كلمة الوزير رشيد درباس
في ذكرى الدكتور كوستي بندلي
في إحدى حصص علم النفس، أخرج ورقة بيضاء، ولطّخ نصفها بالحبر عشوائيًّا، ثمّ طواها فانطبع على نصفها الثاني الشكل الذي اتّخذه مسيل الحبر. ثمّ راح يعرضها بحالتها الجديدة على الطلاب، ويسألهم عمّا توحي به إليهم، حتّى إذا وصل إليّ، سألني بصوته الودود:
Qu’est-ce que vous inspire cette figure?
:فأجبته
Deux formes symétriques
:فامتعض... وقلّما كان يمتعض... وعلّق، بتهذيب شديد
Mais c’est une vue superficielle.
أحسست يومذاك بوخز الإهانة. لكنّني، على مرّ العمر، اكتشفت أنّ إحساسي كان خادعًا، وأنّ ذلك الوخز لم يكن سوى وخز اللقاح ضدّ وباء التسرّع والعفويّة، ورؤية الأمور من غير تروّ وإمعان نظر
ومذّاك، على مدى أكثر من نصف قرن، ما هممت يومًا بإبداء رأي أو الإقدام على أمر، إلاّ شكّني ذلك الشعور القديم، فكأنّه إبرة الطبيب، أو الكفّ الممسكة بالزمام، تلجم اندفاعي، وتروّض مزاجي الناريّ، أو أنّه الصوت العميق الخارج من غور الذاكرة عند كلّ منعطف، القائل بهمس حازم: إيّاك والتسرّع... إيّاك والوقوع في حبائل ظواهر الأشياء.
ذلك هو كوستي بندلي.
ابن إسكندر بندلي، قيدوم إخوة نذروا أنفسهم للمسيح المشرق على وجوه الفقراء، وربيب عائلة يدنيها ثمرها من الناس، ومضافة أخلاق منزّهة عن الغرض والعرض، ورفوف مكتبات ذات درر فريدة، ونهر يهب الأخضر من دون منّة، ويخضور يملأ الرئات بالإيمان، وسراج منير ينساب إلى العقول بأيسر ممّا قذف الله في صدر الإمام، ولسان عرب كما ابن منظور، ورهافة أدب كفيكتور هيغو، وصدقة جارية أسلست خيرها سحابة سبعين سنة خلت، فما انقطع لموت أو مرض... لأنّ عطر الياسمين يبقى حضورًا في الغياب كما يقول الشاعر، والأستاذ كوستي يبقى كذلك بارقًا خلف نقاب وضباب.
أيّها الحفل الحزين،
ما رأيكم بأولاد لم يبلغوا العشرين، تأخذهم «الليبيدوو» وهم يسمعون بها لأوّل مرّة على لسان أستاذهم المحتشم، يشرحها بلا تورية، ويعرض عليهم بنزاهة علميّة مبسّطة جوهر فكر سيجموند فرويد في علم النفس... هل لكم أن تتخيّلوا، صبايا وشبّانًا يعاقرون المراهقة وتعاقرهم، في صفّ واحد، أمام أستاذهم الرصين الرزين، وهو يشرح لهم كيف يرى ذلك العالم الشهير إلى الجنس كمحور التطوّر النفسيّ عند الإنسان مذ هو نطفة في رحم، حتّى مصيره جثّةً في لحد؟ هل لكم أن تعودوا معي إلى ذلك الوقت الذي كان يفسّر فيه شغف الطفل بامتصاص إبهامه، من غير أن تخرج من أيّ منّا همسة ذات مغزى أو تعبير خبيث أو نبسة شاردة؟ ذلك هو العالم الجليل الذي يروّض جموح تلامذته بالعلم لا بالقمع، وبالبشاشة لا بالجهامة، ثمّ يتركهم... بعد أن تطمئنّ نفسه إلى أنّه فتح في داخل كلّ منهم نوافذ للتأمّل والبحث عن الذات، والتفسير الصائب للمشاعر التي تعتريهم...
أكاد أيّها الراحل اللطيف أنزلق إلى ما هو خارج النطاق، إذ أجدني مقدّمًا أوراقي، أنا، هويّةً وطباعًا، ونفسًا بما كسبت، لهذه النخبة الراقية؛ فيما المناسبة مناسبتك. ولكن هل أنا إلاّ من تلك الحقبة المضيئة التي ساهمت في كتابتها مع المثلّث الرحمة أخيك عالم الفيزياء الذي سبقك إلى الماوراء، ومع رسل لن أذكرهم، لأنّهم غنيّون عن التنويه، إذ كلّ تلامذتهم المنتشرين علامات تنوّه، وإشارات تدلّ، وقلوب تحفظ لكم جميعًا ما تفانيتم في تحفيظهم إيّاه...
