيّة وصرنا نحيا على: «ليأت ملكوتك».

كنت ترى في الحركة فتاتًا من نور وبتنا ندرك أنّنا شركاء في: «ليأت ملكوتك».

عزيزي كنت تعرف دائمًا من هو الطريق والحقّ والحياة.

كنّا نرى فيك الكثير منه، وكنت تصوّبنا دائمًا نحو الذي هو بالمطلق الطريق والحقّ والحياة.

صديقي، شكرًا لك لأنّك لم تدّخر لحظةً إلاّ وأرشدتنا إلى المسيح ولم تدّخر لحظةً إلاّ ووجّهتنا إلى وجهه المحيي.

شكرًا لك لأنّك لم تدعنا لحظةً واحدةً نتعلّق بك ... كيف لا وأنت كحبيبك محرّر ومطلق.


كنت المبدع والمجدّد الدائم والباحث الذي لا يعرف الكلل، وعرفنا أنّه لا يمكن أن نستكين أو أن نمارس التحنيط والاجترار بحقّ الكنوز التي أورثتها لنا الكنيسة، وعرفنا أنّنا ملزمون بالابتكار والتجديد مع المحافظة على الجوهر، وإلاّ فنحن خونة لروح آبائنا الخلاّق والمنير.

عرفنا من صومك أنّنا نصوم لا لنعذّب أجسادنا، وإنّما لنقول للربّ أنت أجمل وأبهى من عطاياك.


صديقي كنت ترفض إعطاء وصايا، فحياتك وكتبك كانت مفتوحةً أمامنا ومن أراد فليأخذ ما رغب. ولكن في بعض الأيام، وبخاصّة عند اشتداد المرض عليك، كنت تردّد عليّ ما يشبه الأمنيات، وغالبًا ما كنت تعود إلى أمنيتين:

- أن نهتمّ بالحركة لكي تبقى بؤرة نور تحتضن أحبّاء يسوع وإخوته.

- وأن نجابه التعصّب الأعمى والطائفيّة في هذا البلد المدمّى، وأن نتصدّى لتغلغلها في صفوفنا وبخاصّة عند اشتداد المحن.


نعم يا صديقي، وبكلّ بساطة، كنت تحيا وكنّا نتعلّم.

كنت تعمل للحقّ وكنّا نتحرّر ... معك اختبرنا أنّ الحقّ يحرّرنا.

أيّة نعمة نلنا، إذ إنّه أصبح لنا شفيع لدى الربّ ... شفيع يعرفنا وينادينا بأسمائنا.

أيّة نعمة هذه التي تطلقنا أحرارًا، وبملء حرّيّتنا نتعهّد أن نبقى نتحرّك، وأن نحافظ على الحركة فينا، وأن نبقى منحازين للحياة والحقّ وسالكين الطريق.


أيّها الحبيب، الأيّام تمرّ وشوقنا يزيد الى ابتسامتك المرحّبة، وإلى وجهك السموح.

أشتاق إليك صديقي وأحنّ إلى صلاتك.

نفتقدك صديقًا صدوقًا، ونطمح إلى أنّك شفيع لنا عند الربّ.

شفيع يعرف ضعفاتنا وهزالتنا وتفاصيل حياتنا.

تشفّع لنا كما كنت تذكرنا في صلاتك الصباحيّة كلّ يوم.

تلك الصلاة التي كنت تنثرها كلّ يوم عند أقدام السيّد على شاطئ البحر.


أيّها الأحبّة، قد نحسب نحن الذين عايشناه، أنّ كلّ هذا مجد لنا ... طبعًا نحن نفرح بما اختبرنا معه، وطبعًا نحن محظوظون بصداقته. ولكن حذار أن نضلّ الطريق عمدًا، فلن يكون بإمكاننا أن نقول إنّنا لم نعرف ولم نسمع ولم نر ولم نتنشّق عطر الملكوت بقرب كوستي بندلي.

إلى اللقاء «حبيبنا أبو إسكندر»



[1] كلمة الدكتور نقولا لوقا في إحياء ذكرى كوستي بندلي.