أبلغ الحديث عن الآخر حديث المرء عن نفسه المستولدة من ذلك الآخر... ولهذا أعود بكم ثانيةً إليّ. جاءنا في امتحان الفلسفة سؤال عن الأحلام. فجرّني القلم إلى شرح أحلام اليقظة، واستغرق ذلك قسمًا كبيرًا من الجواب. وبعد الخروج تداول الطلاّب في ما كتبوه، فأصابني إحباط هائل، إذ أجمع الزملاء على أنّي خرجت عن الموضوع. وكذلك فعل بعض الأساتذة.. وفي المساء رآني مكتئبًا بائسًا، فسألني عمّا بي، فأشرت إلى خروجي عن الموضوع، فانتفض وسأل: «من قال لك هذا؟».. قلت له: «الأستاذ فلان»، فقال «تشرّفنا».. ثمّ أضفت: «والأب فلان»، فقال «الله يسامحه»، ثمّ أردف.. «يا رشيد، أحلام اليقظة هي سرّ تطوّر الإنسانيّة، وسرّ نجاحك أيضًا في شهادة الفلسفة».
وما زلت أذكر أيضًا درسه عن الكلمات، وقد تلبّسني ما شرحه ولم يزل.. إذ لفتنا إلى أنّ الكلمات وعاء الفكر لا أصله، والجملة وسيلتها لا غايتها، وعلى هذا فلا مجال للحديث عن بلاغة القول إن لم تكن البلاغة في الرأي، وختم: لا يوجد خطاب غامض أو خطاب واضح.. بل أفكار غامضة أو أفكار واضحة. ولقد مارست الكتابة والمحاماة من هذا المنظور، لكنّني الآن أضيف أنّني أستشعر في نفسي بلاغةً استثنائيّة، لأنّ عرفاني بجميله بالغ الوضوح..
أيتها النفس التي تحار فيها العقول، هاك كوستي يكشف عنك نقابك ويفشي أسرارك ويقول: إنّك بنت الجسد وحياته في آن. فليس الإنسان حاصل الجمع بين روح وجسد، ولكن
C’est une âme incarnée dans le corps, c’est un corps animé par une âme.
ثمّ يقدّمك، أيّتها النفس، ضيفة عزيزة للمتبصّرين، لا لجًّا غامضًا يغوص فيه المنجّمون والمبصّرون...
رحل قدّيس من الميناء.. فودّع هذا الثغر نسيمه العليل. لكنّ الهواء الساقط عن ذروة الشراع، ما زال يحمل ترجيع النواقيس وهتاف المآذن، وصلوات البحّارة الفقراء، وانحناءة الرحيل أمام بقائه الباسق.
كوستي بندلي أشبه بالبحر الذي قربنا... تخبط منه الموجة على الصخر فتبدو كأنّما انكسرت وضاعت، فإذا هي، إلى غير انقطاع، مقيمة في عبابها الزاخر. وروحه التي تنصّلت بوداعة من هيكل الخلايا، تسرّبت بكثافة إلى هيكل الذاكرة؛ ولعلّها حيث استقرّت تلقي على تلامذة آخرين دروسًا أخرى.. عاش في الظلّ بملء إرادته، ومات في الظلّ وفقًا لوصيّته، وشارك الصدّيقين في صفاتهم. فارتقى إلى مرتبة القداسة كواحد من أولئك الهدوئيّين الذين تمثّل، في وداعته ولين معشره، تراثهم الروحيّ. وإذا كان القدّيس يطوّب بما له من مكرّمات، فحسب كوستي مكرمةً أنّه ثقّف النفوس قبل العقول، وزرع الإيمان بذارًا موصلاً إلى سدرة المنتهى، المفضية إلى رؤية الوجه النورانيّ.
في حديث عن الرسول العربيّ الكريم (ص):
«إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلاّ من ثلاثة: صدقة جارية، أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له..»
فيا معلّمي إنّ عملك لن ينقطع: لا من صدقات جاريات، ولا من علوم بها ينتفع، ولا من أولاد صالحين.. ما أكثرهم عددًا.
السرّ أن تحيا كمن ليس يموت كالشجرالمعمّر الصموت.